في نهاية الأسبوع الماضي ودع حياتنا الفانية وزير الداخلية الأسبق اللواء محمد هاشم مرغم ، غادر الحياة بهدوء وصمت ، حيث اجتمع أصدقاؤه ومحبوه لتشييعه بعيداً عن الرسميات والمراسم المعهودة ، وكانت المفارقة أن الناس حضروا بأعداد كبيرة، نظراً لمكانة الرجل وأدواره المعروفة ، فلقد كان أول وزير داخلية يتصدى للفساد في زمن الصمت ، وكان الفساد في تلك الأيام يتركز في رديات القوات المسلحة والأمن ، وهي عبارة عن مرتبات المنقطعين أو الفرار الذين وقعت عليهم جزاءات في الوحدات العسكرية والأمنية ، إذ جاءه قائد أكبر وحدة عسكرية أمنية يُقدم إليه حصته من المبلغ خمسين ألف ريال ، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، إذ كان راتب الوزير لا يتعدى ألفاً وسبعمائة ريال ، فجن جنون الرجل وأمر بتوقيف ذلك القائد، وإرسال مبلغ الرديات كاملاً إلى المالية ، إلا أن شياطين الفساد كانوا كُثراً، وقد تجمع قادة الوحدات العسكرية خوفاً من انتقال الأمر إلى وحداتهم ، وكلهم يعيشون على الرديات ورواتب الأسماء الوهمية ، فجاءوا إليه يطلبون منه التغاضي وأخذ حصته مثل الآخرين ، لكنه تشدد في الموقف أكثر وهدد بفضح ما يجري ، وبالفعل تعاظم الأمر حتى كاد يُحدث مواجهة مسلحة ، وانتهى بإقالة حكومة الكُرشمي ، بعد أن تمت إزاحة المرحوم اللواء أحمد الرحومي من رئاسة هيئة الأركان ، وكانت الحادثة مشهورة لأنها كشفت عن وكر من أوكار الفساد في تلك الأيام، هذا أول موقف للفقيد..
أما الموقف الثاني، فلقد حدث أثناء رئاسته للجنة إعادة تجديد الحدود بين اليمن والسعودية في ضوء اتفاقية الطائف قبل التوقيع على اتفاقية التمديد عام 1973م، حيث عُرضت عليه أموال طائلة ليتغاضى عن بعض الاختراقات على امتداد الحدود المصطنعة اليمنية السعودية ، لكن الرجل رفض بإباء وشموخ وهدد بأن يفضح ما يجري على رؤوس الأشهاد ، وهو موقف أغضب من كانوا عملاء للسعودية في الداخل أكثر من السعوديين أنفسهم ، فتحاملوا عليه كثيراً ولكنه صمم على موقفه المتسم بالوطنية والنزاهة والصدق والإخلاص للوطن.
هذه المواقف هي التي جعلت الرجل يلمع في عيون الآخرين ويتحول إلى رمز وطني صادق ، وهي التي دفعت الكثيرين للمشاركة في تشييع جثمانه باعتباره من الوطنيين القلائل الذين تمسكوا بالمبدأ الوطني الصادق ، وكان الاستغراب المشوب بالتساؤل من الجميع أنهم لم يسمعوا أي إشارة رسمية من الدولة سواءً من الرئيس أو رئيس الوزراء أو أعضاء المجلس السياسي الأعلى ، لكن الرئيس مهدي المشاط- حفظه الله- تلافى الأمر وقدم برقية عزاء لأولاده في وقت لاحق عندما بلغه الأمر ، ونفس المشهد كان قد تكرر لرفيق دربه المرحوم اللواء أحمد الرحومي “رحمه الله” لأنه مات وتم تشييعه في صمت وهدوء تام ، وكأن الله أراد له ذلك الموقف الصامت الذي تماشى مع رغبته وأسلوبه في الحياة ، ولقد عاتبت يومها الرئيس الشهيد صالح الصماد “رحمه الله” الذي أبدى أسفاً شديداً واعتذاراً كبيراً وقال (أعذرني وأنقل اعتذاري إلى أبنائه وأهله وأقاربه ، أنا ومن في مكتبي لا نعرف شيئاً عن الرجل وأمثاله من المسؤولين السابقين ، لكن من الآن خُذ رقمي الخاص وإذا سمعت عن أحد من هؤلاء الناس اتصل بي وأنا سأشارك في التشييع ومواساة أهله فهذا واجب )..
من هذين الموقفين يتضح أن الخلل ليس في القيادات الفوقية ولكن لدى السكرتارية وبالذات في مكتب رئاسة الجمهورية لأنهم لا يفقهون شيئاً عن ماضي البلاد، والمصيبة أن ينسحب عدم المعرفة إلى الحاضر والمستقبل ، وهذا الأمر غير جائز في مركز كهذا وإدارة مثل مكتب رئاسة الجمهورية معنية بصناعة القرار ويجب أن يكون لديه أرشيف عام بكل الوزراء السابقين وأدوارهم حتى يظل التواصل الاجتماعي قائماً والمواساة قائمة باعتبارها مشاعر وجدانية تشارك الأحياء.
المهم أن الفقيد اللواء محمد مرغم كان رمزاً من رموز ثورة سبتمبر وكانت له أدوار مشهودة إلى جانب ما ذكرناه آنفاً ، وهذا هو الذي جعل الكثيرين يتسابقون لتشييعه ومواساة أهله أيام العزاء ، وهو خير دليل على أن اليمنيين يقدرون كل من ساهم في أي عمل يخدم هذا الوطن ، ومن الآن ولاحقاً لا بد أن يضع مكتب رئاسة الجمهورية كشوفات خاصة بهؤلاء الناس ويكلف المراسم أو العلاقات العامة بمتابعة كل من شغلوا مناصب وزارية في الدولة كما هو الحال في كل الدول ، فأي وزير سابق يتم الإعلان عن وفاته بشكل رسمي ، لكن في بلادنا قوانين خاصة ما أنزل الله بها من سلطان ، لا يفكر المسؤول إلا في من حوله أو أبناء قبيلته أو من يعرفه ، وهذا ما يحدث بالفعل، إذ نسمع في اليوم مئات التعازي تُعلن عبر وسائل الإعلام لأشخاص مجهولين يجهل الناس الكثير عنهم ، وهي مشاعر طيبة، المواساة وجبر الخواطر ضرورية ، لكن لماذا لا تشمل أيضاً هؤلاء الناس الذين قاموا بأدوار هامة؟! خاصة أمثال المرحوم اللواء محمد مرغم، فلقد تعرض للسجن عدة مرات من قبل المصريين وذاق الأمرين لأنه تمسك بوطنيته وعز عليه أن يتحول المصريون إلى محتلين بدلاً من مساعدين للجانب اليمني ، وكان يجاهر بهذا الصوت على رؤوس الأشهاد ، حتى ضاق به المصريون ذرعاً وأمروا بسجنه عدة مرّات ، ومن العيب أن يتجاهله الناس في مثل هذه الظروف ، بعد أن جاءت ثورة تصحيح المسار والأمل أن تُطعم سكرتاريات الرئاسات الثلاث بأشخاص لهم معرفة بأحوال الناس ومكاناتهم وأوضاعهم الاجتماعية حتى لا يحدث الشعور بالغبن وتنعدم مشاعر وقيم الأخلاق النبيلة التي تعودنا عليها كيمنيين مُنذ القدم.
رحم الله الفقيد محمد مرغم ورفيق دربه اللواء أحمد الرحومي وكل وطني صادق كان له دور بارز في هذا الوطن، ونسأل الله لهم الغفران ، فهذا أهم شيء يأمله الناس لكل من أنتقل إلى جوار ربه ، أما المواساة والمشاعر الدنيوية فهي للأحياء وليست للأموات ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، والله من وراء القصد ..