الثورة /
بالوقوف عند ذكرى استشهاد الامام زيد -عليه السلام – يتبين كيف أنه كان شهيد أمة ولم يكن شهيد فرقة أو مذهب.
لم يكن زيدٌ العالِمُ -عليه السلام – مفترِقا عن جماهير علماء الإسلام حينئذ، ولم تكن الفرقة المنتسبة إليه “الزيدية” قد نشأت بعدُ بعقائدها وأصولها التي عُرفت بها لاحقا، ولذا ظل -قبل استشهاده وبعده- معدوداً ضمن أئمة الإسلام المجمع على إمامتهم، وهو ما أهله لأن تكسب ثورته دعم كل من الفقهاء والمحدِّثين والمفسرين على حد السواء، واعتمد على آرائه العلمية حتى أئمة المذاهب وأساطين المحدِّثين.
انطلقت ثورته غيرة على الدين ودفاعا عن المستضعفين وهو يرى حكام ذاك الزمان قد ذهبوا في غيهم مذهبا بالغا، لم يقف عند حد ظلم الناس وإنما ايضا التفرد بالسلطة، وإلغاء الشورى واعتماد مبدأ التوريث.
رغم أن الشورى كانت حينها قيمة مركزية ألا أن معاوية لم يعر انتقاد الصحابة بالا حين ذهب بنفسه إلى المدينة وأخذ البيعة لابنه يزيد بغير رضا من الناس.
رأى الصحابة في صنيع معاوية سابقة أسست لما ترسَّخ لاحقا من ضياع لقيمة الشورى وإهدار لسيادة الأمة، حتى أن الإمام التابعي الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ علق على توريث معاوية الحكم لابنه فقال: “فمن أجل ذلك بايع هؤلاء [الأمراء] لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة”!!
أطلق الفعل الأموي المتمثل بالتوريث شرارة الرفض في النفوس ولذلك عاش بنو أمية سنوات طويلة مغتصبين للحكم محتكرين لمنصب الخلافة، فنجمت عن ذلك تقلبات سياسية وثورات متوالية ضدهم الأمر الذي ولّد جيلا وعى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بنو أمية بصنيعهم من أجل السلطة.
وهنا ظهر الامام زيد -عليه السلام – بالفكر الثوري على نهج جده الحسين بن علي عليهما السلام.
انطلقت ثورة الامام زيد بن عليّ -عليهما السلام – سنة 122ه على حكم هشام بن عبدالملك، التي وإن لم تصمد أمام ما حشده بنو أمية لوأدها إلا أنها رسخت جملة القيم الداعية إلى الثبات على الحق والخروج في وجه الظالم، فمثلت بداية النهاية للدولة الأموية التي سقطت بعدها مباشرة على يد العباسيين.
يذكر المؤرخون ان ثورة الامام زيد خرجت من اجل اعتماد الشورى كآلية للوصول إلى السلطة، ومن اجل فرض احترام إرادة الرأي العام المسلم في اختيار الخلفاء والولاة، وإقامة العدل برفع المظالم الواقعة على الناس.
ثورة الحق
اندلعت ثورة الامام زيد فقاتل -عليه السلام- بمن معه حتى استشهد بسهم، ثم ترجم الامويون واتباعهم حقدهم على آل البيت ليقوم والي العراق يوسف بن عمر الثقفي بصلب جسد الامام زيد لاحقا على أطراف الكوفة.
ثم جاء الامام يحي بن الامام زيد -عليهما السلام – الذي تشرب من فكر أبيه فسار على مسار الثورة ضد الباطل حتى استشهد.
ورغم إخفاق ثورة الامام زيد، وما تلى ذلك من إحباط لدى معظم أنصارها؛ الا إن المسار الثوري لم يفقد بريقه لدى جزء كبير من أنصاره، بل باتت الثورة على الحكام الجائرين مبدأ أصيلاً عند رجالات “أهل البيت وكثير من معاصري الامام زيد.
هكذا سرّعت ثورته وابنه يحيى -عليهما السلام – من زوال ملك بني امية، وقد ربط المقريزي بين أحداث ثورة الامام زيد ونهاية الدولة الأموية، فقال إنه “بعد قتل زيد انتقض ملك بني أمية وتلاشى إلى أن أزالهم الله تعالى ببني العباس”!!
كما ساهم السلوك المستفز الذي اتسم به الوليد بن يزيد بن معاوية من المجاهرة بالسوء، في احتقان المشهد المجتمعي ضد هذه الدولة، حسبما نقله العديد من العلماء على اختلاف مذاهبهم، فنقل الطبري عن الإمام التابعي سعيد بن جبير تحريضه لنظرائه من العلماء في ثورتهم مع ابن الأشعث بقوله “قاتلوهم ولا تتحرجوا من قتالهم -بنية ويقين- على آثامهم، قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبّرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة”!!
وقول عامر الشَّعْبي المتوفي سنة 106هـ: “يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فَوَالله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعملَ بظلم، ولا أجْوَرَ منهم في الحكم، فليكن بهم البدار”!!كما قيل الكثير مثل ذلك، ما يؤكد ان الثورات ومنها ثورة الامام زيد -عليه السلام – ضد تلك الدولة نالت قبولا لدى العلماء من كل الفرق، ولم تكن ثورة طائفية أو مذهبية، بل كانت ثورة الأمة والجماعة المسلمة ضد جور الحكام الأمويين، وبالتالي كانت ثورة الامام زيد من نمط ثورات الحسين وابن الزبير وابن الأشعث وغيرهم، متحررة من أي انحياز طائفي.
تكرر الخذلان
لم تكن البشرية بحاجة لإظهار مستوى الشر الذي يمكن أن يكون عليه الانسان حين تُغطي عيناه غشاوة الدنيا.
وحين شهدت الأمة الإسلامية انتفاضة الحق الثانية على يد أحد الأئمة من آل البيت هو الامام زيد بن علي -عليهما السلام- ضد حكم بني امية لم يكن من الاستقامة التعبير عن الحقد الدفين ضد آل البيت بذاك الشكل الشنيع لجسد الامام زيد بعد استشهاده.
ويرصد التاريخ أن يوسف بن عمر القائد الأموي دفع حينها بعض رجاله إلى شوارع الكوفة لإثارة الرعب في قلوب الأهالي، ودعوة الناس إلى التجمع في المسجد الأعظم، وحظر التجول وحمل السلاح، وبث الإشاعات عن الجيش القادم من الشام.
ولكن الإمام زيد توجه مع أنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وطمأنة أهل الكوفة، وفي طريقه إلى المسجد وقعت بينه وبين جند الأمويين مواجهة عنيفة كان النصر فيها حليفه، ولما وصل إلى جوار المسجد تم ادخال الرايات من نوافذ المسجد، وكان نصر بن خزيمة رحمه اللّه ينادي: «يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى، اخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها»، ولكنهم حنوا إلى ذات الموقف من الخذلان مع جده الحسين -عليه السلام – فتعذروا بالحصار.
وانتشر أصحاب الإمام زيد في الكوفة وأمرهم الإمام زيد بأن ينادوا: من ألقى سلاحه فهو آمن.
وأخذ يطارد بقايا جند الأمويين في محاولة لتطهير الكوفة منهم، وفجأة ظهر جنود الأمويين القادمون من الحِيْرة؛ فاشتبك أصحاب الإمام معهم واستبسلوا وقاتلوا قتالا شديداً حتى ردوهم على أعقابهم، واستمرت المواجهة بين المعسكرين، وكان جنود الأمويين يتزايدون بينما كان جند الإمام زيد ينقصون، والتفت الإمام زيد إلى نصر بن خزيمة وقال له: يا نصر أخاف أهل الكوفة أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال نصر: جعلني اللّه فداك أما أنا فواللـه لأضربن بسيفي بين يديك حتى أموت!!
استبسل الإمام زيد وأصحابه وقاتلوا قتال المستميت فلم يجرؤ أحد على مواجهتهم أو مبارزتهم، وحين شعر الأمويون أنه لا قدرة لهم على المواجهة تحصنوا خلف الكثب والجدران، وأخذوا يمطرون الإمام زيد وأصحابه بوابل من السهام.
لحظتها أخذت الشمس في الأفق تميل نحو الغروب، وتميل معها شمس التضحية والفداء.. وألقى الليل بظلامه على التلال، ونشر أجنحته على السهول والجبال، وخرست الألسن ونطقت الأسنة وحمحم الموت، وباتت الكوفة كئيبة حزينة حين لطخها أهلها من جديد بالغدر والخذلان.
وأثناء ذلك الصمت الرهيب سُمِع ـ في مقدمة الجيش ـ صوت الإمام زيد يرتفع قائلا: الشهادة.. الشهادة.. الحمدلله الذي رزقنيها! فهرعوا إلى مكان الصوت، فإذا بالإمام العظيم مُضَرَّجاً بدمه، بعد أن كان قد أصيب بسهم في جبهته.
أراد أتباع الإمام زيد أن يُخفوا جسده الشريف حتى لا يصل إليه الأمويون فعملوا تحت جنح الظلام وحجزوا الماء في الساقية في بستان وحفروا القبر ثم واروا الجثمان العظيم وأجروا عليه الماء، وتفرقوا قبل طلوع الفجر.
وفي اليوم التالي أُعلِنَ في الشوارع والأسواق عن جائزة مغرية لمن يدل على المكان الذي دفن فيه، فدلهم بعض ضعفاء النفوس على موضع قبره، فنبشوه واستخرجوا منه الجثمان العظيم، فَحُمل الجثمان على جمل وألقي به أمام قصر الإمارة.
وأمر هشام بن عبدالملك بإخراج جثته من قبره وصلبه، وبقيت جثته مصلوبة على جذع الشجرة أربعة سنوات، ولم يكتف هشام بذلك بل انه أمر بإحراقها، ليكون منظر الجسد الشريف أمام الناس، باعثا على الإيمان وحب أهل البيت في قلوبهم، على عكس ما كان بنو أمية يبتغون، فعملوا على التخلص من الجسد الشريف فأنزلوه وأحرقوه، وذرّوا رماده في الفرات.
كانت شهادة الامام زيد- عليه السلام- والتمثيل به حدثاً مروعاً هز وجدان الأمة الإسلامية، وأزكى فيها روح الثورة، لكنه عجل سقوط الحكم الأموي، إذ لم يمض على استشهاده أكثر من 11 عاماً مليئاً بالثورات والأحداث والانتفاضات حتى إنهار الحكم الأموي وولى إلى الأبد.