اعترافات مثيرة في حوار ينشر لأول مرة

نَبْش في ذاكرة عبدالفتاح عبدالولي.. وحكايته مع الكاريكاتير (1-2)

أبو وضاح يتذكر لعبدالحليم سيف:تَركْتُ القرية إلى عدن بحثاً عن التعليم فوجدت نفسي في معلامة الإرشاد
اختارني أستاذي أحمد هاشم مبلِّغا للمصلين في مسجده في المعلا
أردت الالتحاق بمدرسة بازرعة في كريتر فنقلني أخي محمد عبدالولي إلى تعز
خرجت من “الأحمدية” بصفعة وبقشتين بعد مظاهرة الطلبة
تعز شكَّلت منعطفاً مهماً أثر في مسار حياتي المستقبلية
“المخلافي” استقطبني إلى “الإخوان”.. فالتحقت ” بالقوميين العرب”
لن أنسى فضل الوالد أحمد عمر العبسي وزوجته يوم لجأت إليهما
أستاذي الأول في الرسم رمضان…والأديب موعد شجعني على كتابة القصة
نقلت ماتعلمته في ثانوية تعز إلى مدرسة الإرشاد في ظبي
في موسكو حررت” صنعاء “وأصدرت “القريحة” وشاركت في معرض للفنون التشكيلية

حكاية عبد الفتاح عبد الولي مع فن الكاريكاتير طريفة جداً؛ أهم ملامحها أنها ظلت نحو عقود من الزمن بعيدة عن الأضواء ، لا يعرفها كثيرون من اليمنيين؛ حتى أعز أصدقائه وقراء الثورة اليومية ، يجهلون الاسم الحقيقي لرسام الكاريكاتير فيها، حين كان يوقع باسم مستعار بين عامي 1979 – 1980م ، فقد عُرف عنه كقاص وفنان تشكيلي ومستشار قانوني، لكن فجأة يكتشف معظم الناس أن “فتاحا” أحد رواد فن الكاريكاتير في الصحافة اليمنية أيضاً..، ويُحْسَبْ له أنه أول رسام أدخل بريشته المبدعة الكاريكاتير إلى” الثورة” كمادة يومية؛ ليترك بصمة في مسيرة صحيفة وفنان ؛ فهذه الحقائق؛ لربما تثير اليوم دهشة كثيرين.. قد يرجع ذلك إلى تقصير مسؤولي الصفحات الأدبية في الصحف والمجلات الثقافية طيلة الفترة المنصرمة؛ أو بسبب طبيعة عبدالفتاح الخجولة والمتواضعة، وعدم حبه للأضواء وعزوفه الحديث عن نفسه… !

الثورة / عبدالحليم سيف

اكتشاف عبد الفتاح
كيف اكتشفت حكاية الفنان عبد الفتاح عبدالولي في عالم الكاريكاتير..؟!
-تقتضي الإجابة على سؤال كهذا، أن أعود بكم قليلاً إلى الخلف.. وتحديداً إلى النصف الثاني من 2001م، عندما كُنتُ أقوم بجمع مادة كتابي الموسوم بـ(40 سنة صحافة : الثورة النشأة والتطور )..، وبالعودة إلى تصفح مجلدات “الثورة” منذ ميلادها في تعز يوم 29 سبتمبر 1962م ..مروراً بانتقالها إلى صنعاء في مايو 1964م وحتى نهاية الألفية الأولى ، لتتبع تاريخ ظهور فنون التحرير.. بما في ذلك الصورة الفتوغرافية والكاريكاتير على صفحات الجريدة..، لم يكن سهلاً أن أعثر على فن الكاريكاتير..، فقضيت وقتاً في تصفح الأعداد الأصلية لـ”الثورة” -عينة عشوائية-، وبعد طول بحث وجدت حضوره مرة واحدة في عام 1974م ،ليغيب بعد ذلك لفترة، وليظهر من جديد بشكل خجول وغير منتظم مع حلول العام 1978م..وفي العام التالي –أي عام 1979م – قفز الكاريكاتير إلى صدر صفحات الجريدة.. وكانت الرسومات تنشر بتوقيع(وضاح)، ترى من يكون صاحب هذا الاسم.؟!
لمع في ذهني هذا السؤال ..فكان عليّ البحث لمعرفته فلجأت إلى من سبقني إلى الثورة الصحيفة من زملاء عاصروا تلك الفترة.. ومن هؤلاء الصديق والزميل والفنان أحمد حسين الاشول.. فقد أخبرني بأن رسام الكاريكاتير في “الثورة” هو الأديب والقاص عبد الفتاح أحمد عبدالولي، الذي يعمل في البنك اليمني للإنشاء والتعمير.. وهو أخ الأديب الخالد محمد عبد الولي.

وماذا بعد؟
-بعد خروج كتابي من مطبعة مؤسسة الثورة للصحافة والأنباء في يناير 2002م..حملت نسخة منه ، وذهبت بها صباح ذات يوم إلى مقر البنك الإسلامي اليمني الواقع في شارع الزبيري حيث يعمل عبد الفتاح عبدالولي مستشاراً قانونياً بعد تركه للبنك اليمني للإنشاء والتعمير ..اهديت له نسخة من كتابي.. وأنا أُشير إلى رقم الصفحة(163) واسمه قلت له ممازحاً : قفشتك يابو وضاح في كاريكاتير (الثورة)..، ساعتها وكعادته وقف مبتسماً ومندهشاً ومسروراً .. وقال لي : ” تصوَّر لم أكن اتخيل في يوم من الأيام أن أحدهم سيكتشف الاسم الحقيقي لصاحب تلك الرسومات…أنا أشكرك بالطبع وأنت إنسان جميل وصحفي محترف… “.
قلت له: بطل مجاملة.. والشكر وحده لا يكفي…أطلب منك أن تطلع على الكتاب.. وتعطيني رأيك بصراحة في هذه المحاولة.. وهي الأولى من نوعها في تاريخ مسيرة الثورة الصحيفة.. ويمكن تفيدني بملاحظاتك القيمة..، وبالمناسبة أيضاً تستذكر تجربتك مع كاريكاتير الثورة..، وبالفعل كتب مقالة رائعة عن الكتاب وصاحبه.. ،لكنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى ماطلبت منه!
ومضت أعوام ..، ولم تغب في رأسي فكرة الحوار مع عبد الفتاح في إطار سلسلة من “حوار الذكريات” مع رواد الصحافة والفن والتعليم ونحوهم نُشرت بعض أجزاء منها في “الثورة”، فتواصلت معه مستفيداً هذه المرة من خدمة “الوتساب” إحدى وسائل التواصل الاجتماعي.. فكتبت له رسالة أذكره بمشروع الحوار.. وهو طلب قديم يتم تأجيله من عام إلى عام.. فيما السنوات تمضي من أعمارنا.. ولا أحد منا يعرف موعد رحيله المفاجىء من هذه الدنيا الفانية خاصة في زمن الحروب والكُرَبْ.. وما بينهما من منغصات وويلات لا قبل لنا بتحملها.. وقد تركت له وقتاً للتفكير.. مع معرفتي المسبقة أنه ينزعج من طلب إجراء أي حديث معه للصحافة من قبل زملاء وأدباء.. !
وعندما تأخر في رده بما يُفيد..، عُدت ذات يوم لطرق بابه لإكمال ما بدأته..فرد على طلبي برسالة عبر الوتساب: ” يا صديقي حليم..دعني أقول لك كم أنتم الصحافيين مزعجين.. لا تكفوا عن الإلحاح.. ولا تحبطوا من شخص لا يريد الحديث عن نفسه مثلي.. فأنا ليس لدي تجربة بالأصل تستحق تعبك…”.
قلت له ضاحكا : ” إنتبه تغلط على الصحافيين.. فأنت رجل قانوني.. وعندك تجربة في فن الكاريكاتير ..ثم لا تقابل إلحاحي بالرفض.. فأنا صحافي يحاول فتح ثغرة في جدار ذاكرة الرواد في بلاط صاحبة الجلالة وأرباب القلم وسواهم للغوص فيها.. وعرض تجربتهم لغيرهم من الأجيال وللباحثين والمهتمين بسيَرْ المبدعين.. وللتاريخ أيضا..”.

وقلت له مسترسلاً :
ها أنذا بعد سنوات.. أعود مجدداً لأعرض عليك مشروع الحوار عن تجربتك الأدبية ككاتب ورسام وقاص وشاعر.
قال فتاح : ” يا صاحبي مافيش داعي.. تشتي تفضحنا ..”!
قلت له : فكر.. لا تستعجل بالرفض.. وهكذا تركتك فترة وعدت ثانية أدق باب الحديث معك ورديت عليّ :” أعرفك عنيداً… لا تيأس من موضع تحطه برأسك.. خلاص تمام موافق على الحوار.. بس مش وقته..” ! فقلت لك ..” شوف ياصديقي هذا العذر كم يستفزني عندما أسمعه من شاعر أو أديب أو صحافي مخضرم وحتى طبيب حينما أعرض عليه الحوار.. وهو يتحجج “مش وقت هذا..وليس مهما الآن”.. ولا أدري ما هو الوقت المناسب.. عموماً سوف أرسل لك بالمحاور.. فكر ورد علىٌ بالإيجاب “.

ثم ماذا… ؟
مضت أيام والتقيت الفنان عبد الفتاح في مناسبة تشييع الزميل الصحفي محمد العبسي إلى مقبرة “الكرامة” في ” سواد حنش” بالقرب من شارع الستين بصنعاء.. كان ذاك يوم جمعة 15يناير 2017م..و بجانبه ابنه البكر وضاح.. قلت له مخطباً ومعاتباً: ” شوف أبوك ياوضاح ورطك.. استخدم اسمك دون علمك.. أو موافقتك في رسم الكاريكاتير ..ولا يريد أن يعترف علانية…” ..وزدت : ” لم يتعبنا أحد مثل الأستاذ عبد الفتاح.. ألح عليه بإجراء حوار معه.. فيخلق ألف عذر وعذر…، ثم وجهت كلامي لعبد الفتاح :” ها.. ألم يحن الوقت بعد لنكمل ما بدأناه…”..ضحك قبل أن يرد بقوله : أعرف أنك زعلان مني ..ومعك كل الحق.. لكن سوف أرفع الراية البيضاء.. وامتثل لرغبتك.. واستجيب لطلبك.. وإنما الحديث ليس للنشر …”.
قلت له:” مكانك ترد على طلبي باستخدام الفيتو…دعنا نتم الحوار أولاً ..واعدك بأنني لن أنشر حرفاً منه إلا بعد أن توافق على كل سطر.. ثم نتفق على موضوع النشر من عدمه.. وبالطبع الأمر متروك لك…”.
قاطعني قائلاً :” لا ..لا أضحك معك”.
تذكرت هذه الوقائع.. وأنا استحضر بعضا من الذكريات المرتبطة بالحوار القادم ، الذي كان مستحيلاً أن يتم ..فهو لم يكن محصلة لبضعة ساعات أو لجلسة واحدة..، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ العزيز.. بل جرت وقائعه في فترات متقطعة من الزمن.. أنا أسأل.. وفتاح يجيب ولكن بالقطارة!!

محطات فتاح
قبل أن نبحر معا على متن قارب” ابوضاح الكاريكاتوري”، ولفهم مسيرته الطويلة.. الشخصية والفنية ، من المناسب التوقف أمام أبرز محطاته.. من طفولته وصباه وشبابه ورجولته.. إلى أن أصبح أحد رواد القصة والفن التشكيلي في اليمن وقبل ذلك مستشاراً قانونياً.
ولد عبد الفتاح احمد عبدالولي، في عام 1949م، ..فتحت عيناه على هذه الحياة في قرية حارات بعزلة الاعبوس ناحية القبيطة سابقا.. مديرية حيفان حاليا محافظة تعز..، عندما بدأ يعي ما حوله، وجد نفسه ككل أترابه في اليمن في حالة تيه وضياع، وسط بيئة قاسية غير رحيمة، تفتقر للحد الأدنى من وسائل العصر.. فلا مدارس للتعليم.. ولا مشافٍ للطبابة.. ولا كهرباء لتبديد وحشة ظلام الليل، ولا غذاء أو كساء لستر الأجساد النحيلة.. وكان في السادسة من عمره تقريباً بدأ تعليمه الأولي بمعلامة الفقيه علي جازم -رحمه الله- لكنه لم يستمر طويلا.. فماذا حدث له :
ذات صباح من سنة 1956م ، وقبل شروق الشمس يترك دار والده ، ليمضي سيرا على الأقدام إلى وادي الأعبوس حيت تقف السيارة (عنتر ناش) التي ستقله مع مجموعة من أقربائه وأهل قريته في طريق السفر عبر المفاليس إلى مدينة عدن..، وهي المرة الثانية له فقد اصطحبه قبل عام والده الحاج أحمد عبد الولي، – من رجال الأحرار اليمنيين- عندما كان في طريقه إلى الحبشة ،وفي عدن بدأ الصبي فتاح يتحسس طريقه في عالم آخر غير ذلك الذي ألفه في قريته…هنا المظاهر الحديثة مثل الكهرباء والسيارات والمدن والشوارع والناس من جميع الأجناس.
كان التعليم هو هدف انتقال عبد الفتاح إلى مدينة عدن المستعمرة البريطانية وقتذاك ..المدينة التي كانت الإنسانية أروع أبوابها.. فتحتضن جميع اليمنيين القادمين من المملكة المتوكلية ( الشمال)..والمحميات الشرقية والغربية (الجنوب) ومن جنسيات مختلفة دون يجرؤ أحدهم أن يسألك: ما بلدك .. أو قبيلتك.. أو وماذا جئت تعمل في عدن؟! ..فيلتحق فتاح بمعلامة (مدرسة الإرشاد) بالمعلا المعروفة في ذاك الزمن لصاحبها أحد أشهر الفقهاء في عدن الحاج أحمد هاشم العبسي.. وهو صديق والد عبد الفتاح..على مدى سنتين بقي يدرس مع زملائه القراءة والحساب والخط والقرآن الكريم، لم يكتف عبدالفتاح بدارسة العلوم الدينية.. بل كلفه أستاذه المرحوم أحمد هاشم ليكون مُبلغاً للمصلين لنقل الصلوات الخمس لهم في الطابق الثاني في مسجده الصغير المكون من دورين ، الذي يقع بين شارع الصعدي والشارع الحربي، شارع مدرم فيما بعد.

من عدن إلى تعز
وفيما كان فتاحا يفكر بالالتحاق بمدرسة بازرعة الخيرية العريقة التي يتعلم فيها أبناء الشمال والجنوب ..ممن لا يقبلون في مدارس الحكومة.. إلا بمخلقة تؤكد أنه ولد في عدن بغض النظر عن جنسية أمه وأبيه.. جاء أخوه محمد أحمد عبدالولي رائد الرواية اليمنية والدبلوماسي والناشر المعروف إلى عدن من القاهرة.. ولم يسره المستوى التعليمي لعبدالفتاح فاصطحبه إلى مدينة تعز.. كان ذلك في مطلع عام 1959م،حيث عاش في منزل منصور عبدالله ناجي وهو قريب وشريك لوالده عبدالولي في مستودع التوفيق لقطاع الغيار الواقع في الشارع المؤدي إلى باب موسى والتحرير.. وفي تعز يواصل عبد الفتاح دراسته الابتدائية في مدرسة الفلاح بالمظفر جوار الشبكة.. وتم قبوله في الفصل الثالث ابتدائي..(هذه المدرسة هدمت وأقيم بموقعها مجمع السعيد التعليمي للبنات في الوقت الحالي)، ثم انتقل إلى المدرسة الأحمدية (شارع المدرسة سابقاً.. فأصبح بعد قيام ثورة أيلول 1962م “شارع 26سبتمبر” ، حتى توقفت فيها الدراسة إثر مظاهرة الطلبة الشهيرة في عام 1961م.. احتجاجا على الأوضاع المزرية حينذاك ..فقد اعتصم الطلاب داخل “المدرسة الأحمدية” وطوقتهم قوات بقيادة نائب الإمام( أحمد حميد الدين)..هددت الطلبة بنسف المدرسة على رؤوسهم ..فقام جنود الإمام تحت تهديد السلاح بإجبار التلاميذ الصغار على مغادرة مبنى المدرسة.. ومنهم عبدالفتاح الذي خرج بصفعة وبقشتين.. في حين تمكن الطلاب الكبار التسرب من مبنى المدرسة.. ولجأوا إلى جبل” الضربة”، الواقع فوق منتزه المسبح حالياً.. فلاحقتهم القوات الإمامية في الجبال المحيطة بمدينة تعز.. فهرب البعض منهم إلى عدن ..والبعض الآخر تم القبض عليه واودع سجن الشبكة.
وبعد قيام ثورة 26سبتمبر 1962م..بدأت محطة جديدة في مسيرة عبد الفتاح كان لها تأثير في مسيرته فيما بعد.. فقد هيأت الأجواء الجديدة له كسائر أبناء جيله فرصة ذهبية غيرت مسار حياته.. حيث أنهى الابتدائية في الأحمدية، ودرس بمدرسة ناصر حتى الثاني إعدادي، ثم التحق بمدرسة الثورة الثانوية التي انشأتها مصر عبدالناصر بالمصلى…وبعد مغادرة المعلمين المصريين اليمن إلى القاهرة عقب نكسة الخامس من حزيران 1967م إثر العدوان الصهيوني الإسرائيلي بدعم أمريكي غربي والذي نجم عنه احتلال أرض عربية هي مصر والأردن وسوريا ..وما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية( الضفة الغربية وغزة والقدس الشريف) ..وفي تلك الأيام توقفت الدراسة مؤقتاً في ثانوية تعز.. فيعود عبد الفتاح عبدالولي إلى قريته في الاعبوس وهناك التحق بمدرسة الإرشاد في ظبي معلما متطوعا.. تحت إدارة الأستاذ عبدالرؤوف أحمد عثمان حميد حيث نقل فتاح إلى تلاميذته ما تعلمه على يد أساتذته المصريين والسوريين من علوم ومعارف خاصة في مجال التربية الفنية والكشافة والمسرح ..فعمل على تأسيس فرقة الكشافة لأول مرة في تاريخ مدرسة الإرشاد.. وشارك في تنشيط العمل المسرحي في المدرسة من حيث الإعداد والإخراج والتدريب.. وبعد هذه التجربة يعود عبدالفتاح إلى مدرسته في تعز ..وفيها ينهي دراسته الثانوية العامة للعام الدراسي 1967/ 1968م القسم الأدبي.

المنعطف
وقبل ذلك بسنوات ثلاث.. أنتقل عبدالفتاح للعيش في كنف المربي المرحوم أحمد عمر العبسي.. ولهذا التحول قصة : فبعد أن انفضت الشراكة التجارية بين والده وقريبه.. أصبح غير مرغوب به بالبقاء في بيت منصور ..وهنا واجه أزمة لم تكن في الحسبان .جعلته يعيش في حالة قلق.. لكنه وجد في منزل الوالد الجليل والأب الروحي الكثير من الوطنيين والشباب أحمد عمر العبسي وزوجته الفاضلة بهجة ملاذا له ..فكان أحيانا يأكل ويشرب في بيته.. ويذاكر وينام ويمارس هواياته في “أستوديو أحمد عمر” الشهير في شارع 26سبتمبر..وفي تلك السنوات ابتسمت لفتى الاعبوس الحرية التي افتقدها قبل ذلك.. فقد أتاحت له الظروف الجديدة دراسة الثانوية العامة فرصة أدبية.. وفي المرحلة المبكرة أظهر اهتماما وشغفا بالكتابة والرسم ..أسهم في تشجيعه لكتابة القصة محمود موعد أستاذ اللغة العربية وهو أحد أفراد البعثة التعليمية السورية من أصل فلسطيني.. بعد أن عمل مسابقة أدبية وكانت قصة فتاح إحدى الثلاث القصص الفائزة.. فيما قام بتدريبه وتشجيعه لممارسة الرسم عضو البعثة المصرية محمود رمضان أستاذ التربية الفنية وهي مادة مقررة في المنهج الدراسي في جميع المراحل التعليمية آنذاك.. كما في التالي من السنوات .

من “الإخوان ” إلى “القوميين “
وخلال فترة دراسته في تعز كان عبد الفتاح يلتهم كل مايقع بين يديه من كتب وقصص ..ويواظب على حضور فعاليات المركز الثقافي المصري الواقع في ميدان العرضي(الشهداء)… ولأن مدينة تعز كانت تعيش في زمن العنفوان الثوري السبتمبري فقد كانت أجواء تعز في تلك الأيام وثيقة الصلة بمكونات المرحلة السياسية والحركات الحزبية بمختلف مسمياتها الإسلامية والقومية واليسارية والبعثية والناصرية.. ولأن الشباب كانوا ساحة مفتوحة للتنافس بين تلك التيارات وهي تمارس مناشطها بعلانية.. ففي تلك الأثناء قام الداعية عبده محمد المخلافي مؤسس الإخوان في اليمن باستقطاب عبد الفتاح عبد الولي إلى مركزه الإسلامي الواقع بنفس الشارع الذي كان يقيم فيه بن أحمد عبد الولي عند قريبه منصور ..وهو الشارع الرابط بين الباب الكبير وباب موسى خارج السور (تم هدمه بعد قيام الثورة وتم بناء دكاكين وعمارات سكنية فيه) وقتذاك كان عبدالفتاح يشارك في رسم وتحرير نشرة المركز الحائطية الثقافية.. إلا أنه لم يستمر طويلا.. فانخرط في حركة القوميين العرب التي جاء منها الحزب الديمقراطي الثوري اليمني.. وأصبح عضوا فيه.. إلا أنه جمد نفسه أثناء دراسته في موسكو لأسباب خاصة.. ومنذ ذاك أصبح مستقلا عن أي التزام حزبي .

“صنعاء” و “القريحة”
وكان فتى الاعبوس قد حصل سنة 1968م على منحة دراسية إلى موسكو وألتحق بجامعة الصداقة بين الشعوب التي حملت اسم المناضل الأفريقي بتريس لوممبا.. وخلال دراسته للقانون انخرط كغيره من الطلبة في نشاط رابطة الطلبة اليمنيين في عموم الاتحاد السوفييتي التي تضم الطلبة المبعوثين من شطري اليمن.. وطوال تواجده في موسكو مارس هوايته الرسم.. فيشارك لأول في معرض جماعي للفنون التشكيلية أقيم بجامعة الصداقة بموسكو عام 1973م.. علاوة على ذلك كان يرسم ويخرج صحيفة الرابطة الحائطية(صنعاء)..كما أصدر صحيفة حائطية أدبية ثقافية سماها(القريحة) نالت شهرة واسعة بين صفوف الطلبة.. وفي هذه المحطة من مشواره بدأ يكتب القصة القصيرة وينشرها في مجلة الحكمة الصادرة في عدن عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين… وفي عام 1974م نال شهادة الماجستير في القانون.. ليعود إلى الوطن فيعمل في الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة عند إنشائه لمدة عامين.. ثم انتقل إلى المكتب القانوني للدولة.. ومنه ابتعث للدراسة في المدرسة الوطنية للقضاء بباريس لهدف تأهيل كادر وطني للعمل في النيابة العامة التي أنشئت في ذلك الوقت.
وبعد نيله دبلوم عال في القضاء عاد ليعمل في النيابة العامة في صنعاء.. فتم رفضه بحجة أنه لم يدرس الشريعة الإسلامية.. فاضطر للالتحاق بالبنك اليمني للإنشاء والتعمير واستمر فيه لمدة سبعة عشر عاما تولى منصب مدير الإدارة القانونية.. ثم انتقل للعمل في البنك الإسلامي اليمني للتمويل والاستثمار كمستشار قانوني لمدة13عاما ..وكان في تلك الأيام يخصص من وقته للكتابة والرسم التشكيلي…وفي ذات الوقت يحرص على متابعة المعارض الفنية والدوريات الفنية فاكتسب ثقافة فنية واسعة ساعدته على صقل موهبته.
وبعد تلكم المعلومات التي أوردتها قبلا التي جاءت على لسان الفنان عبدالفتاح عبدالولي.. وقد استخلصتها من حديثه الطويل معي…وكانت مقدمة تمهيدية للحوار المكرس لعرض تجربته الكاريكاتورية في صحيفة الثورة ..تتابعونه في الجزء الثاني ..
22 /5 /2021م

قد يعجبك ايضا