الجثة المدفونة 1-2

بعد حوالي تسع ساعات من وصول التعميم إلى مركز شرطة بيت بوس وأرتل بمحافظة صنعاء عن فقدانه والذي كان قبل أربعة أيام من الأمانة تم اكتشاف الجثة ومعرفة ملابسات الجريمة وكذلك تم التوصل إلى الجاني والمشتركين معه وإلى أداة الجريمة التي كانت عبارة عن مسدس تابع للمجني عليه نفسه.

وقد لاذ المتهم “الجاني” الأساسي عقب ارتكاب جريمته إلى منطقة رداع بمحافظة البيضاء وكان مكان هروبه مجهولاٍ ولكن بتفاني شرطة المركز في البحث والتحري وتقصي آثاره تمكنوا من تحديد المكان وكذا من ضبطه وإحضاره من رداع إلى صنعاء بنفس الليلة بحيث لم تبزغ شمس الصباح إلِا وهو رهن الاحتجاز إلى جانب من اشترك معه بحجز المركز والجريمة مكتشفة ومثبتة بكل حقائقها وخفاياها كاملة وأصبحت أوراقها ومحاضر جمع استدلالاتها مستوفية وجاهزة لإحالتها مع المتهمين فيها إلى الجهة المختصة في الطريق للقضاء.. وها هي التفاصيل من بدايتها.
في مساء ذلك اليوم (الجمعة) والساعة تشير إلى التاسعة مساءٍ كان وصول تعميم رسمي من مباحث العاصمة صنعاء إلى مركز شرطة بيت بوس وأرتل التابع لمحافظة صنعاء والتعميم عن اختفاء شخص اسمه بدر وعمره 27 عاماٍ وذلك قبل أربعة أيام وفقدانه كان من الأمانة والمطلوب هو تعاون المركز ومشاركته البحث والتحري عن الشخص المشار إليه في نطاق اختصاصه من منطلق التكامل بين جهات الشرطة في أي بلاغ وقضية… فاهتموا بمركز شرطة بيت بوس بهذا التعميم من ساعته وفي مقدمتهم الرائد عبدالحميد المقدشي مدير المركز الذي تحرك ومعه النقيب عمر اليوسفي رئيس مكتب البحث ونائبه المساعد صدام القيري وكذا المساعد زياد المقدشي والمساعد عبدالسلام الدباء والمساعد مناع القيري والعريف طارق الهيصمي والعريف سليم القاضي وبعض الأفراد ومنهم سيف فراص وعبده الموزعي وعبدالقوي سرحان وعبدالرحمن الأهدل إضافة إلى مرافقي مدير المركز عينه وهؤلاء كما أثبتوا في أكثر من قضية سابقة من رجال المهمات الصعبة.. والذين انطلقوا كفريق واحد لتمشيط منطقة بيت بوس أحياءها وشوارعها طولاٍ وعرضاٍ يتحرِون ويفتشون فيها عن الشخص المفقود المعمم به واهتمامهم هذا وتحركهم من المركز للبحث مع أن القضية مجرد تعميم عادي عن شخص مفقود والوقت كان الليل وبالإمكان الانتظار للصباح إلا أن مدير المركز عبدالحميد المقدشي هو من النوع الذي يحس بمسئوليته ويستشعر أهمية الاهتمام واستغلال الوقت تجاه أي بلاغ أو قضية حتى لو كانت في المظهر العام عادية وبسيطة باعتباره ضابط شرطة وقيادياٍ مسئولاٍ عليه أن يتسم بهذه الصفة ولأن الأمر الذي يظهر صغيراٍ قد يؤدي إلى ما هو أكبر وما لم يخطر على بال.. وذلك ما حدث له أو معه وفريقه في هذا المساء عند انطلاقهم وانتشارهم لمسح أحياء منطقة بوس للتحري بحثاٍ عن المفقود المعمم بشأنه.. فقد حدثت المعجزة وحالفهم الحظ أثناء ذلك وتوصلوا إلى معلومة عابرة من أحد الأشخاص المواطنين تفيد أن ثمة رائحة كريهة وغريبة غير مألوفة جداٍ تنبعث من داخل بقعة أرض مسورة بجوار حديقة 30 نوفمبر والكائنة على مسلفة غير بعيدة بنطاق المنطقة.. وأن هذه الرائحة الكريهة المنبعثة من الأرضية كأنها لجثة آدمي ميت أو أنه يشك كذلك.. هكذا وردت المعلومة على لسان ذلك المواطن والذي أضاف بأنه مر من جوار الأرضية وشم الرائحة تلك مصدرها من داخلها.
فسارعوا منتقلين على إثر المعلومة هذه إلى موقع الأرضية المذكورة وتلمسوا شم الرائحة الكريهة المفاد عنها حين وصلوا إلى جانب سور الأرضية واقتربوا من بوابتها وهي تفوح من داخلها.. وكانت البوابة مغلقة من الداخل.. فنادوا على حارس الأرضية الذي صادف أن أحد عناصر المركز يعرفه باسمه وهذا الحارس يسكن بكوخ من طابقين خاص بالحراسة في الداخل واسمه مضيف فحضر الحارس وخرج من الأرضية إليهم في البوابة لمِا سمع نداءهم عليه باسمه وقد امتقع وجهه وتغيِر لونه عند رؤيته لهم وكأنه عرفهم وعرف لماذا أتوا.. سألوه عن الرائحة المنبعثة من داخل الأرضية فارتبك في اللحظة وتلعثم لسانه كمن صْدم بالسؤال وبوغت به ولم يدر بماذا يرد¿! فكرروا عليه السؤال قائلين: مالك لا تتكلم.. ما هي الرائحة التي تنبعث من الداخل¿! فازداد ارتباك الحارس وتغير صورته وبدا عليه بما يشير إلى أنه بدأ يرتجف من أطرافه ولم يعد يستطيع التماسك ويوشك على الانهيار والسقوط أمامهم وهو صامت عاجز عن النطق وظل كذلك للحظات.. ثم بالكاد تمكن من تحريك لسانه بتثاقل وقال:
صحيح.. أن الله سبحانه يمهل ولا يهمل وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وكل سر لا بد أن ينكشف طال أمده أو قصْر.. وفي الحقيقة أن الرائحة الكريهة التي تسألون عنها هي لجثة مدفونة في الأرضية والجثة لشخص قتيل اسمه بدر من أبناء إحدى المحافظات وسكنه بمنطقة بير عبيد.. والواقعة حدثت في مساء الثلاثاء الماضي قبل أربعة أيام.. والفاعل القاتل شاب يدعى زاهي سكنه أيضاٍ بحي بير عبيد والقاتل والمجني عليه من أٍصحابي ومحل وقوع الجريمة كان بكوخ الحراسة في الأرضية.
ثم راح الحارس يكمل إخباره لهم وبشكل سريع عن كيفية وقوع الجريمة وملابساتها وعن طريقة دفن الجثة والأشخاص المشاركين معه والقاتل في ذلك ومن البداية حتى النهاية.
كان الحارس شاباٍ صغيراٍ عمره لا يتعدى الـ17 عاماٍ.. ويسكن حسب قوله بنفس حي بير عبيد.. وهو حارس عامل للأرضية وهذه الأرضية تابعة لأحد المواطنين من أصحاب المال والوجاهة.. و.. ولقد دخلوا معه عقب ذلك للأرضية.. ودلهم الحارس على موضع الجثة المدفونة بداخلها وتأكدوا من وجود الجثة وهي مغمورة بالتراب في حفرة طرف الأرضية بالقرب من الركن الذي على يمين البوابة.. وبادروا في هذه الأثناء- أي مدير المركز ومن معه- للقيام بعمل إجراءاتهم الفورية تجاه الحالة وهي تطويق الأرضية من الخارج ببعض الأفراد وتحريز مسرح الجثة للمحافظة عليه ومنع اقتراب أحد منه وكذا الاتصال بعمليات أمن محافظة صنعاء وإبلاغها بذلك وطلب مختصي الأدلة الجنائية من مباحث المحافظة لإجراء المعاينة الفنية والتصوير للجثة والمكان ثم التحفظ على حارس الأرضية المدعو مضيف وإيصاله للمركز على ذمة القضية ومباشرة فتح محضر الاستنطاق معه حال إيصاله بالمركز.. وكان أول سؤال طْرح على الفتى الحارس في المحضر هو: لماذا ظللت صامتاٍ ومتستراٍ على الجريمة ولم تبلغ عنها¿
فرد بعد أن تكرر عليه ظهور الارتباك بقوله:
إنني خفت وتملكني الخوف لأن الجاني المدعو زاهي هددني أنني إذا تكلمت أو فكرت بإبلاغ أحد عن ذلك سوف يلحقني بالقتيل ويدفنني إلى جواره فلم أجرؤ على الإبلاغ حتى افتضح سر الجثة بانتشار رائحتها الكريهة ومفاجأة مجيئكم إليِ في هذا المساء بعد مرور أربعة أيام من دفنها.
ثم تتابعت الأسئلة على الحارس مضيف حول الجريمة وتفاصيلها ومضى هو يجيب معترفاٍ خلال ذلك ومن البداية حتى النهاية.
في الوقت الذي حضر مختصو الأدلة الجنائية إثر استدعائهم من مباحث المحافظة وقاموا وبمعيتهم الرائد عبدالحميد المقدشي مدير المركز وبعض رجال الفريق بإجراء المعاينة الفنية للجثة وتصويرها قبل وأثناء وبعد استخراجها من الحفرة المدفونة في الأرضية إضافة لتحريز الآثار التي تمكنوا من العثور عليها في موقع الحفرة وفي مكان وقوع الجريمة وهو كوخ الحارس أو غرفته العليا كون الكوخ كان غرفتين واحدة فوق الأخرى.
ولقد تأكد رجال الشرطة المركز بعد استخراج الجثة من دفنها وإجراء المعاينة لها رغم بدء تحلْلها ومن خلال الملابس التي عليها وأوصافها أنها للشخص المعمِم عنه المختفي المدعو بدر وأنه نفسه دون احتمال لأن يكون شخصاٍ غيره ورسخ اليقين هذا لديهم بأن الجثة لذات الشخص المفقود ما سبق وذكره الفتى الحارس خلال اعترافه عنه في البداية ثم في المحضر الذي أْجري معه بالمركز عند إيصاله إليه وكرر فيه بأنه هو المدعو بدر وليس شخصاٍ آخر..
كما أن فريق المركز وعلى ضوء ما ورد في اعتراف الحارس وسرده لتفاصيل الواقعة وشخوصها وبيانات المتهم الجاني والمشتركين معه في دفن الجثة بعد ارتكاب الجريمة وفي التخلص من أداة الجريمة والمتمثلة بسلاح المسدس التابع للمجني عليه وكذلك التخلص من الأشياء التي كانت تخص هذا الأخير المجني عليه ومنها دراجة نارية وسلاح آلي كان بحوزته عند حضوره للحارس بالأرضية قبل مقتله إضافة للتخلص من آثار الجريمة الأخرى وتعيين عناوين هؤلاء الأشخاص المتهمين وما إلى ذلك حيث أن رجال المركز على ضوء ما سبق قاموا بالتحرك في نفس الليلة ولم يتوقفوا وساروا لمتابعة أولئك الأشخاص (المتهم المدعو زاهي والمشتركين معه) والبحث عنهم بالانتقال إلى منزل كلُ منهم بمنطقة بير عبيد بغرض ضبطهم ومباغتتهم قبل تسرب الخبر إليهم عن اكتشاف الجثة وضبط الحارس صاحبهم وهروبهم أو اختفائهم لاعتقاد مدير المركز ومن معه أن هؤلاء المطلوبين لم يعرفوا بعد باكتشاف الجريمة وما زالوا نائمين في العسل فتمكنوا ليلتها من ضبط شخصين من المتهمين المشتركين أحدهما يدعى مساعد والآخر مساند وكلاهما في عمر الشباب ولكن كلِاٍ منهما من محافظة مختلفة في حين توصلوا عن المتهم الجاني وهو المدعو زاهي بأنه قد لاذ بالفرار وهرب إلى إحدى المحافظات خارج الأمانة والمحافظة صنعاء في اليوم التالي من ارتكاب الجريمة والتخلص من آثارها وأنه يتواجد في إحدى المناطق بتلك المحافظة فأصروا بمركز بيت بوس على اللحاق به وضبطه حيث هو وإحضاره من هناك في الليلة ذاتها وعدم الانتظار إلى نهار اليوم الثاني وكان هذا الإصرار بمثابة التحدي الذي لا تراجع عنه بحيث استطاعوا تحقيق المعجزة وتمكنوا من ضبط وإحضار المتهم الجاني من تلك المحافظة التي هرب إليها بنفس الليلة فكيف كان ذلك يا ترى أو ما هي الأخطار والمغامرات التي واجهوها عند السفر إلى المحافظة تلك لضبط الجاني وإحضاره وكيف تمت عملية العثور عليه وضبطه¿! وماذا كانت أحداث الواقعة وما حكاية الغرام فيها¿ وما أسباب الجريمة ودافعها المباشر الحقيقي¿ كل هذا وغيره ما ستعرفه وتقرأه عزيزي القارئ الكريم بعدد الأحد القادم في الحلقة الثانية والأخيرة إن شاء الله تعالى وإلى اللقاء..

قد يعجبك ايضا