في ديوان الشاعر عبدالله البردوني تلتقي الكلمات لتصنع عالم الشاعر في أقل من طرفة عينٍ، هكذا أسمع همس الحروف التي لا تكاد تغادر قاموس اللغة حتى تتفتح لها حيوات أخرى في ظلال المعاني، حيث لا معنى يتراءى للقارئ الا هناك في قريةٍ نائية، تحسن الاصغاء الى نشيد الوقت. إنه أنت ،إذن، تُحدِّثُ نفسك في هكذا ليلة، قد لا تشبه “ليالي الجائعين” ؟!
أنت هو، من “أرض بلقيس”، أليس كذلك؟. لا، لا تقل هذا أرجوك، فقد يُلزمك البعض الحِجَّة بقوله ” هذه أرضي”، عندما تحاول عبثاً الرحيل، تتنفس عبير الكلمةِ، تُكسَّر الصمت المحدِّق في عيون الفراغ، “في الليل” هُنا . ألست القائل في كوخ الجائعين:
لا شفق حولي و لا اشفاق إلا المنى والكوخ والاخفاق
البردُ والكوخ المسجَّى والهوى حولي وقلبي والجراح رفاقي
وهنا الدجى يسطو على كوخي كما يسطو على المستضعف العملاقُ
فلمن هنا أصغي؟ وكيف؟ وما هنا
إلا أنا والصمتُ و الاطراق
حسناً، هل هذا كل ما يتراءى لك في الليل شاعرنا؟. ماذا عنك و أنت “تحت الليل”؟!
حالك لا يختلف كثيراً، فـ لطالما تخاطب السائل بقولك:
” لا تسل عني و لا عن ألمي فلقد جلَّ الاسى عن كلِمي
و تعايا صوتي المجروح في عنفوان الألم المضطرم
ضقتُ بالصمتِ و ضاق الصمتُ بي بعدما ضاقت عروقي بدمي
فدعْ الـتسـآل عمَّا بي فقد
ألجـمتْ هيمنةُ الصمتِ فمي
وتهاديتُ كأني أملٌ يرتمي فوق بساط العدم
ودمي يصرخ في جسمي كما تصرخ الثكلى ببيت المأتم ”
إنه في إصراره، لا يختلف عنه كثيراً في هدوئه. أو “هكذا قالتْ” . مَن هي؟
إنها “ليالي الجائعين” ـ مرة ثانية ـ كما يحكي عنها (مغنَّي الهوى) حين يُقدّم (ترجمة رملية .. لأعراس الغبار) .! نعم، إنه الغبار “آخر الموت”، بعدها يطلُّ النفي برأسه :
” ليس بيني و بين شيءٍ قرابهْ عالمي غربةٌ زماني غرابهْ
ربما جئتُ قبلُ أو بعدَ وقتي أو أتت عنه فترةٌ بالنيابهْ”875
ف يقول قائل: لماذا كل هذا التشاؤم؟ أهي لعبة الشعراء؟ أم أنها الحقيقة تكشفُ. أسمعُ صوتاً: اسكتْ. اسكتْ. ثُمَّ أواصل: تكشف عن ماذا؟. أنا لا أريد القول: إنها تكشفُ عن ساقيها، فهي قطعاً لا تنوي إغراء الشاعر حقيقةً، إذ هو ثابتٌ على موقفه، كما نعهده، ولن يتزحزح قيد أُنملة. و رأيه في العالم يلخصه في قوله:
“أمطر الغربُ على الشرقِ الشقا
وبدعوى السَّلم أسقاه الحماما
فمعاني السلم في ألفاظه
حيلٌ تبتكر الموتَ الزؤاما”63
ولأجل ذلك وجد نفسه يعيش في “زمان بلا نوعية”، دائماً يسيرُ وفي فمه (أغنية من خَشَب)، ولا نظن لإنسانٍ يقول لصاحبه “أنا الغريب”158، فكلاهما يُبرر غربته، يشرحُ، يوضّح:
” أنا وحدي الغريب وأهلي عن يميني وأخوتي عن يساري
وأنا في دمي أسيرٌ، وفي أر ضي شريدٌ مقيد الأفكارِ
وجريح الإبا قتيلُ الأماني وغريبٌ في أمتي و دياري
كل شيء حولي عليَّ غضوبٌ ناقمٌ من دمي على غير ثارِ
الآن ـ فقط ـ يتلفت يمنةً ويسْرهْ: ما هذه البيوت؟ يُجيبه الشاعر:
“هذي البيوت الجاثمات إزائي ليلٌ من الحرمان والادجاء
مَن للبيوت الهادمات كأنها فوق الحياة مقابر الأحياءِ
تغفو على حلم الرغيف ولم تجدْ إلا خيالاً منه في الاغفاءِ
وتضمُ أشباح الجياع كأنها سجنٌ يضم جوانح السجناءِ
وتغيب في الصمت الكئيب كأنها كهف وراء الكون والأضواءِ
خلف الطبيعة والحياة كأنها شيءٌ وراء طبائع الأشياءِ
ترنو إلى الأمل المولي مثلما يرنو الغريق الى المُغيث النائي
وتلملمُ الأحلامَ مِن صدرِ الدجى سوداً كأشباح الدجى السوداءِ”
أوااه: لماذا البيوت تحديداً؟ ألم يكن كافياً الإشارة الى ساكنيها. لماذا هؤلاء؟ سمهمْ بأسمائهم . لقد ذكرتَ لنا أحوالهم، وظللتَ تؤكِّد ما أنت عليه، ولسان حالك: “إلا انا وبلادي”584، ولاتزال لُغتك أيها الشاعر هي هي. تضعنا بين نارين، تُنسينا ما نظنها لحظة الاقتراب مِن (أسمار القرية)، فهي البلدة التي تغنيت بجمالها كثيرا. لكن أيّ جمالٍ هذا الذي تخدشه الأسماء (المقيَّدَة) في 584:
“تسلياتي كموجعاتي، وزادي
مثل جوعي، وهجعتي كسهادي
وكؤوسي مريرةٌ مثلُ صحوي
واجتماعي بإخوتي كانفرادي
والصدقات كالعداوات تؤذي
فسواءٌ من تصطفي أو تعادي
إن داري كغربتي في المنافي
واحتراقي كذكريات رمادي
يا بلادي! التي يقولون عنها:
منكِ ناري ولي دخانُ اتّقادي
ذاك حظَّي لأن أمي (سعودٌ)
وأبي (مرشدٌ) وخالي (قمادي)
أو لأني دفعتُ عن طهرِ أختي
وبناتي مكرَ الذّئاب العَوادي
أو لأنّي زعمتُ أن لديها
لي حقوقاً من قبل حق (ابنِ هادي)”
ما هذا؟! لقد عاد دوي الصمت من جديد، به نتمكن من معرفة الليالي، وتبقى المنازل هي المعبرة. ألستَ القائل:
” هذي البيوت النائمات على الطوى
نوم العليل على انتفاض الدائي
نامت ونام الليل فوق سكونها
وتغلفت بالصمتِ والظلماءِ
وغفتْ بأحضان السكون وفوقها
جثث الدجى منثورة الاشلاءِ”
الآن دعنا نفهمُ، فأنت بالأول وصفت لنا تلك البيوت الجائعة، وما يعتمل بين الجدران، حيث الجوع بأنواعه كافة هو المسيطر، لتكون أمامنا صورة صادقة، تنقلنا الى القسم الثالث من المصيدة، اقصد القصيدة عفواً، حيثُ نمضي سوياً: ننادي نخاطب الليل، نستمع الى شهادته، نحدد المسافة: بيننا وبينه، وبينه والشاعر الذي نجده في الليل يؤكد وحدته:
“لا مشفقٌ حولي ولا اشفاقُ إلا المنى و الكوخُ والاخفاقُ
أَالبردُ والكوخُ المسجَّى والهوى حولي وقلبي والجراحُ رفاقُ
أغفى الوجود ونام سمارُ الدجى إلا أنا والشعرُ والأشواقُ
وهنا الدجى يسطو على كوخي كما
يسطو على المستضعِف العملاقُ
فلمنْ هنا أصغي؟ وكيف؟ وما هنا إلا أنا، والصمتُ، والإطراقُ
دي هنا في الليل ترتجف المنى حولي ويرتعش الجوى الخفَّاقُ
وهنا وراء الكوخ بستانٌ ذوتْ أغصانه وتهاوت الأوراقُ”
لكنه الليل، (قيل يغشى بيوت صنعاء صباحاً). قلتَ صباحاً!! رجاءً قف بنا يا شاعرنا عند هذا، فالوقت يداهمنا، و لديه الرغبة لمعرفة “علامات العالم المستحيل”، الذي خصصت له مساحة لا بأس بها، في أعراس الغبار. وهي مساحة متماهية تعكس (هذا اليأس) الذي ظهر تالياً، تحت عباءة السؤال، أو قل عباءة (عباءة الإفلاس)، ويستمر السؤال عن اليأس:
تُرى: من أين مأتاه؟ وما يطوي من الوسواس
أراه فوق مَنْ قاموا وتحت ملامح الجلَّاس
هناك يلوح، سلطاناً وشيطاناً هنا، خَناسْ 1053
هاه شاعرنا: إذا كانت المسألة مسألة ملامح، فيكفينا ما تفضَّلتَ به عن: جيران كوخك، مع الليل، والنداء (المرّ)..
ياليل مَن جيران كوخي؟ مَنْ همُ مرعى الشَّقا و فريسة الأرزاء
الجائعون الصابرون على الطوى صبر الرٌّبا للريح والأنواء
أخيراً، ماذا لو اقتربنا من صحبك، و سألناكم: مَن القائل وما المناسبة، وهو سؤال على شاكلة ما يُطرح في المدارس ـوإن كنت تؤكد متعجبا، مستنكرا، محذرا:
هل عند الكليات سِوى جهلٍ، عن خبثٍ علماني؟
عن نهج استعمار الآتي صدِّقْ، أو قل: ما أغباني ـ …. يقولُ الشاعر:
(متعَباتٌ خُطاي على الرمل
مرهَقةٌ كلماتي،
كأنَّ الحروفَ مُدىً و دماملُ،
موغلةٌ في عروقي
تمزّق صدر النهار
تضاعف من زحمة الليل “تشرخني”)ُ ..
في واحدة من أكثر لحظات الصمت حدة، ينطفئ الحرف، ويوشك اللسان أن يبيح بما عنده، لو انه يستطيع، لفعل ما كان يرجوه، لكنها الحتمية؛ تضعنا في مواجهة مَن لا نريد ـ أحياناً ـ، ويمتشق الحرف، يخرج من أصابعه يشق طريقه، لا يهم إنْ كانت اليمين، أم الشمال، هي صاحبة الفضل في إفساح المجال أمام الحرف المترنح. فأنت جعلت الكلمة أداة للتمرين، على قول الكلام،4 خارج دهاليز الكتابة، فـ تكفينا الإجابة، وقد ارتسمت لا، بفعل فلتة غير مقصودة، لنبحث سويا عن إجابة شافية، تضمن لنا الفوز بالجائزة، هذا من ناحية، أما الثانية فهي نوع من الدردشة، وكفى .. كتلفُّتِ الذكرى الحميمهْ
كذهول أيام الهزيمهْ
كفرار محكومٍ عليهِ
كزوجةٍ أمست غريمهْ
كـوثـوب مزبـلـةٍ، لها