الثورة الزراعية من المنطلق القرآني

 

الثورة / يحيى الربيعي

تأتي توجيهات قائد الثورة السيد العلم عبدالملك بدرالدين الحوثي حفظه الله بضرورة توافر آلية عمل مشتركة بين المجتمع والدولة بما من شأنه تجميع وتنسيق وتفعيل الطاقات والامكانات الذاتية للمجتمع نحو إحداث ثورة زراعية انطلاقا من حقيقة المعرفة بأن المجتمع اليمني يمتلك مخزونا كبيرا من الكفاءات والطاقات والجهود والابداعات والإمكانات التي “إذا ما جمعت ونسقت وفعلت” وفق برامج عمل مشتركة تتولى فيها الحكومة مهمة التنسيق بين الجهود بإحياء روحية التضافر والتكامل بين الطاقات، وتفعيل الكفاءات وتشجيع الابداعات من خلال الإدارة والتوجيه السليم وفق مصفوفة أولويات مرحلية يتولى فيها المجتمع والقطاع الخاص زمام المبادرة في تبني مشاريع الإنتاج الزراعية والصناعية والتسويق بحسب المجتمع- هنا- هو غاية التنمية ومصدرها.
وهو ما يعني أن الدولة- في مفهوم خطاب السيد القائد عن التنمية- هي قائد الحراك الشعبي ومفعل الطاقات والدافع بالكفاءات، فهي تحرك كل إمكانات وإبداعات المجتمع في موجهات وبرامج تعمل من خلالها على تذليل الصعوبات وإزالة حالات التعثر، بحيث لا يبقى الشعب في حالة انتظار إلى ما يطلب منه فعله، كما أن خطاب السيد القائد في ذات الوقت يحث المجتمع على أهمية تفعيل المبادرات الذاتية، ويرشد الجميع إلى أهمية تفعيل آليات عمل مشتركة على المستوى الرسمي والشعبي والقطاع الخاص، لما يحظى به العمل الجماعي من تأييد وتوفيق إلهي خاصة عندما ينطلق الناس فيما يفعلون من مسارات بذل الأسباب والتوكل على الله.
إن المجتمعات هي عنصر القوة في كسب الرهان التنموي، إذ لا يمكن أن تقوم أي نهضة في أي بلد إلا بالاستفادة من المبادرات الذاتية للمجتمع وتفعيل قدراته وطاقاته، فالمجتمعات هي النشاط المتحرك الذي لا يحتاج سوى إلى تحريك وتوجيه في هذا المجال أو ذاك، المجتمعات تحتاج – كما أشار فخامة الرئيس المشاط- “إلى رؤية وإلى سياسة وإرشادات، وتوجيه، تقديم تسهيلات، رسم سياسات وتوجيهات، هذا ما يحتاج إليه المجتمع، إذا احتاج إلى نشاط عملي فيما يتعلق بجانب الزراعة هو في مجال التسويق”.
الدولة، إذن، معنية بتهيئة الأجواء وإيجاد الإرشادات والتأهيل والتدريب وحث المواطن وتحديد الأولويات المرحلية بالإضافة إلى توفير القدر الممكن من مدخلات الإنتاج الزراعية بأقل تكلفة، ولعل تركيز اهتمام الدولة على تقليص فاتورة الاستيراد عن طريق إعادة توجيه قيمة هذه الفاتورة نحو الاستثمار الداخلي من خلال لفت انتباه المستوردين للمنتج الخارجي إلى أن الأولية هي في تشجيع المنتج اليمني على مختلف الأصعدة الإنتاجية والصناعية، وفي مقدمة ذلك يأتي دعم المنتج الزراعي المحلي العمود الفقري لاستقلال القرار اليمني، إذ لا حرية ولا استقلال لشعب لا يأكل مما يزرع، ولا يلبس مما يصنع.
والدولة بهذا لمفهوم لم تأت من فراغ، ولا من رغبة أو سنة وضعها أو ابتكرها إنسان أو فرضتها ظروف، وإنما هي مفهوم تنزيلي وتشريع رباني ضرب في قصة ذي القرنين مع قومه أوضح الأمثلة وأقوى العبر، فمن وحي ما أثمرت القصة من نجاحات غير مسبوقة في تاريخ قوم كانوا مستضعفين لا يفقهون في إدارة ما يملكون من قوة في الإمكانات ووفرة في الجهود والطاقات إلا أن يناشدوا المنقذ “ذو القرنين” بخيارات أن يجعلوا له خراجا من قروض الضرائب والأتاوات والرسوم على أن يجعل بينهم وبين العدوان الغاشم والحصار الجائر الذي تفرض قوى تحالف الشر “يأجوج ومأجوج” سدا منيعا.
فماذا كان رد ذلك القائد الرباني؟ لقد انطلق ذو القرنين إلى ترسيخ مفهوم الدولة الحقيقي في “إن الإنسان غاية التنمية ومصدرها”، فقال للقوم ” مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا “.. انطلق من مفهوم التمكين، ولم ينحدر إلى هاوية المقاولة، تمكين المجتمع من قدراته، من كفاءاته، من جهوده، من طاقاته، اتجه إلى بناء دولة المجتمع والتنمية المستدامة، ولم تستهويه إغراءات مجتمع الدولة والمكاسب الآنية، ” آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ “: تجميع إمكانات الشعب، ” حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ”: وضع البرامج وحدد الأولويات المرحلية، ” قَالَ انفُخُوا”: فعل الطاقات، ” حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا”: نسق بين الجهود ووجه مساراتها، ” فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا”: التنمية المستدامة على هدى الله في تمكين المستضعفين من حماية أنفسهم بتجميع وبرمجة وتفعيل وتنسيق الجهود والامكانات الذاتية المتاحة.
وهو المفهوم ذاته الذي نقرأه عن الرسول الأعظم فيما رواه أبو داود عن أنس أن رجلا من الأنصار أتى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يسأله، فقال: ” أما في بيتك شيء؟ “، فقال: بلى حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ” ائتني بهما ” فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: “من يشتري هذين؟ “، قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: “من يزيد على درهم؟ ” مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: “اشتر بأحدهما طعاما، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما، فأتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثم قال: “اذهب، فاحتطب، وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما” فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه، وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع”.
إلى ذلك شدد السيد القائد رضوان الله عليه على مسألة أن يفعل المجتمع، وأن تجمع إمكاناته وأن يتم توعية وتأهيل طلائع الشباب على مهارات الإبداع والإنتاج في مختلف مجالات الحياة التنموية، خاصة وهو يشير إلى القدرات الكامنة التي قد لا يكون المجتمع ذاته يعرف أنه يمتلكها بفعل ما أوغلته قوى الضلال الاتكالي التي ظلت لعقود 5 مضت تهيمن على خشبة المسرح السياسي في اليمين، وهي تمد يدها للمساعدات والهبات والقروض الخارجية على كافة الأصعدة الإقليمية والدولية في مقابل اضعاف القدرات المحلية وفتح الأبواب على مصاريعها أمام المنتج الأجنبي أن يغرق السوق المحلي على حساب إزاحة المنتج المحلي وإضعاف مصادر قوته الإنتاجية، وبالتالي فإن قيادة الثورة التنموية هي المعنية بإعادة تعريف المجتمع اليمني بإمكاناته التي استغلها آباؤه وأجداده في بناء الحضارات اليمنية القديمة على مر التاريخ.
ولنتأمل قليلا في خطاب فخامة الأخ الرئيس مهدي المشاط في خطاب أمام ندوة المحافظين واللجنة الزراعية والذي أشار فيه صراحة إلى المهمة العظيمة الملاقاة على عاتق القيادات في المجال التنموي بقوله: “نحن أمام تراكم لمفاهيم خاطئة، إذا اعتمدنا عليها سنجهض هذه الثورة، الثورة مستمرة، كل ثورة معها إرادة، إرادة هذه الثورة هو العمل هو الإنتاج، ستستمر هذه الثورة وستستمر هذه الإرادة مع هذه الثورة في مضمار العمل وفي مضمار الإنتاج، هذه إرادتنا وهذا هو مسارنا فيما يتعلق بحفاظنا على هذه الثورة، نستمر في الإنتاج نستمر بروح العطاء، لا نكون اتكاليين لا نعتمد على آخرين، وللأسف الشديد أنه أصبحت نظرية اعتماد حتى على من يستثمر في معاناتك، وهذا شيء مؤسف جداً، نحن في هذا المضمار وعلى وجه الخصوص المسار الزراعي، يجب أن نحدث فيه قفزه نوعية في مختلف المحافظات، ولا عذر لأحد، نحن في بناء أنفسنا جميعاً بدءا بي وانتهاءً بأصغر موظف في هذا البلد يجب أن نرسخ في نفوسنا أن نكون منتجين، أن نعتمد على أنفسنا في مختلف المجالات، أن تسن القوانين التي تسهل وتساعد هذا الإنتاج والاعتماد على الفرد البشري”.
وعليه، يبقى من المفترض في الفريق العامل في الثورة الزراعية أن يكون متضافر الجهود منسق الإمكانات متكاملاً في الخبرات ومتعدد المهارات، متناسياً للذات متماهياً في العمل الجماعي المشترك، لأن توالد الاحتكاكات وسيطرة الغرور على أي مسار لابد يحبطه ويعثر خطواته وقد يشتت اتجاهاته وبالتالي يكتب عليه الفشل.
إن العمل المبرمج والمتكامل وفق رؤى علمية وخبرات ممارسة هو الطريق الصائب لتحقيق الأهداف المنشودة، وعليه روح الفريق الواحد متطلب أشد أهمية من المتطلب المادي، لأن المعنويات العالية والنفوس الصافية هي البيئة الصالحة لأي نجاح، والإمكانات المادية هي نتاج فكر صافي وخالي من المنغصات وهي الثمرة التي تجنى، وبالتالي فإن وجود المادة في بيئة غير صالحة يفسدها.
إن الانتصارات المتحققة على الجانب العسكري من ثورة الـ 21 من سبتمبر الخالدة لم يكن لها أن ترى النور وينعم بثمارها الشعب اليمني حرية واستقلالا ونعمة الأمن والاستقرار الذي تعيشه المناطق الواقعة في نطاق إدارة حكومة المجلس السياسي الأعلى.
هذه الثمار العظيمة هي الحصاد لذلك التضافر والتكامل والتنسيق في الجهود والمهارات والخبرات بين قادة ومشرفي وضباط وصف الجيش وقبائل وثوار اللجان الشعبية، وهذه المسارات هي البذور التي غرسها النهج القرآني للمسيرة الظافرة بقيادة السيد القائد عبدالملك الحوثي حفظه الله، ورسم خطوطها العريضة الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه المطلوبة- بالضرورة- لتحقيق أن نجاحات في ميادين التنمية التي انطلقت كمسار لا رجعة عنه اختط معالم الشهيد الرئيس صالح الصماد في مشروع النهوض التنموي “يد تحمي، ويد تبني”، وهي التوأمة التي لابد أن تترابط في مساراتها بين ضرورة التسلح بقيم ومبادئ الهوية الإيمانية ذات المنطلقات القرآنية السامية في تطبيق النهج السوي “رحماء بينهم”.
هذه الرحمة ليست تلك العاطفة الأبوية وإنما هي الانخراط في مسارات تكامل التنسيق بين الجهود والإمكانات في ميدان العمل، هي في تبادل الخبرات واكتساب المهارات والبذل والعطاء غير المحدود وغير المشروط في الاستقامة لنهج المسيرة القرآنية والانتباه لأبعاد خطاب السيد القائد الاستراتيجية وترجمتها على شكل ممارسات وسلوكيات على أرض الواقع.
وهذه ترجمة تجسدت عمليا فيما اتجه إليه الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي حين رفض أن تقوم الخليج بتمويل الخطة الخمسية الأولى وعلى رأسهم السعودية.. رفض ليس لأنه يجد حرجا أو ما شابه في مساعدة الأخ لأخيه والجار لجاره، فما العيب في ذلك طالما على قاعدة لا ضرر ولا ضرار والتبادل المحترم.. لكنه رفض لإدراكه ان اليد التي مدة هي يد الشياطين والأبالسة وبالتالي من باب الاعتماد على الذات لا الغير مع ثقته بإمكانية تمويل الدولة لتنفيذ الخطة.
الشهيد الحمدي رفض يد الذل والمهانة، لماذا؟ لأنه فضل أن يكون حاكما وفيا لشعبه والعمل لضمان مستقبلهم، لا أن يكون ملكا خائناً لشعبه مع ديمومة حكمه وضمان مستقبله ومستقبل أبنائه وأقاربه على حساب شعبه، وذلك نابع من إيمانه القوي أن القضاء والقدر بيد الخالق لا المخلوق، لأنه وضع الخطة التي لو نفذت كانت ستمثل نقلة نوعية كبرى في نمو الوطن وازدهاره سياسيا واقتصاديا وأمنيا وثقافيا وغير ذلك لضمان مستقبل آمن للوطن ما يعيد للوطن هيبته وكرامته في المنطقة من خلال الاعتماد على الذات دون أن يكون عبدا مملوكا للخليج (السعودية) كل ذلك دون أن يمد يده لأحد لطلب العون والمساعدة، بل مدوا (عرضوا) له يد العون والمساعدة لتنفيذ تلك الخطة عبر عملائهم في الداخل، لكنه رفض بكبرياء الرجال عزيزي النفس وعنفوان النشامى.
وكان واضحا رفضه ذلك حيث وجه رسالة واضحة المعالم والمفهوم أثناء إلقائه إحدى خطاباته إلى جماهير شعبه الحر، اليكم نص الخطاب فيما يتعلق بالخطة الخمسية أرجوا قراءتها جيدا بتدبر وتأمل، فبنبرته العاطفية وصوته المجلجل ومشاعره الفياضة بالصدق قال: أيها الأخوة والأخوات “أما بالنسبة للخطة الخمسية فليستقر في أذهان الجميع أننا كدولة مهما كان ظروفها، وهذا لا يعني أننا وضعنا الخطة الخمسية لنقول لغيرنا تفضلوا أعطونا، بل وضعناها نحن اليمانيون ومن سينفذها نحن اليمانيون”.
أيها الأخوة والأخوات: “ليست الخطة الخمسية إلا مدخلاً إلى الخروج ببلادنا وشعبنا من أسر الارتجال والتخبط في مجاهل الفوضى على طريق بناء اليمن الجديد، ولست هنا أزايد ولكن أؤكد ما سبق أن طرحته وأطرحه دائماً على القوى الوطنية بأننا مسؤولون عن وطننا وليس هناك من يستطيع الهروب من المسؤولية ومن ضمن هذه القوى قطاع التجار الذين لابد وأن يعرفوا أنهم مواطنون قبل أن يكونوا أصحاب رؤوس أموال، والمواطنة كما يعرفها الناس جميعاً هي صفة يكتسبها كل من يعيش على ظهر الوطن ويسهم في بنائه.
وعليه فإن تجارنا مطالبون بالإسهام في نجاح وتمويل بعض المشاريع في الخطة الخمسية، وعليهم أن يدركوا أنهم قد عاشوا شهر العسل خمسة عشر عاماً يأخذون ولا يعطون وكأنهم جالية في هذا الوطن يهمهم الربح بأي طريق وليس عليهم للوطن أي حق، ومع ذلك يظلون يمنون على الدولة بأنهم أصحاب رأس مال وطني واي رأس مال وطني يذبح المواطن من نصفه ولا يقوم بأي عمل وطني يخدم مشاريع التنمية ويسير وفق خطة الدولة لخدمة المجتمع”.
وفي السبعينيات كان الشاعر عبدالله البردوني الأكثر خوفاً من تدفق المساعدات الخليجية إلى اليمن حتى أنه أثار التساؤلات حول ما بعد تلك المساعدات وقال “خرجنا من الثورة إلى صدقة أهل الثروة وأصبحنا مزبلة الفضلات.. ويقول البردوني في الحديث عن قصيدته خوف: كنت أخاف أن كل شيء لا يُعطى مجانا، وأن كل شيء يُعطى ليأخذ أكثر ويجب أن يكون اليمن مُعطياً وليس آخذاً لأنه قادر أن يكون معطياً.

قد يعجبك ايضا