ضحيان الوجع

رويدا البعداني

 

 

من هُناك، من مدينة الجرح الدامي والوجع العصي، من مدينة الحُروبُ وقِبلة الرثاء أقدمتُ شرذمة من عاصفةِ الجرمِ بتواطؤ مخزٍ مع دويلات التحالف الصهيوأمريكي، على قصف حافلة عابرة لم تكن لخبراء عسكريين كما ادعوا، أو تحوي في جعبتها على صواريخ وقنابل كما زعموا، وإنما كانت تُقل على متنها ثلة من الزهور المنتجبة فاح أريجها القرآني في شهر آب، فما كان من ساقيها الجليل إلا أن أخذها لنزهةٍ؛ احتفاءً بما حقَّقته من طفرات عظيمة من حفظ القرآن، والولوج في محراب هُدى الله..
في ليلة الأربعاء احتارتِ الأمهات ماذا عساهن يُلبسن صغارهن ليوم الغد، أي الثياب ستبدو الأجمل على أجسادهم الغضة؟! وكذلك حالهم فلا يكاد الفجر ينبلج حتى نهضوا مهرولين من مضاجعهم؛ للتأهب وتجهيز حاجياتهم كي لا تفوتهم الرحلة، فها هي الشمسُ تشرقُ على وجوههم الباسمة، وأقدامهم التي قد ملَّت الوقوف، وضاقت ذرعا من فرط الانتظار..
وأخيرا..!! أتت الحافلة المنتظرة، وأخذت تجمعهم بجذل وسرور من هُنا وهناك، بينما أيادي الأمهات تلوح رويدًا رويدًا من عتبة كل بيت وفناء.. أتراه كان الوداع الأخير؟! أم أن المشهد الراعف بالنهاية المؤلمة لم يبدأ بعد؟!
على ظهر الحافلة تتعالى الضحكات، وتتوق الأنفس للوصول بسرعة.. هي لا تعلمُ بعد عن مصيرها المجهول.. بعد لحظات من السعادة والبهجة والمرح توقفت الحافلة قُرب أحد المحلات الغذائية؛ لشراء مستحضرات الرحلة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى دوى صوت انفجار عنيف هز أركان السوق وعاث فيه خرابا.. انطفأت البهجة، وسكنت الأصوات فجأة عدا أصوات الصواريخ التي توالت ضرباتها على الحافلة، بحُجَّة أنها لخبراء عسكريين ومن هذا القبيل لتواري سوءة جرمها كما اعتادت..
تصاعد الدخان من مكان الجريمة، وتلاشى على أرجاء المدينة، غدا يصول ويجول على مستهل البيوت والأفنية كهدهد ينبئ الأهالي عن ما اقترفته الأيادي الغاشمة.
وقتذاك هبَّ الجميع رجالا ونساءٍ وكهولا، ما إن وصلوا حتى تفتقت أفئدتهم من هول ما رأوا، أخذ كل منهم يتفقد الجثث المتفحمة، فهناك أم تُنبش ما بين الركام علَّها تجدُ طفلها حياً، وهناك أختٌ تبحث عن أخيها فلا تجدُ إلا رفات حقيبته، وفردة حذائه الملطخة بالدماء. ومنهم من يقلِّب بصره بحيرةٍ وقد هالهُ المشهد العصيب الذي يدلُ على مدى الخزي الذي وصل بآل سلول، وتفاقم العار الأممي الذي بلغ من الظلم والتعدي والانتهاك ذروته..
بعدها خيَّم الألم على كل بيت، وأضحت ضحكات الزهور تلك مجردُ ذكرى يفوح عبيرها مع عبق دمائهم الطاهرة، فها هي الأرواح الملائكية قد ارتقت نحو السماء تاركة وراءها أرواحاً طافحة بالألم والالتياع، وأفئدة محطمة يكاد نبضها ينطفئ من فرط الفاجعة.. وستبقى هناك حقارة خلَّدت نفسها بالدناءة على مر العصور، لتكون تلك الجريمة أحلك صورة عرفها تاريخ البشرية.

قد يعجبك ايضا