نجمان أفلا.. العيني ومحمود

أحمد يحيى الديلمي

أحمد يحيى الديلمي

 

 

ما أصعب أن تغيب النجوم وتتوارى عن صفحة السماء ، تختفي خلف الغيوم فتسود العتمة ، ويتسع الظلام خاصة في الليالي غير المقمرة ، في ظل العتمة الشديدة ينعدم أي بصيص للنور ويفقد الناس الرؤية ، يحدث هذا عندما يغادر الحياة الفانية العلماء والمفكرون وأصحاب الرأي السديد ممن كان لهم حضور بارز وشكلوا محوراً هاماً للتغيير والسير بالحياة نحو الأفضل.
مما تقدم نعرف مدى الفاجعة والخسارة الكبيرة التي ألمت باليمن واليمنيين الأسبوع الماضي، لأننا فقدنا علمين بارزين من أبناء هذا الوطن وهما الأستاذ محسن أحمد العيني والدكتور عبد الوهاب محمود عبدالحميد، إذ شاءت الأقدار أن يلتقيا في زمن الرحيل كما ألتقيا في زمن النضال، فاتحدا في المبدأ والفكر والثقافة والهموم والرغبات ، وفي ما يلي ملخص لحياة الفقيدين.
* الأول الأستاذ محسن أحمد العيني
ولد في قرية الحمامي مديرية بني بهلول القريبة من صنعاء ، لعب الحظ دوراً هاماً في نشأته رغم الجهل والأمية المحيطة به من كل جانب ، إلا أنه التحق بسلك التعليم وكان ضمن أول دفعة بعثها الإمام أحمد حميد الدين للدراسة في مصر ثم انتقل إلى باريس لإكمال الدراسة، حيث أجاد اللغة الفرنسية ، بعدها انتقل إلى لندن فأجاد اللغة الإنجليزية ، وعندما حل في مدينة الضباب كان قد انتمى إلى حزب البعث العربي الاشتراكي وتشبع بالفكر القومي ، مما جعله يلعب دوراً هاماً في إنشاء فرع للاتحاد الدولي للعمال العرب وآخر لاتحاد الطلبة العرب ، كأهم نافذتين للتعريف بقضايا العروبة والإسلام ، وشد أزر حركات التحرير العربية من الاستعمار الأجنبي المحتل لعدد من الدول العربية ، ولست هنا بصدد تتبع مراحل حياة الفقيد لكن المقدمة كانت ضرورية للتعريف بلحظة الانطلاق والمكاسب التي حققها للأمة بشكل عام واليمن بشكل خاص ، حيث لعب دوراً هاماً في المجال السياسي والعمل الدبلوماسي فأصبح أفضل دبلوماسي عربي بحسب شهادة محمود رياض – أمين عام الجامعة العربية الأسبق والملك حسين ملك الأردن، إضافة إلى عطاءاته في كل المواقع التي احتلها داخل وخارج الوطن ، وأجد من المفيد التعريف بفكر الفقيد واهتماماته وطموحه من خلال المحاضرة التي ألقاها في العاصمة اللبنانية بيروت على هامش إحدى دورات معرض الكتاب اللبناني عام 2001م ، في تلك المناسبة الثقافية الهامة تعرفت أكثر على شخصية الفقيد فلقد كانت القاعة غاصة بكبار الأدباء والمثقفين والمفكرين العرب ، في اللحظة التي هل فيها على الناس توقف كل من في القاعة والتهبت الأيادي بالتصفيق، ثم أفاض الأستاذ غسان سلامه وزير الثقافة اللبناني آنذاك وهو يقدم الأستاذ محسن بأسلوبه الأدبي المتفرد في الحديث عن الرجل وأدواره النضالية في مراحل حياته ، بعد ذلك انطلق الأستاذ العيني قائلاً: ( كلنا في الهم شرقٌ ) كان المفترض أن يكون حديثي عن اليمن لكني سأتحدث عن جوهر المشكلة العربية بشكل عام خاصة أننا في هذه العاصمة العريقة التي احتضنت الكثير من التجارب السياسية وظلت ملاذ كل معارض عربي اختلف مع النظام القائم في القُطر الذي ينتمي إليه ولذلك تعرضت لتلك المحنة الكبيرة والحرب الضروس التي كادت تأكل الأخضر واليابس ، واختزل الإشكالية في جذور القبيلة والتعصب المذل للدين بسبب الجهل المفرط لمعانيه السامية وأفقه الواسع وأحكامه العظيمة التي تقوم على العدل والمساواة وترفض الإكراه أو الاستخدام غير السوي للقوة في استقطاب المخالفين للدين، كما دلنا على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) صدق الله العظيم ، وأسهب في الحديث عن هذا الجانب إلى أن قال : المشكلة أننا لا زلنا نمارس نفس الأساليب الجاهلية في التعاطي مع الواقع، كما وضف الخلفاء والملوك المذاهب الإسلامية وحولوها إلى بؤر للتآمر بقصد إسناد الحاكم القائم على سدة الحكم وإطالة أمد بقائه وهي الصورة التي ترسخت في الأذهان ولا تزال ممتدة إلى الزمن الراهن بحيث لعبت دوراً سلبياً في تدجين الجماهير وتحويلها إلى مجرد هتيفة يصرخون في الشوارع ، فلان أو الموت ، وعلان أو الموت ، وهي صورة سائدة وتصل إلى حد التقزز في إمارات الخليج والأنظمة الملكية ، نفس الطقوس والممارسات الغاية في البشاعة تتكرر اليوم في الأنظمة الجمهورية مع فارق بسيط وهو أن المذهب تحول إلى حزب وتحول صاحب الجلالة إلى القائد المُلهم والمعجزة الذي اختزل الحزب والشعب في ذاته ، ووصل الحال إلى أن كل رئيس اليوم يسعى إلى توريث الحكم لأبنائه ، ما حدث أن الملكية عادت لتفرض نفسها على الواقع بقرون ثورية وأحياناً تحت يافطة الممارسات الديمقراطية بأسلوبها العبثي الهزيل .
الكلام كثير لكني أكتفي بإبراز ما ورد على لسان المرحوم ليعرف الجيل من هو العيني الذي انهالت على أبنائه برقيات العزاء من كل قيادات الدولة والمسؤولين ، فكانت مصدر استغراب وتساؤل عدد من الشباب الذين لم يعرفوا العيني وليس لديهم أي علم عن أدواره وأنه شغل منصب رئيس الوزراء خمس مرات متعاقبة ، كما شغل منصب سفير اليمن في أكبر الدول ولعب دوراً في التعريف بهذا الوطن وتحسين علاقاته مع دول العالم، خاصة عندما كان في واشنطن وباريس وموسكو ولندن أهم العواصم الدولية ، فلقد كان ركناً هاماً في الدبلوماسية ، استفادت منه حتى هذه الدول التي حل ضيفاً عليها، إضافة إلى الفائدة المباشرة لليمن والدول العربية الأخرى ، وكان متواضعاً لا يطمح إلى المنصب إلا عندما يعلم علم اليقين أنه سيقدم إضافة كاملة فيه ، وهكذا عاش حياته خادماً للوطن وللناس ، ويكفي أنه عندما أتته المنية اختار أن يدفن في قرية الحمامي مسقط رأسه ليؤكد مدى ارتباطه بالجذور ، وجعل أبناءه ومحبيه يحملون النعش من القاهرة حتى قرية الحمامي ليترجم هذه الرغبة الكامنة في أعماقه ، رحم الله الأستاذ محسن العيني وأسكنه فسيح جناته وعزاؤنا لكل أفراد أسرته وفي المقدمة هيثم وطارق.. إنا لله وإنا إليه راجعون .
* الثاني د. عبد الوهاب محمود عبد الحميد
نهل من نفس الفكر الذي نهل منه رفيق دربه المرحوم العيني وظل وفياً للمبادئ والأفكار التي بشر بها في بداية عمره ، وفي فترة الانكسار التي تعرض لها الوطن وحالات الانقسام رفض التخلي عن المبادئ التي آمن بها ورفض بشكل قاطع المغريات التي قُدمت له إذا تخلى عن البعث ، أذكر أن الرئيس الأسبق صالح عرض عليه منصب أمين عام مساعد للمؤتمر مقابل التخلى عن البعث ، فأجاب بإرادة وصلابة ( لا يمكن التنكر للثدي الذي رضعت منه )، وهي نفس العبارة التي كان يرددها المرحوم الأستاذ فتح الأسودي، كلما حاول البعض أن يستغل خلافه مع قيادة الحزب قطر اليمن لكي ينفذ إلى إثارته وجعله يتحدث عن الحزب الذي آمن به ، وفي كلا الحالين تبرز أمامنا صورة رائعة للوفاء والتمسك بالمبادئ مهما كان الثمن ، لقد كنت قريباً من الدكتور عبد الوهاب فترة غير قصيرة من الزمن وهو وزير للزراعة ثم الصناعة والتجارة ثم الكهرباء حتى عندما عمل سفيراً لليمن في المغرب ذهبت إليه وكانت الفرصة سانحة لأسمع منه وأنفذ إلى أعماقه ، فوجدت بالفعل أنه نموذج للمثقف اليمني الحريص على إعطاء صورة مشرفة عن اليمن ، في تلك الأثناء وجدت المجال لأسأله عن التحول الذي طرأ عليه عندما ذهبنا لزيارة والده الشيخ محمود عبدالحميد “رحمه الله” في مسقط رأسه وفي اليوم الثاني من وصولنا لم أعد أُسميه الدكتور وإنما الشيخ عبدالوهاب ، وفي صباح ذلك اليوم خرج بدون ربطة العنق ولكنه تمنطق بالدسمال والعسيب والجنبية فتحول إلى شيخ بالفعل ، سألته ضاحكاً لماذا تحولت بتلك الصفة ، قال تلك كانت رغبة أبي ونحن مشائخ أبناء مشائخ توارثناها من الأجداد ، وذكرنا بنفس العبارة عندما نزلت إليه إلى المسراخ وألتقينا في تعز بهدف الوقوف معه في أول مرة ترشح فيها لمجلس النواب عن المنطقة ، كان المواطنون يتدفقون عليه زرافات وفرادى، فقال هل رأيت؟ هذه هي القبيلة التي استغربت عندما عدت إلى أحضانها ، ومن هذا الموقف.. عرفت أن الرجل لديه قدرة عالية في الموازنة والمزج بين الحداثة وحياة المنشأ ، وفي المغرب أثناء وجودي أذكر أنه تلقى مكالمة ذات ليلة من أحد أقسام الشرطة في الدار البيضاء وهو في الرباط ، لم يتردد كان الوقت متأخراً جن جنونه عندما عرف أن مجموعة يمنيين تشاجروا وأحدثوا جلبة وفوضى في أحد الملاهي الليلية وأن ثلاثة منهم يحملون جوازات دبلوماسية ، لم يتردد، وصل الدار البيضاء في حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، بعد إخراجهم من القسم تحدث معهم بهستيريا وجنون وحذرهم من تكرار المواقف البشعة التي تُسيء إلى سمعة اليمن ، وقال ماذا أبقيتم للسعوديين والخليجيين؟! الإنسان اليمني محترم حيثما حل والمغاربة بالذات يُكنِّون احتراماً كبيراً للإنسان اليمني ، فلا تشوهوا صورته بهذا الأسلوب الحقير والتصرفات الصبيانية ، أخذ الجوازات الدبلوماسية ولم يُعدها إليهم إلا قبل المغادرة بدقائق وفي المطار، بعد أن قرعهم بكلام قاس، وقال: لا أتحدث إليكم كوني سفيراً لليمن في هذا البلد ، بل باعتباري مواطناً يمنياً حريصاً على سمعة بلده ، الموقف جعله ينفتح معي، تحدث بانكسار وألم شديد عن ممارسات رأس النظام في البلاد وممارسات قيادة حزب البعث في العراق وسوريا وحالة الانقسام القائمة باعتبارها أعظم انتكاسة للحزب أساءت إلى مسيرته ونضال الأبطال الذين قاوموا المحتل الأجنبي في البلدين ، ترقرقت الدموع في عينيه عند الحديث عن الآمال والطموحات التي ترسخت في أذهانهم منذ عقود عندما كانوا في سن الشباب وارتبطوا بحزب البعث كحركة قومية ناهضة، ومرة أخرى وهو يروي تفاصيل إعدام رفيق دربه سلطان القرشي، ، سألته هل تأكد لكم أنه قُتل فعلاً؟ وكيف عرفت؟ انتزع نهدة قوية من أعماقه وقال: كنا نعتقد أنه لا يزال على قيد الحياة بحسب اعتقاد أسرته لكني استغربت وضاقت علي الأرض بما رحُبت في أول اجتماع للمجلس الاستشاري أثناء الحديث عن السجناء السياسيين ، قال الرئيس صالح : لم يعد لدينا أي سجين سياسي، فبادرته متسائلاً : وأين الرفيق سلطان القرشي؟ أجاب ببرود تام ( سلطان الله يرحمه تمت تصفيته بعد أيام من اختطافه ، بلّغ أسرته يقيموا عليه العزاء ، لم يقيموا العزاء حتى الآن؟!) فكان الخبر بالنسبة لي فاجعة ، بحثت عن الوسيلة التي أنقلها إلى أهله ، وبالفعل صدقت الأسرة أن سلطان رحل وأنه اغتيل بذلك الأسلوب الإجرامي البشع عبر التصفية الجسدية بعد الاختطاف وفي غسق الليل ، إنها فعلاً جرائم يندى لها الجبين أن يتم التعامل مع المواطن بهذا الأسلوب الهمجي السافر، فكيف إذا كان هذا المواطن مسؤولاً وتقلد مناصب حكومية كبيرة ، المهم أن الفاجعة كانت بالنسبة لي مؤلمة ، وكم من الفجائع التي قابلناها بصبر وجلد ولا نزال حتى اليوم نعيش الكثير منها اليوم ، وهناك كلام حدثني عنه المرحوم أحتفظ به لنفسي، وأنشره إن شاء الله في كتاب خاص عن الأحداث في اليمن على مدى خمسين عاماً .
رحم الله الشيخ الدكتور عبدالوهاب محمود عبدالحميد وأسكنه فسيح جناته والعزاء لأبنائه رامي ومحمود ولكل إخوانه وأبنائهم ولكل أبناء المسراخ وتعز واليمن عامة ، إنا لله وإنا إليه راجعون .

قد يعجبك ايضا