لا أظن أن الأمة قد ابتليت بوباءٍ أشدّ فتكاً من وباءِ الطائفية السياسية ، إنها خزانُ الأحقاد المتوارثة الذي يعيق التخطيط الجاد للمستقبل والبقاء في أسر الماضي وهي مصدر خطير من مصادر دوامة الانتقائية في كتابة التأريخ التي لا يمكن أن تنتهي ما لم توجد سلطة ونخبة جادتان تحترمان العلم وتقدران أهميته في البحث عن علاج فعال يستأصل الوباء من جذوره ، سلطة قادرة على الخروج من حالة الغيبوبة الفكرية التي تسيطر على عقول بعض رموز هذه الأمة المتمسكة بجذور المرض المستميتة في تغذيته لإبقائه حيا مصرة على اعتباره دواءً وهو عين الداء ، والأدهى والأمرّ أن كل طائفة تدعي أنها على حق وغيرها على ضلال تَعِدُ أتباعها بالجنة وتَتَوعَّد مخالفيها بالنار.
إنها محنة حاول بعض مفكري الأمة من السنة والشيعة استشعار المسؤولية ودراستها منذ ظهورها بحثاً عما يوحِّد ويجمع ، ورفض ما يُفَرِّق ويثير الفتن ، ومن هؤلاء المصلحين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين نأخذ نموذجاً من السنة : (محمد رشيد رضا) 1855- 1935م لبنان القلمون وآخر من الشيعة 🙁 محمد حسين النائيني) 1860- 1936م – نائين إيران- اللذان اتفقا في المنظور العام من آرائهما حول كون الدستور أهم منطلقات توحيد نظام الحكم لتضمينه مبدأ الشورى الذي لا يختلف في جوهره عن الديمقراطية ، وهو الوسيلة المثلى لتقييد سلطات الحاكم ، وقد عانى كلاهما (هموم العمل من أجل إنجاح الثورة الدستورية في بلده ( الدولة العثمانية بالنسبة إلى رضا ، وإيران بالنسبة إلى النائيني ) (1).
ونلتقط هنا باقتضاب ملمح من ملامح فكرهما الإسلامي المستنير السني والشيعي ورؤيتهما بشأن علاقة مبدأ الشورى الإسلامي بالديمقراطية الغربية فنورد بعض من سجال مع قارئ مسلم كتبه رشيد رضا لـ (مجلة المنار) : (إلى من يرى في الشورى صيغة إسلامية لا علاقة لها بالحكم الديمقراطي الدستوري في أوروبا فيقول : (لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم أصلٌ من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام )(2) .
أما محمد حسين النائيني من إيران في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة ) الذي صدر بالفارسية في 1327هجرية 1908م وجُدِّدَت طباعته في 1955 مع مقدمة من آية الله السيد الطالقاني فقد قدم ( دفاعاً عن مبدأ الممارسة السياسية الدستورية من وجهة نظر إسلامية يرى أن الممارسة الدستورية هي مشاركة أفراد الأمة في القرار والولاية ومساواتهم على حد قوله مع شخص السلطان في جميع نوعيات المملكة المالية وغير المالية كما أنها حق للأمة المحاسَبَة والمراقَبَة وتحديد مسؤولية الموظفين ) (3) ، ومنهم طبعاً رؤساء الجمهوريات والملوك والسلاطين ، ويرى أن الاستبداد يقوم على شعبتين من العبودية : «معبودية السلطان « التي هي عبارة عن انقياد الأمة لإرادته التحكمية في باب السياسة والملكية كذلك يكون الانقياد والخضوع لرؤساء المذاهب والملل بعنوان أنه من الديانة «معبودية محضة « ويرى أن الاستعباد في القسم الأول مستند إلى القهر والغَلَبَة ومبنيُّ في القسم الثاني على الخِدعَة والتدليس ) (4).
من هنا يبدو جلياً أن مقولة 🙁 المنتصر يكتب التأريخ) بحاجة إلى إعادة قراءة بما يبعدها عن فكرة الإلغاء لأن المنتصر اليوم لابد أن يكون مهزوماً غداً وفق السنة الإلهية والطبيعية(وتلك الأيام نداولها بين الناس)، والمنتصر الحقيقي الصادق في كتابة التأريخ الأمين في الاستفادة منه والمحافظة عليه لأن في كل مرحلة تاريخية مضت ما يمكن الاستفادة منه بما فيها المليئة بالفساد والظلم والاستبداد لأنها صارت من الماضي وهو ملك الحاضر يستفاد من سلبياته بتجنبها ومن إيجابياته بالمحافظة عليها ومراكمتها ولأن تأريخ أنشطة السلطة العامة ملك المجتمع كافة وصيانة الآثار والحفاظ على الوثائق التاريخية من صميم الواجب القانوني والديني والأخلاقي لارتباطه بالأمانة بمعناها الشامل والأمانة التاريخية بشكل خاص ، والمنتصر الحقيقي والأمين يتجنب الانتقائية في كتابة التأريخ ويحافظ عليه لإدراكه أن القراءة العلمية المنصفة للتأريخ هي المدخل الحقيقي للبحث عن إعادة بناء سلطات الدولة على أسس علمية تجنباً لويلات الحروب والصراعات ،وقراءة التأريخ مَعينٌ للعبرة ، ولأن العالم يتكتل وتتشابك مصالحه فإن من المستحيل أن يعيش بلد معزولاً ، ومن المؤكد أن بين الاستفادة من ثقافة الآخرين وبين ثقافة الاستسلام بونٌ شاسع !!.
أعوذ بربِّي من الانغلاق
وشرِّ النفاق
أعوذ به من حياة القبور
(1) – وجيه كوثراني (التنظيمات العثمانية والدستور : بواكير الفكر الدستوري – نصاً وتطبيقاً ومفهوماً ص (16)
(2) – نفسه ص (17)
(3) – نفسه ص (18)
(4) نفسه ص(19)