يرويها أحد وجهاء “بني عامر” في محافظة حجة: الثروة الزراعية قبل الهبات والمساعدات الخارجية

 

الثورة / يحيى مُحمًد

قال الشيخ عبدالعزيز حسن شعلان (بني عامر/ قفل شمر/ حجة) فيما يتذكر عن أيام الطفولة: كان الرعوي إذا راح “زهبه”؛ عريم الجربة، يجمع المشاقر ويرسل بها بنيه إلى أصحاب الأثوار ينادوا فيهم: “الغذاء عانة عند فلان بارك الله فيكم”، وفي صباح اليوم الثاني تجد الأثوار تبكر أسراب من كل فج في القرية متجهة كلها صوب النداء مصحوبة بالأهازيج وزغاريد النساء وهن يحضرن فروق البيوت من صحون اللبن والسمن والقرم، ويتم إعادة بناء “مثابر” الزهب في خلال ساعات”.
وأوضح في دردشة أجرتها معه “الثورة” على هامش الزيارة التي نظمتها مؤسسة بنيان التنموية واللجنة الزراعية والسمكية العليا إلى 16 مديرية من مديريات محافظات: المحويت، حجة، الحديدة، وريمة- في الفترة من 18 مايو- 3 يونيو 2021م- أن “الناس كانوا يزرعون أراضيهم ويرعون مواشيهم، فيأكلون من فضل الله، ويخزنون فائض مواسم الذرة داخل “مدافن” في الأرض، وإذا انعدمت الحبوب استبدلوها بالـ “الحلص”، أنا أكلت منه، هو (صح) كان يعطي اسهال، لكن يقضي غرض ويشبعك من جوع، ما كان عندنا أيامها سكر، ولا دقيق، ولا بر، ولا أرز، ولا زيت. الناس كانوا يعتمدوا على عطاء الله فيما أودع في بطون الماشية والنحل من الحليب والسمن والعسل، وفي بطون الأرض من الذرة بألوانها البيضاء والحمراء والصفراء والرومي والدخن والدجرة والكشد وأنواع البقوليات وبعض الخضروات من الطماطم والبسباس والثوم والقشم، والجزر الحالي “قند الأرض”، لم نكن نعرف البطاط والكوسة والجزر والخيار.
وأشار شعلان إلى أن أدوات الزراعة كانت الفأس، والحرث بالأثوار والحمير، والمتاع يحمل على الحمير والجمال، وكذلك البضائع أيضا كانت تنقل على ظهور الجمال والحمير، وكانت أيام الناس سابرة وعامرة بالخير الوفير، كان التعاون والتكافل وعون الفقير والمسكين والضعيف هو سر العطاء الإلهي بالأمطار، كان الناس متراحمين متعاونين بينهم العيب قائم، والأخلاق والعادات والتقاليد الحسنة قائمة وماضية على الصغير والكبير، الكبير يعطف على الصغير من كان يكون ويرده إلى الصواب ويصحح مساراته، وكذلك الصغير يحترم ويقدر الكبير كاناً من يكون.
وأفاد أن أباه الشيخ شعلان كان يملك أربع ضمايد (4 في 4 في 4 في 4 ثيران)، وكان معه 13 مدفن ذرة، تتفاوت سعاتها ما بين (25-40 قدح)، وكان يستأجر مدفن المسجد إذا أخيرت وسعته فوق المائة قدح، وكان الناس يقترضوا من بعضهم البعض أو من بيت مال المسلمين إلى الخير، وربك يرد عليهم، فيشبعوا حاجتهم ويردّون قروضهم من الحبوب. أما شقائق الرجال فيعملن في الزهب وكن ماهرات في صناعة الزووم والخمير الدخن الحامض، والمأكولات البلدية بالسمن والروبة واللحوح والفطير، وأقراص الحالي من الذرة الشامية أو الذرة البيضاء وعصيد الهريش.
وأضاف “كنت إذا دخلت بيت في القرية وبحوزته بقرة وشاة ومعزة، وحمار، وثور، قلت: هذا الرعوي ضعيف يستحق النظر إليه والمساعدة إذا ضاقت حاله، نادرا ما تجد بيت خال من المعز والشاة على أقل قدر، وهؤلاء كنا نسميهم الفقراء والمساكين، أما الرعوي الجهد، فبيته يرتكض بالبقر بالخمس والعشر، والماعز والشأة (الضآن) تعدها بالعشرات والمئات غير الحمير والأثوار، وبعضهم إذا معه تجارة وتنقلات خارج القرية فهو يمتلك الجمال”.
ونوه “كانت سواعد الرجال هي المعاول الحقيقية في جهود الحرث، والنفوس النقية والخالية من الأحقاد والضغائن هي السلاح الأقوى في مواجهة كوارث الطبيعة مهما قست، فالكل متكاتف ومتعاون، والشيء القليل يكفي الجمع الكثير، وكان الله يطرح البركة في كل شيء.. وفي المال والبنين وفي النساء وفي عرصات البيوت وحقول المراعي والزروع، والمياه في العيون والآبار أو من البرك والحواجز المائية التي كان الناس يقوموا ببنائها وتجبيصها وعنايتها بالتنظيف مع كل موسم (كله غرم وجايش)، لم نكن نعرف إن هناك دولة إلا حين ما ينادي الأمين إلى زكاة أو أيام القحط الشديد، كان الناس مبادرين إلى دفع الزكاة، وكانت الدولة ترد ما تأخذه على المساكين والضعفاء في حينه وتحتفظ بما تبقى لأيام القحط لتعين به المعسرين وتعتق الضعفاء”.
ولفت “ولم يكن الناس بحاجة للتقاضي عند القاضي إلا في النادر، لأن كل إنسان عارف ما له وما عليه، وإذا هناك خطأ من شخص الطارف يرده إلى صوابه، وإذا عظمت بين اثنين حكموا أمين القرية أو شيخ المنطقة، وفصل بينهما بيومه، وإذا هناك غرم على طرف شلته الغرامة، وسلامتك.. الضعيف والمسكين الذي ما يملك أرض يشقي مع أصحاب الأرض، لم يكن من العادة أن تجد واحد عاطل يتسول الناس وهو قادر على العمل، حتى الضعفاء والمساكين من الذين يعانون عجز إعاقة عن العمل كانت حاجتهم تصلهم من أهل القرية إلى بيوتهم مستورين ما يسألوا حاجتهم من أحد”.
وتطرق “كل ما كان يحتاج إليه المرء في القرية من خارجها محصور في مادة “القاز” و”الكبريت” وبعضهم كان يبدل القاز بسمن ويدق حجرتين وولع، ومربعات النبات (بدل السكر) وإلا يشربوا القهوة مر، في سوق القرية كل المعروضات من منتجات المناطق حول السوق أو من الوديان، وتهامة، حتى المصنوعات من الحلويات والملبوسات القطنية والجلدية والسعف واللحاف الحجي والحضرمي والتهامي.
وصحة الناس كانت على ما يرام، إذا جاء لواحد منا وجع في البطن كانت أمه تعطيه شوية حذوق (حلص مع الريبة) بشربه وبعده قلص قهوة بن بلدي حامي، ويرشح مع شوية عرق وقليل شقلبة فوق الفراش.. على إثر ذلك، يطرش قليل حامض وصفراء، وبعدها تجده بخير وعافية يجري مثل الحصان، وإذا عاوده الإسهال أو استمر يعطوه لبن الإبل لثلاث مرات وخلاص، وأغصان وأوراق “الذفران” كانت تستخدم للملاريا (الورد باللهجة المحلية)، وصلى الله وسلم على محمد وآله.
والماشية هي الأخرى كانت في صحة جيدة، ولا تشكو من أي أمراض، لأنها ترتعى من أوراق أشجار نقية ونظيفة، والدنيا كلها كانت غابات، ولم تكن هناك أي ملوثات للطبيعة كما عليه الحال اليوم، ولا يوجد قمائم من مخلفات البلاستيك والمعادن، والطبيعة معصومة من المبيدات والأسمدة.. هواها نقي من دخان العوادم. كانت الناقلة إذا حلبت تملي 3-5 جلنات (15_25 لتر).. اليوم، هذي هي الدنيا أمامك تكاد تكون خالية من الخضرة عدا حشائش تنبت مع موسم الأمطار.. إذا حلبت الناقة اليوم ما تملي وعاء عبوة لتر ونصف.
واستعرض “دخلت السيارة، ودخل معها البر والدقيق والسكر والزيت والزبدة المجاني في البداية، واغرقوا القرى بهذه المواد، والناس هرولوا إليها إلا من رحم ربي، وركنوا إليها إلا كان ذيب، فما كان إلا أن تدهورت الزراعة وتدهورت معها أعراف وتقاليد القرى من التعاون والتكاتف والحمية والأخلاق رويدا رويدا حتى صارت حاجة القبيلي كلها من السوق الأجنبي.
الناس جروا خلف كل جديد من الخارج، وعافت أنفسهم كل ما هو بلدي، إلى درجة إنك إذا وجهت اللوم إلى أحد منهم؛ لماذا أصلبت أرضك، وبعت مواشيك؟ يرد عليك: سأسرح اشتري لي نصف كيس دقيق، ونصف بر، وقطمة رز، وأخرى سكر، وجلن زيت، وقصعة سمن…إلخ، ما فائدتي مع التعب خلف الثور، والبهمة، والغنم، والشاة والملاحقة على بطونهن، وتنظيف معازبهن، كل شيء نظيف من السوق ورخيص؛ مشقاية يوم تعطيك كفاية شهر، وفعلا كانت الدنيا سدح مدح، واللي فقير يعطوه كفايته من الهبة الهولندية أيامها، ومنها منظمات الإغاثة”.
واستدرك “الأمل أن يأتي الخير مع الاتجاه نحو الثورة الزراعية، معولا في أن يتمكن الشباب الصاعد، الشباب المتسلح بالثقافة القرآنية والمنهج القرآني من مجاميع فرسان التنمية، واللجان الزراعية الذين باشروا حملات التوعية والإرشاد بأهمية العودة إلى تراث الآباء والأجداد في الاهتمام بالزراعة والرعي، وفي إحياء ميراث الأمة من العادات والتقاليد التعاونية والتكافلية من الجايش والغرم وإغاثة الملهوف”.

قد يعجبك ايضا