عبد الرحمن مراد

الخطاب الشعري الساخر عند البردوني بين حيلة الفن وبلاغة المقموع

 

 


جاء في قاموس مختار الصحاح في “سخر ” قوله : سَخِرَ منه من باب طرب وسُخُرا بضمتين ومَسْخَرا بوزن مذهب .
وقال الأخفش سخر منه وبه وضحك منه وبه وهزئ منه وبه كل يقال , والاسم السخرية بوزن العشرية , والسُخْري بضم السين وكسرها وقرئ بهما قوله تعالى ” ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ” وسخَّره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة , والتسخير ايضا التذليل , ورجل سُخْرَة كسفرة يسخر منه وسُخَرَةُ كهُمَزَة ٍ يسخر من الناس .
وقد جاءت مشتقات الجذر ” سخر ” في القرآن بنفس الدال الوارد في القاموس أو حامت حوله فهو في قوله تعالى ” لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ” ( الحجرات /11) وقوله : ” زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ” (البقرة /212) وكلتا الآيتين تشيران الى معنى الاستهزاء والإهانة التي لا تكاد تفارق دلالة التحقير , وتلك الآيات تأتي في موازاة آيات أخرى كقوله تعالى : ” ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ” التي دلالتها وفق سياق النص الترويض والتوجيه الى مقصد أو غاية , ووردت الكلمة في القرآن على صيغة استفعل للدلالة على المبالغة في السخرية كقوله تعالى : ” وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ” (الصافات / 14) وكل هذا التموج في الدلالات لا يبعد عن الدلالة اللغوية ولا عن المدلول الاخلاقي في مستوياته المتعددة التي تراوغ حتى تنفث ما في الصدر من ضيق وتنذر ورفض وهو الأمر الذي يجعل من السخرية قيمة ملازمة للوعي الكتابي عند الشعراء والكتَّاب وقد نجدها عند العامة أكثر منها عند الخاصة , ومن خلال العامة وشيوعها فيهم وصلت إلى خواص الكتاب , إذ ثمة من يشير إلى رسالة “التربيع والتدوير” للجاحظ ويرى فيها وعيا كتابيا ساخرا ومن الجاحظ إلى غيره لتصبح وعيا يتزامن للدلالة على حركة ثقافية مقاومة لجبروت اللحظة ورق الزمن فالكاتب من خلال هذا الأسلوب الكتابي ينتصر لذات مهزومة في داخله , وقد شاع هذا الأسلوب في عصر النهضة وكان أكثر شيوعا في زمن الأنظمة الثورية القمعية , ولم تكن بمنأى عن ذلك فقد تفاعلت مع محيطها العربي الثقافي والسياسي وكانت صدى لتموجاته ,ولذلك فقد تأثرت بما كانت تلوكه أسنان المطابع في بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق وقد ترك ذلك التفاعل أثرا وضحا في المشهد الثقافي اليمني.
* الخطاب الشعري الساخر عند البردوني :
أصبح شائعا عند أهل اليمن أن بيئة ذمار – البلد الذي نشأ فيه البردوني – بيئة تنكيت بامتياز لا يقارن , وهي في كل النصوص التي تبدعها في مجال التنكيت على طرفي رهان مع صنعاء , وكلا المكانين عاش البردوني بهما وتشبع من مخزونهما الساخر , وكان البردوني نفسه صاحب نكتة ومن مبدعيها ويروي الوسط الثقافي اليمني عنه الكثير من النكت , وقد يلاحظ المتابع للنشاط المصور للبردوني في محاضراته وحواراته وفي معرض النشاط الشعري الذي يقيمه في المنتديات والمهرجانات ميلا للبردوني إلى الترويح والسخرية الهادفة والضاحكة , وذلك شائع عنه , فالبردوني يراوغ كل المحرمات ويناوشها ولا يكاد يترك شيئا إلا ويقرعه بحيل السخرية ابتداء من ذاته ومرورا بمجتمعه وانتهاء بالسلطة التي لم نشهد له تصالحا معها , فهي في كل نتاجه الشعري قمعية ولذلك يبدو كشاهر سيفه في مقارعتها وتقليم أظافرها وذلك ما يجعل من الأسلوب وعيا كتابيا ملازما لمشروعه الشعري ومشروعه الإنساني والثوري الذي يبدو واضحا في إرثه الكتابي بشقيه الشعري والنثري ولذلك سوف نتتبع في هذه الدراسة مسار خطابه الساخر وفق التسلسل الزمني للمنتوج الابداعي ووفق إرهاصات الزمن الذي كان حافزا في بعثها وتشكلها في الوجداني الشعري البردوني .
* عتاب ووعيد :
“عتاب ووعيد ” نص شعري هو أول نص نرصده في الديوان الثاني للبردوني ” في طريق الفجر ” وقد ذيله الشاعر بتاريخ 1جماى الآخرة سنة 1380هجرية وفيه يخاطب الحاكم يومئذ أحمد حميد الدين , ومن خلال توالي الصورة المشهدية للنص التي ترسم علاقة الذات بالحاكم , وهي علاقة غير سوية تتنازعها حالتان هما حالة الشعور بالتفوق وحالة الانكسار والقمع والتسلط والقهر وهي تمثل استجابة ضمنية لحركة النهضة وكتابها ككتاب طبائع الاستبداد للكواكبي, فالذات كما يتجلى ذلك في النص جعلت من الحاكم موضوعا للتندر والهزأة أو مسخرة تتوعده بقدرتها على الانتصار عليه في غدها يقول في النص :
لماذا لي الجوع والقصف لك
يناشدني الجوع أن أسألك

وأغرس حقلي فتجنيه أنت (م)
وتسكر من عرقي منجلك

لماذا وفي قبضتيك الكنوز
تمد إلى لقمتي أنملك

وتقتات جوعي وتدعى النزيه
وهل أصبح اللص يوما ملك
لماذا تسود على شقوتي
أجب عن سؤالي وإن أخجلك
ولو لم تجب فسكوت الجواب (م)
ضجيج يردد ما أنذلك
***
فالصورة التي تبدو في الخطاب الشعري في النص ترسم المستبد في صورة لص يسطو على قوت غيره , وهي صورة شعبية تهدم قداسة الحاكم في التصور الذهني الشعبي , وهذه الصورة لا يمكن تصويرها كهجاء كما كان يدأب الشعراء عليه في الماضي , ولكنها محاولة وعي كتابي بتحديث علاقة الفرد والمجتمع بالسلطة , تتجاوز القديم لتبدع واقعا جديدا :
غدا سوف تلعنك الذكريات
ويلعن ماضيك مستقبلك

ويرتد آخرك المستكين
بآثامه يزدري أولك

ويستفسر الإثم أين الأثيم ؟
وكيف انتهى ؟ أي درب سلك ؟
***
* ضائع في المدينة :
الخطاب عند البردوني يتجاوز مدلول الهجاء التقليدي بكل مضامينه النفسية والاخلاقية والسياسية ولكنه يؤسس لحالة ثورية جديدة من خلال الصورة الساخرة التي أبدعها في سياق النص العام في البعد الرأسي أي في تحديث العلاقة مع الحاكم أما في البعد الأفقي فقد أوحت الحالة الثورية التي عاشها الشاعر في عقد الستينات من القرن الماضي بمجموعة من النصوص التي تنوعت في أساليبها بين الفني الجاد والساخر الهازئ والساخر , وسنقف عند نصين شعريين هما ” لص في منزل شاعر ” و” ضائع في المدينة ” , النص الأول كتبه الشاعر في نوفمبر 1966م وهو يسرد – حسب إيضاح الشاعر نفسه في أمسية شعرية في الدوحة – قصة لص دخل منزله وكان ينوي سرقة بيت مجاور لبيت البردوني , وكان مشهورا بالثراء , والنص يصور حال المجتمع يومئذ حيث يقول في أسلوب ساخر :
أرأيت هذا البيت قزما لا يكلفك المهارة
فأتيته ترجو الغنائم , وهو أعرى من مغارة
ماذا وجدت سوى الفراغ وهرة تشتم فاره ؟
ولهاث صعلوك الحروف يصوغ من دمه العبارة
لم يبق في كوب الأسى شيئا حساه إلى القرارة
يا لص عفوا إن رجعت بدون ربح أو خسارة
لم تلق إلا خيبة ونسيت صندوق السجارة
***
في هذا النص لا ينكر الشاعر في مجمل خطابة الرذيلة الأخلاقية التي كان عليها اللص، بل سرد الواقع سردا تفصيليا في صور ساخرة تنكر ضمنا ما وصل المجتمع الثوري , فالصور في تواليها وتداعيها الذهني ترسم واقعا فقيرا متدنيا لم يكن عند مستوى الطموح الثوري لذلك جاء الخطاب منددا به وثائرا عليه لكن بصور ساخرة تستفز الذات من داخلها وتجعلها لا تتقبل الهزائم الأخلاقية لوقوفها في حالة التضاد مع مصفوفة التطلعات في العيش الكريم وفي الرفاه وهو ما يؤكده نص “ضائع في المدينة ” الذي يقول فيه :
سوف أبكي ولن يغر دمعي
أي شيء من وضع غيري ووضعي

هل هنا أو هناك غير جذوع
غير طين يضج , يعدو ويقعي

لو عبرت الطريق عريان أبكي
وأنادي , من ذا يعي أو يوعي
إلى أن يقول :
إنما لو لمست جيب غني
في قوى قبضتيه قوتي ومنعي

لتلاقى الزحام حولي يدوي
مجرم , واحتفى بركلي وصفعي

فيقص القضاة أخطار أمسي
وغدي وانحراف وجهي وطبعي

وسأدعى تقدميا خطيرا
أو أسمى تآمريا ورجعي

وهنا سوف يحكمون بسجني
ألف شهر , أو يستجيدون قطعي
***
في النص الذي – اختزلناه طبعا –مشاهد سينمائية ساخرة من واقع أصبح يوغل في تدمير انسانية الانسان , لم يباشره بحقائقه كما هي مرسومة في مخيلته بل سرده سردا فيه من السخرية الشعبية التي يستثمرها النص لبلوغ غايته الشيء الكثير , ويختم النص كما بدأه بتأكيد المؤكد أن البكاء لن يغير واقعا ولا يغير وضعا وفي السياق استنفار ثوري ضمني لم يفصح عنه لكن استثمار البنية الثقافية الشعبية للسخرية عند عامة الناس في بيئة صنعاء جعل مدلول السياق تثويرا مبطنا لكنه جاء تحت غطاء السخرية أو مايمكن تسميته بكوميديا الألم .
***
في نص ” نصيحة سيئة ” المنشور في ديوان الشاعر ” لعيني أم بلقيس ” الصادر مطلع سبعينات القرن الماضي(النص لم يذيل بتاريخ ) يتحدث الشاعر عن ظاهرة ربما كانت انعكاسا لجل الأنظمة الثورية فقد تناولتها السينما المصرية بتواتر ملفت للنظر وجاءت إلى اليمن من باب التأثير , تلك الظاهرة تتمثل في المستوى الأخلاقي للأنظمة التي ترى في تحقيق أمسيات العهارة تطورا ثوريا ومستوى حضاريا تقدميا وضرورة ثقافية تتماهى مع العصر الذي يرى فيه إشباعا لحاجات بولوجية دون ضابط من أخلاق أو دين , لكن الشاعر في نصه يرى في ذلك سقوطا أخلاقيا ويرى فيها أيضا غيابا لمشروع الحياة والتنمية التي تتطلع أعناق الجماهير اليها كوظيفة أساسية للحاكم .
النص يفضح ما كان يحدث تحت جنح الظلام من السلطات , وكان سياقه العام يهرب من مواجهة السلطة خوفا منها ولذلك رأى في السخرية حاملا حقيقيا لرفضه ونقمته :
إن تريدي سيارة وإدارة
فلتكوني قوادة عن جدارة
ولتعدي لكل سلطان مال
كل يوم , زواجة مستعارة
ولتكوني عميلة ذات مكر
تشربين القلوب حتى القرارة
ولتبيتي سرير كل وزير
ولتمني من في انتظار الوزارة
وبهذا النشاط تمسين أعلى
من وزير وربما مستشارة
فسراويل الحاكمين تعاني
رغم تبريدها وثوب الحرارة
***
ومن خلال المومس البغي يسقط جام غضبه بصورة هزلية على السلطات التي تستغرق نفسها في الملاهي وتتنصل من مسؤولياتها الوطنية والاخلاقية فهو يهجو السلطة لكن بحيلة الخائف من قمعها :
ليس للحاكمين أي طموح
غير تحقيق أمسيات العهارة
والتماس المساعدات لتفنى
جبهة الشعب تحت نعل التجارة
واجتلاب المخططين صنوفا
كي تضيع البلاد في كل قارة
***
فالوعي الشعري هنا أصبح قادرا على تفحص ذاته وإعادة النظر فيها وفي السياق نفسه أصبح قادرا على فحص أسئلته الثورية ومراجعتها مراجعة تحليلية في ضوء الظروف الموضوعية التي يعيشها وفق أوثق تجلياتها , لذلك لم يكن الهجاء كما كان في العصور القديمة هجاء للحط من القدر من خلال استهداف ذات بعينها ولكنه تحول الى موضوع اجتماعي يهم الجميع ويرى الشاعر أن من حقه أن يعلن سخطه في صور موحية وغير مباشرة , وعلى وفق هذا النسج تنثال بعض النصوص في مجموعته المشار اليها آنفا وفي غيرها ومنها نص ” لص تحت الأمطار ” الذي كتبه في سبتمبر 1973م ونشره في مجموعته ” السفر إلى الأيام الخضر ” ونص ” الغزو من الداخل ” الذي كتبه في نوفمبر 1973م – وحين نثبت التاريخ هنا فذلك لغاية منهجية غرضها قياس تطور الأسلوب الفني – وإذا كان النص السابق رأى في البعد الاجتماعي والأخلاقي حاملا للفكرة التي يرغب الوعي الشعري عند البردوني في إبرازها فإن نص ” مأساة ..حارس الملك ” والمنشور في مجموعته ” وجوه دخانية في مرايا الليل ” والمذيل بتاريخ يناير 1976م والذي جاء في قالب درامي مذهل ومتنامي في تصوير مشاهده وتتابعها يرى في البعد الثقافي والسياسي حاملا في سياقه العام للفكرة , فهو يسخر من غباء الحكام , ومن همجيتهم ومن سمات الفوضى المعرفية والأخلاقية والنفسية في تعاملهم وتعاطيهم مع مفردات الحكم اليومية وضروراتها :
سيدي : هذي الروابي المنتنة
لم تعد كالأمس كسلى مذعنة
(نقم) يهجس يعلي رأسة
(صبر) يهذي يحد الألسنة
(يسلح)يومي يرى ميسرة
يرتئي (عيبان ) يرنو ميمنة
لذرى (بعدان ) ألفا قامة
رفعت أنفا كأعلى مئذنة
**
– اقتلوهم , واسجنوا آباءهم
واقتلوهم بعد تكبيل سنة
– أمركم ..ولكن مثلهم
-سيدي هذي أسامي أمكنه
هم شياطين أنا أعرفهم
حين أسطو يدعون المسكنة
***
هذا النص من عنوانه يحيل إلى المسرح الهازل , وتنثال صوره الكاريكاتورية كـ”رفعت أنفا كأعلى مئذنة” وغيرها لتشهر سلاحا قاطعا ضد الخواء والجنون والتسلط والطغيان وضد الفراغ النفسي والفكري والاخلاقي , والوعي الشعري هنا يبدو في أعلى درجات الذكاء إلا أنه يبطن تحت المرح الساخر صواعق تمنع الانهيار النفسي وتنتصر عليه كمغالبة لقهر الواقع , فالسخرية يلدها مستوى القهر وضيق مساحة الحرية وهي تضيق في الفنون كلما اتسعت مساحة الحرية , والوعي الشعري عند البردوني في هذا النص ليس تنكيتا ساخرا وحسب على مظاهر الأشياء ولكنه يغوص في قالب درامي في تفاصيل الأشياء , فهو يذهب إلى الكليات ويقوم بتجزئتها إلى عواملها الأولية بصورة تراكمية في جل نصوصه فهو يحلل الظاهرة تحليلا نفسيا عميقا مكثفا في شواهد نصية كثيرة ومنها نص ” المحكوم عليه ” من ديوانه ” وجوه دخانية في مرايا الليل ” والذي كتبه في أغسطس عام 1975م الذي نكتفي منه بهذا الشاهد :
لم يوافق ..اضربه حتى تلاقي
نصفه ميتا ونصفا عليلا
وهنا ضج حارس كان يصغي
مالكم يأكل المثيل المثيلا
مثلكم كان ثائرا فرجعتم
نصف ميل فتاب وارتد ميلا
***
ويقول أيضا :
دس يوما في جيبه شبه ظرف
قرمزي .. لمحته مستطيلا
مرة اشترى الجريدة ..سمى
نصفها خائنا ونصفا دخيلا
كي أنمي أميتي أشتريها
أعجب العابرين أرضى خليلا
صنَّف الكاتبين هذا عميلا
لعميل وذا دعاه العميلا
كان يرنو إليه كل رصيف
مثل من يجتلي غموضا جميلا
***
فهذا النص يتآزر مع النص السابق “مأساة حارس الملك” من حيث تحويل البنى الكلية الى مفرداتها التي تكونها، فالصورة الاولى كانت عن الفراغ والتسلط والطغيان والصورة التالية عن الانتهازي الذي يتلون بتلون المراحل ويستغرق ذاته في منافعه الذاتية تحت بهرج الشعارات الثورية وبناء الحالين في قالب فني درامي ساخر جاء من باب تحصين الروح الثائرة الحقيقية من قوالب الثلج والصمت والخوف ومن التردد في التعبير عن المعنى الحقيقي للثورة والتصريح به من خلال إثارة الأسئلة , فالوعي الشعري هنا يعتصم بالسخرية خوف اغتيال كينونته وهذا ما يؤكده نص “سندباد يمني في مقعد التحقيق”الذي كتبه في نوفمبر 1974م ومنشور في مجموعة الشاعر ” وجوه دخانية في مرايا الليل ” والذي يقول فيه :
كما شئت فتش .. أين أخفي حقائبي
أتسألني من أنت ؟ ..أعرف واجبي
أجب , لا تحاول , عمرك , الإسم كاملا
ثلاثون تقريبا .. (مثنى الشواجبي )
نعم , أين كنت الأمس ؟ كنت بمرقدي
وجمجمتي في السجن في السوق شاربي
رحلت إذن , فيم الرحيل ؟ أظنه
جديدا أنا فيه طريقي وصاحبي
الى أين ؟ من شعب لثان بداخلي
متى سوف آتي حين تمضي رغائبي
جوازا سياحيا حملت ؟..جنازة
حملت بجلدي, فوق أيدي رواسبي
من الضفة الأولى رحلت مهدما
الى الضفة الأخرى حملت خرائبي
هراء غريب لا أعيه .. ولا أنا
متى سوف تدري ؟ حين أنسى غرائبي
***
فالنص كما يفصح عن نفسه يحاول أن يعيد تعريف الأشياء من خلال مقعد التحقيق ويعري الواقع الذي يتنفس في الواقع المعاش كحقيقة لا يمكن القفز عليها , فهو يهجو قبائحه لكن بطريقة ساخرة كاريكاتورية صحفية في التصوير وكوميدية في المشاهد وتواليها التي تنثال من شريط سينمائي لا تبعد كثيرا عن وعي العامة وتأخذ بالتوازن في مستوى التلقي حرصا على بلوغ الغاية ووصول الرسالة الرافضة لهذا الواقع .
ويأتي نص ” الآتون من الأزمة ” في السياق نفسه لكن من بعد مختلف وهو تعريف علاقة السياسة العامة للسلطة بالمجتمع , والنص في ذات الديوان ومكتوب في نوفمبر 1974م حيث يقول فيه :
قرروا بيع الأماني والرؤى
في القناني رفعوا سعر الحنين
فتحوا بنكين للنوم , بنوا
مصنعا يطبخ جوع الكادحين
إنكم أجدر بالسهد الذي
يعد الفجر بوصل الثائرين
بدأوا تجفيف شطآن الأسى
كي يبيعوها كأكياس الطحين
علبوا الأمراض. .أعلوا سعرها
كي يصير الطب سمسارا أمين
حسنا ..تجويعكم ..تعطيشكم
إنما الخوف على الوحش السمين
***
يبدو النص متحررا من الخاص إلى العام , ومن المقيد إلى المطلق, فهو ينطلق من السياسات العامة للحكومات الوطنية إلى السياسات العامة للقمم العربية وهو يطرح سؤالا وجوديا عربيا , لكن بأسلوب التهكم التحفيزي ومن خلال الاشتغال على المفارقات التي تفرض شروطها الموضوعية في الحيوات اليومية التي يحياها الإنسان العربي من شرقه إلى غربه بالقياس إلى المرحلة الزمنية وهي عقد السبعينات بكل ما تحمله من تجليات في المستويات الحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضا .
وهذا النص آزره نص آخر كتب عام 1984م ونشره في مجموعته “كائنات الشوق الآخر” وهو بعنوان “اجتماع طارئ للحشرات ” حيث يقول :
شددوا كل الحراسات امنحوا
كل زنبور ثلاثين ذراعا
أحرقوا كل كتاب في حشا
أمه ,نحوا عن المهد الرضاعا
أغلقوا أم الريح, لا
تأذنوا للصبح أن يبدي شعاعا
أدخلوا كل عيون الشعب من
سمعه , كونوا رؤاه والسماعا
***
فالقمم العربية في الوعي الشعري عند البردوني أصبحت موضوعا للتندر الذي يحمل بلاغة التهكم ومعنى اليأس كما يوحي سياق النص الذي يفصح عنها أكثر من النص السابق , – والمسافة الزمنية بين النصين طويلة , أقصد نص ” الآتون من ألازمة ” و ” نص اجتماع طارئ للحشرات ” وهو يمتد بين (1974 -1984م) وفي هذه المسافة الزمنية الفارقة لم نعثر للبردوني نصا شعريا ساخرا – والبردوني في نصوصه الساخرة يعتصم بالقيم الجمالية العربية من التوريات والإشارات والكنايات والتمثيلات التي ما تفتأ تنطق المسكوت عنه على الرغم من النواهي والزواجر التي تحيط بالكاتب أو الشاعر كما سلف بيان ذلك وكما يشير إلى ذلك أيضا نص ” سكران وشرطي ملتح ” الذي كتبه في ذات العام -أي عام 1984م- ومنشور في ديوانه “كائنات الشوق الآخر” ففي هذا النص يستنطق ظاهرة الحركات الدينية التي نشطت في البناءات المختلفة مشيرا اليها من مرجعياتها الثقافية كـ”بحري” والذي يشير به إلى كتاب البحر الزخار عند الزيدية وكـ” زبدي ” الذي يشير به إلى كتاب الزبد في الفقه الشافعي في الديار اليمنية ويحاول الوعي الشعري أن يرصد حركة التناقض بين القول والفعل وتوقف حركة التطور في المجتمع ويختمه بقوله :
ألي غد ؟ مر بي عشرون ألف غد
من أجل يأتي الذي تدعوه أنت غدي
أكابد اليوم ما عاناه أمس أبي
أخشى يلاقي الذي لاقيته ولدي
يا صاحبي ذاك تكوين النقيض يرى
في غير مرآه يخفي دفقة الابدي
***
وفي مضمون النص تتبع للنقائض المتجاورة في واقع المجتمع والسلطة العسكرية والدينية وفي الوعي الشعري الساخر عند البردوني جمع بين خصال متضاربة متنافرة وبيان للادعاءات بما هو غير حقيقي وبيان كيف اطلاق التسميات على غير ما تدل عليه كما نجد ذلك في نص “حزبية ومخبرون “وهذا النص مكتوب في عام 1989م ومنشور في ديوانه “رواغ المصابيح” وفي ذلك الزمن نشط الجهاز الأمني نشاطا غير معهود بعد أن بدأت ملامح سياسية تشير إلى إمكانية تحقيق الوحدة اليمنية والتي تحققت فعلا في 22مايو 1990م ولذلك جاء النص كي يتهكم من النشاط الأمني المحموم الذي بلغ حدا لا يطاق من المضايقات وهو يستهجنه بسخرية تهكمية لاذعة وفي النص يقول :
قلت يوما أحب شعر المعري
بلغوا بي أن المعري عشيقي
بأني أزوره كل يوم
وله ورشة جوار “العريقي”
وبأني في غرفتي أتخفى
تحت دعوى تساعلي وصقيقي
فيظنوني أناطق شيئا
ويجيئون لايرون نطيقي
لو تحولت فرخة ثعلبوني
لو تضفدعت خبروا عن نقيقي
لو رأوني أمسي حمارا لنادوا
خبراء يترجمون نهيقي
***
فالصورة بالغة التهكم وهي توفر للوعي الشعري قدرا من الأمان النفسي في موازاة الخوف الذي يتركه ذلك النشاط الامني المحموم في زمن كتابة النص بالنظر الى ملابسات المرحلة وهاجسها السياسي من حالات التحول التي سوف تحدث وحدثت بالفعل بعد زمن وجيز كما اشرنا .
ونص “حزبية ومخبرون ” من خلال التتبع في كل المنتج الشعري المنشور للبردوني كان آخر نص كتبه مستخدما فيه أسلوب التهكم الساخر , ولعل حالة الانفتاح التي صاحبت دولة اليمن الموحد قد حررت الوعي من قيود الخوف والقمع والتسلط فكان يباشر الواقع برؤاه دون رقيب أو خوف .
***
بالعودة إلى بيئة البردوني التي تشكل وعيه بين أحضانها نجدها بيئة تجد سعادتها في النكتة وقد عرفت ذمار وصنعاء بالتنافس في هذا المضمار إلى درجة أن كل نكتة تنسب اليهما وإن كانت من مخيال سواهما , وبين البيئتين تنقل البردوني وعاش فكان أسلوب المرح ديدنا وثقافة , به يشرح خاطره , ومن خلاله يسلو قلبه من همومه , ومن خلال امعان النظر في النصوص التي أنتجها الوعي الشعري الساخر عند البردوني نجد أن فن استنطاق الذات النفسية والاجتماعية والثقافية , فهو يدير حوارا من عمقها الشعوري كما تتجلى صورته في اللا وعي لا كما هي في واقعها , ويحاول التنقل بين مستويات الفن ومستويات القول حتى يتمكن من الوصول إلى حالة التعدد في الدلالة في سياق عام من التلقي .
وفي جل النصوص نجد مراوغة المعنى سمة بارزة عند النص الساخر للبردوني كما نجد الطابع الدرامي للنصوص وكأنه يستنطق الموجودات ويستنفرها في آن واحد لبلوغ غايته.

قد يعجبك ايضا