الهجرة النبوية خلودٌ في ذاكرة الزمن ومسارٌ لأهل اليمن

عدنان أحمد الجنيد

 

إن هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بالنسبة لنا كشعب يمني – تمثل نقطة تحول وتغيير لواقعٍ أفضل ، وتفاؤلاً بمستقبل مغمور بعزتنا وكرامتنا ونصرنا.. فكما أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بهجرته المباركة وبتضحيته العظيمة وبأخذه للأسباب وللحيطة والحذر غيّر واقعه وواقع أتباعه بعد أن كانوا مستضعفين في مكة لا يقدرون على حماية أنفسهم، ولا يستطيعون أن يظهروا شعائرهم الإسلامية ولا عباداتهم الدينية، فضلاً عن أن تكون لهم دولة وسيادة وحماية ..
ولكن بعد أن تم التخطيط والترتيب للهجرة، والاستعداد لها ومباشرة الأسباب، وأخذ كل جوانب الحيطة والحذر مع الثقة بالله والتوكل عليه، نجحوا في هجرتهم ووصلوا إلى مدينة عزهم ونصرهم، وأسسوا دولة إسلامية أرعبت دول الاستكبار –آنذاك- (الفرس والروم) ، وها هي أنوار هذه الهجرة النبوية بما فيها من دلائل عظيمة وفوائد كبيرة وإشارات كريمة تنعكس على واقع الشعب اليمني وقيادته الحكيمة ..
فقد كان شعبنا مستضعفاً يئن تحت وطأة الهيمنة الأمريكية والوصاية السعودية، وإذا بنور المسيرة القرآنية يظهر من جبال مران فيبدِّد ظلام الاستعباد لغير رب العباد، وخرج هذا النور متمثلاً بالشهيد القائد السيد حسين بن بدرالدين الحوثي – رضوان الله عليه – فواجه كل أنواع الظلم والأذى، وفضح الاستكبار وأدواته في المنطقة، فقد بيَّن لأتباعه ومحبيه -آنذاك- خطورة الأمريكان والصهاينة ومن سار على فلكهم من دول الاستكبار، ووضع الحلول الناجحة في مواجهتهم وعدم الرضوخ لهم من خلال المشروع القرآني الذي أسسه، فكان لملازمه التي خلّفها لهذا الشعب الأثر الكبير في صحوته..
ثم جاء شقيقه من بعده قائداً للثورة المباركة وحرّك الشعب بكلماته ونفحهم بنفحاته، حينئذٍ خرج الشعب اليمني تحت راية قائده بثورة إلهية رافضاً للهيمنة الأمريكية والوصاية السعودية، فقام الاستكبار العالمي وأحذيته من الأنظمة العميلة بشن حربٍ كونيةٍ على هذا الشعب ليعيدوه تحت الهيمنة والوصاية والاستعباد، لكنهم عجزوا عن كسر إرادته ورغبته في استقلاليته ، فحقق هذا الشعب الانتصارات العظيمة بعد أخذه بكل الأسباب واثقاً بربه مرتبطاً بنبيه وبأعلام الهدى، فصنع الصواريخ وطوَّرها منها (صواريخ أرض أرض ، ومنها صواريخ أرض جو) وأبدع في صنع الطيران المسيّر وغيرها من الأسلحة التي أبدع فيها..
لقد أبهر شعبنا الصامد العالم بأسلحته وبقوة صبره وثباته ورباطة جأشه …
وهاهي مناسبة ذكرى الهجرة النبوية تهل على شعبنا وهو مشارف على نهاية العام السابع من العدوان البربري الغاشم الذي ارتكب ويرتكب فيه أنواع المجازر الشنيعة والجرائم المريعة بغية إركاعه، بيد أن كل محاولات العدو باءت بالفشل، ولم يحقق أي هدف من أهدافه ..
فما أحوج شعبنا اليمني اليوم إلى الاستفادة من هذه الذكرى ليزداد ثباته وصموده وثقته بنصر الله له!
وسوف أوجز للقارئ الكريم -على عُجالة- بعض الدروس التي لا بد أن نستفيدها من هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – في واقعنا اليمني وإليكم بعضاً منها على النحو الآتي :
-* نستفيد من هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – في حب الوطن: حيث قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عندما خرج من مكة مضطراً وهي أحب البلاد إليه متجهاً صوب المدينة – :”واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ “(1) فبشره ربه وأنزل عليه قوله تعالى :(إِنَّ الَّذِي فَرَ‌ضَ عَلَيْكَ الْقُرْ‌آنَ لَرَ‌ادُّكَ إِلَى? مَعَادٍ ..)[القصص :85].
وبالفعل فقد عاد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد سنوات إلى مكة فاتحاً كما وعده الله تعالى..
لهذا ندعو شعبنا اليمني بكافة أطيافه السياسية والحزبية إلى التفاني في محبة وطنهم، وإظهار ذلك الحب من خلال رفد الجبهات بالمال والرجال والسلاح والغذاء، وأن يستمروا في صمودهم وثباتهم ويثقوا بنصر الله، فهو آت لا محالة…
-* لقد جاءت حادثة الهجرة النبوية بعد زمان الأذى والفقر والتضييق والاضطهاد والحصار الاقتصادي الذي مارسه الأعداء ضد من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .. وإلى جانب ذلك كان المسلمون -آنذاك- قلة في العدد، ولم يكن لهم ملجأُ إلا الله عز وجل، ثم بالهجرة النبوية انكشفت غمة الحصار والتضييق، وانتشر نور الإسلام وظهر أمر المسلمين في كل مكان ..
وهكذا بتحرك الشعب اليمني وبثقته بنصر الله تعالى سوف تنكشف عنه غمة الحصار والتضييق، وسوف يكون له الظهور تصديقاً لوعد الله تعالى القائل : (..وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ‌ الْمُؤْمِنِينَ.)[الروم :47] وقال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِيى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[القصص : 5] .
وسوف يصل نور المسيرة القرآنية إلى كل مكان والتي بها ستنهد أركان الطغيان من الصهاينة والأمريكان.
* نستفيد من هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – التضحية والفداء، وأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وتتجلى في الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام- الذي فدى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بنفسه عندما نام على فراشه ليرى الإسلام النور الواعد .. فهنا قدم الإمام علي -عليه السلام- المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وضرب في ذلك المثل والفداء..
وهكذا يجب على جميع فئات الشعب وأطيافه الحزبية أن يقدموا مصلحة البلاد على مصالحهم الخاصة والحزبية الضيقة، وذلك بأن يوحدوا صفهم، ويلموا شملهم، ويتركوا خلافاتهم وخصوماتهم ومناكفاتهم السياسية، وأن يدافعوا على بلادهم ويضحوا من أجل وطنهم في الذود عن حياضه والدفاع عن حريته واستقلاله..
* نستفيد من هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – الثقة بالله، والأخذ بالأسباب.. فالرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – أخذ بكل الأسباب مع أنه يستطيع أن يدعو الله بأن يطمس أبصار المشركين ويهاجر جهاراً نهاراً أمام أعينهم ، ولكنه لم يفعل ذلك بل أخذ بالحيل والأسباب والتخفي كونه قدوة لمن بعده، والأسباب سنة كونية لا بد من أخذها.. فالثقة بالله والتوكل عليه لا تكون إلا بعد الأخذ بالأسباب ..
وهكذا علينا كشعب يمني الأخذ بجميع الأسباب كي نستمر في مواجهة هذا العدوان ، وأن نقدم كل ما لدينا من قوة، (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّ‌بَاطِ الْخَيْلِ تُرْ‌هِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ…) [ الأنفال :60].
ثم نثق بنصر الله ، وقطعاً إذا فعلنا ذلك ، فسوف يحدث التدخل الإلهي ويتجلى النصر كما تجلى لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وأصحابه وآل بيته الطاهرين..
* نستفيد من هجرة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – إتقان التخطيط وحسن توظيف الطاقات ..
لقد تم علف الراحلة وتجهيزها قبل أربعة أشهر وبسرية تامة ، وكلَّف علي بن أبي طالب بالنوم في فراشه – صلى الله عليه وآله وسلم – تمويهاً على المشركين وتخذيلاً لهم، وهو دور الفتيان الأقوياء…
أمَّا دور النِّساء، فيمثِّله قولُ عائشة – كما في البخاري(2) – متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: ” فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ…”(3)
وأمَّا دور الأطفال، فيمثِّله عبدالله بن أبي بكر، قالت عائشة – كما في البخاري(4) ايضا -: ” ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ…”(5)
ومن كمال التخطيط كان الراعي عامر بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار ليُزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وصاحبه من لبن غنمه ..
ومن كمال التخطيط اتخاذ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عبدالله بن أريقط دليلاً ماهراً عارفاً بالطريق ومتقناً لعمله ، ولذلك أرشدهما – بمهاراته – إلى اتخاذ طريق غير الطريق المعهودة.. فالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ما هاجر إلا بعد أن أتقن التخطيط، واستغل توظيف الطاقات، وعمل بالتمويه، وموُّه في طريق سفره وحركته على الأعداء بسرية تامة، ناهيك عن أنه جنّد العيون والأرصاد.
ونحن علينا كشعب يمني مجاهد أن نحسن إتقان الترتيب والتخطيط في جميع جوانبه في مواجهة أعدائنا ، وأن نستغل توظيف جميع الطاقات بما يخدم البلد في الدفاع عن سيادتنا ووطننا ..
وعلى المجاهدين أن يعرفوا أساليب العدو وتكتيكاته التي يعتمد عليها في الرصد والاستهداف ويلحقوا ضرراً كبيراً وخسائر بشرية ومادية والإجراءات الوقائية منها..
فالمجاهدون معنيون بالإعداد والترتيب والتمويه ؛ لأنه يقلل حجم الخسائر..
يقول قائد الثورة – حفظه الله – : ” القتال مع العدو ليس إلا جزءاً واحداً من أعمال المعركة، والجهاد يرتبط بما قبله من إجراءات وترتيبات، وهو الثمرة التي تقطف لتلك الإجراءات، فإن حصل فيها خلل انعكس ذلك على الثمرة وقت قطافها ..”
وبالتالي على المجاهدين أن يتعلموا من الهجرة النبوية ضرورة السرية في نقل الأخبار الهامة والتحركات العسكرية؛ لأن إفشاءها والبوح بها قد يسبب الفشل الذريع لدى المجاهدين إذا ما تسربت للعدو.. وكذلك العمل على معرفة ما يقوله العدو وما يخطط له ..
كل هذه الأمور لا بد أن يعيها المجاهدون من الجيش واللجان الشعبية؛ لأنها من أسباب حصول اللطف والعون الإلهي.
* نستفيد من الهجرة النبوية درس التفاؤل والأمل، فهذا سراقة بن مالك قد وعدته قريش بجائزة مائة من الابل إن هو أتى بمحمد حياً أو ميتاً ، فلحق سراقة بالنبي – عليه وآله الصلاة والسلام – فساخت أقدام فرسه في رمال الصحراء، فالتفت إليه رسول الله قائلاً : (كيف بك ياسراقة إذا لبست سواري كسرى ) وفعلاً عاد سراقة من حيث أتى ..
وهنا نسأل : ما الذي دفع الرسول – عليه وآله الصلاة والسلام – إلى هذا القول ؟ ومعلوم أن فارس والروم كانتا مثل أمريكا وروسيا اليوم.
الجواب : الذي دفعه إلى ذلك هو إيمانه وثقته وأمله بربه في نصره للمؤمنين ، وفعلاً تحقق لسراقة ما أخبره النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – به وذلك في خلافة عمر بن الخطاب عندما فتح المسلمون بلاد فارس..
ومثل هذا التفاؤل حدث في الخندق عندما بشَّر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أصحابه بقصور فارس وبشَّرهم بالنصر .. فالإسلام يطرد التشاؤم بالتفاؤل، والعسر باليسر، واليأس بالأمل، والكسل بالعمل ..
فعلينا كشعب يمني أن نكون متفائلين بكل خير قادم مهما اشتدت علينا الخطوب، ومهما زاد العدوان في جرائمه وعدوانه، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر..
وإنّ فجر النصر الأكبر آت بإذن الله لا محالة..
الهامش :
(1) “صحيح الترمذي” برقم ( 3925)
(2) “صحيح الإمام البخاري” ح(3905)
(3) – معنى “فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ” أي أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر..
– ومعنى “وصنَعْنا لهما سُفْرة” أي الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر
– ” في جِراب” أي وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه
(4)”صحيح الإمام البخاري” ح (3905)
(5) – فكَمُنَا : أي اختفَيا
– ثقفٌ : حاذق فطن
– لَقِنٌ : سريع الفهم.
– يختلط الظَّلام : تشتد ظلمة الليل..
المركز_الاعلامي_لملتقى_التصوف

قد يعجبك ايضا