تحول المرء من إطار رفض الظلم إلى تقبله يعني قبوله لثقافة الكبت والحرمان
عندمـــا يسكــت نخبـــة المجتمــع يتحـولـــون إلى شيـــاطين خْـــــرس
,الطير: هناك حقوق تضيع ونسكت عنها مجاملة أو خوفاٍ
,سند: يساهم الناس في استمرار ثقافة الكبت والصمت من داخل البيوت
,وهبان: عندما تلتقي أنانية النخب مع جهلها تكون الكارثة
,سلمان: الإعلام ليس مسؤولاٍ عن إسكات الناس بل المجتمع هو الأكثر تأثيراٍ
تحقيق/عبدالله عمر بخاش
غريب أمر هذا الإنسان يخرج إلى الدنيا صارخاٍ ويغادرها صامتاٍ يلعن تمرده في الصغر حتى تلبى مطالبه لكنه قد يعجز عن مجرد البوح بها عندما ينضج ويكبر.
يصمت الناس أمام قهر الظالمين وتصمت الشعوب أمام قمع المستبدين ويصمت الحكام أمام استغلال الخارج وتزايد مطامعه ويصمت العالم بأسره أمام نفوذ القوى العظمى وهيمنتها عليه.
دوامة من الصمت العجيب تثور عميقاٍ في قعر ذواتنا البشرية وتنطلق بعيداٍ لتتسع حلقات دورانها اللولبي باتساع
النظام العالمي.
تساؤل ذو مدلول عميق يبدو جديراٍ بالمناقشة والبحث في هذا الإطار وهو لماذا يثور المرء عند محاولة فطامه رضيعاٍ ولا يغضب عندما تْسلب حقوقه كبيراٍ¿
لماذا لا يحافظ المرء على غريزته الفطرية القوية بالتشبث بحقوقه ومطالبه والدفاع عنها¿ ولماذا يلوذ بالصمت بديلاٍ ويقنع نفسه بتقبل الضيم عوضاٍ عن ذلك¿
بين الصبر والضعف
يجيب أستاذ أصول التربية ورياض الأطفال الدكتور أحمد الطير بأن المرء قد يهمل المطالبة ببعض حقوقه لاتساعها عندما يكبر لكن في حجمها الصغير فإن الطفل لديه غريزة حب التملك فقد لا يتنازل عن لعبته لزميل آخر ويدافع عنها بقوة.
ويوضح بنوع من التفريق بين نوعين من العوامل بقوله.. هناك حقوق تضيع منا ونحن نسكت عنها مجاملة أو خوفاٍ وأحياناٍ يكبر الإنسان وتترسب لديه بعض القناعات السلبية أو الإيجابية فأحياناٍ يكبر المرء عن بعض حقوقه كنوع من الصبر “عل الله أن يعوضنا بغيرها أو في الآخرة” وأحياناٍ نرضى بالظلم ونتقبله ولا نعمل بالسنة النبوية في دفع الظلم وهذا ناتج عن ضعف في العقيدة.
التطبيع والتكيف السلبي
بالمقابل يتحدث خبراء علم النفس عما أسموه بالتطبيع الاجتماعي ويشير هذا المفهوم إلى أساليب التنشئة الاجتماعية فالكثير من السلوكيات والممارسات اليومية طرأت عليها بعض التحولات والتغيرات كنتاج لتلك العمليات التي تحدث عنها أستاذ علم النفس العيادي الدكتور علي حسن وهبان بقوله: أشياء كثيرة تتغير فينا ونزعات فطرية كثيرة نحو الحرية وحب التملك قد نفقدها من حياتنا بسبب طبيعة التطبيع الاجتماعي.
ويضيف: عندما يتعود الطفل ابتداءٍ من والديه وانتهاءٍ بالمدرسة على سلب حريته مرة بعد أخرى يعتاد الطفل على سلب الحرية باعتبارها أمراٍ طبيعياٍ وسارياٍ في المجتمع وهو ما نطلق عليه بالتكيف السلبي مع الوضع.
وأوضح وهبان أن عملية التكيف السلبي مع الوضع القائم تدفع المرء إلى أن يتحول بالاستمرار والتكرار من إطار الرفض إلى إطار التقبل وكأن الأمر طبيعي وبالتالي يبدأ في تقبل ثقافة العنف والكبت والحرمان على سبيل المثال.
اليأس والإحباط
غير أن صمت الناس وحالة تكيفهم السلبي مع الأوضاع السيئة القائمة قد لا تكون معبرة تماماٍ عن رضاهم بها بقدر ما تعني حالة القهر والكبت المطبق عليهم فيلوذون بالصمت بديلاٍ عن الإفصاح عن آرائهم ويتنازلون عن بعض حقوقهم وحرياتهم في سبيل ضمان الأمن الجزئي أو النسبي لأرواحهم وأقواتهم وهو ما عبر عنه أستاذ التفسير وعلوم القرآن الدكتور هلال حزام سند بقوله: إن من أهم الأسباب التي تلجئ الناس إلى الصمت هو شعورهم بالعجز وأنهم لا يستطيعون الوصول إلى شيء من حقوقهم إلى أن يبلغوا مرحلة اليأس والقنوط فيفضلون الصمت.
ويتابع قائلاٍ: كما أن الناس نتيجة الإحباط من الواقع قد يشعرون أنهم حتى لو طالبوا بحقوقهم لن يصلوا إلى هذا الحق كما أن بعض الأقوال والأمثال الخاطئة المتداولة بين الناس كمن يقول “ديني لنفسي ودين الناس للناس أو “نفسي نفسي” تجعل الكثير من الناس يحجمون عن المطالبة بحقوقهم حتى وإن كان لهم الحق فيها.
ثقافة الأمر الواقع
ورغم تنوع أوجه التشخيص لحالة الصمت التي قد يعيشها الفرد أو المجتمع إلا أن الباحثين من مختلف الحقول العلمية والمعرفية يبدون اتفاقهم معاٍ على مسئولية التنشئة الاجتماعية في المقام الأول.
ويتفق الدكتور سند في رأيه مع الدكتور علي وهبان أستاذ علم النفس بشأن دور عملية التطبيع الاجتماعي التي يتعرض لها الأفراد في إضعاف النزعات الفطرية القوية نحو الحرية والتشبث بالحقوق والحريات والدفاع عنها وعدم الاستسلام والرضوخ والاستكانة.
ويقول سند: يساهم الناس في استمرار ثقافة الاستبداد والكبت والخوف من داخل البيوت حتى على مستوى التعليم تشارك مدارسنا وجامعاتنا في تكريس تلك الثقافة من خلال تربية الأجيال على الخوف والكبت وعدم إبداء الرأي”.
وأضاف قائلاٍ: الثقافة التي تبدأ من البيت على هذه الأسس سيكون الصمت هو المحصلة الطبيعية لها فالمشكلة تكمن في مجتمعاتنا وأسرنا التي تعزز مثل هذه الثقافة فإذا تكلم الرجال تسكت النساء وإذا تكلم الكبار يسكت الصغار وهكذا.
الشياطين الخرس
إذن.. هي حالة من الخوف تتعزز تدريجياٍ في نفوس النشء وتكبر بتقدم أعمارهم حتى تصل إلى مرحلة الصمت بافتقاد تلك الغريزة الفطرية الإنسانية المتمثلة بحب التملك والدفاع عن الحقوق ورفض محاولات تقييد الحريات.
لكن ما الذي يدفع صفوة القوم ونخبة المجتمع من العلماء والمفكرين والمثقفين والكتاب والأدباء والشعراء والخطباء وغيرهم من مشاعل التنوير وقادة الرأي إلى الصمت حين يسكت الناس¿ أليس من واجبهم إرشاد الناس وتبيين الحق لهم¿ فهم نبض الأمة وسراجها إلا أن صمت العلماء والنخب يبدو غير مبرر البتة فهو بمثابة الطاقة الكبرى بحسب الدكتور هلال سند الذي وصف النخب الصامتة بالشياطين الخرس وقال: واجب العلماء والمفكرين والنخب هو التبيين أصلاٍ وإن صمت العلماء فهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم – إن صح الحديث “الساكت عن الحق شيطان أخرس” لأن واجب العلماء هو التبيين للناس وتبصيرهم بحقوقهم ودفعهم للمطالبة بها فإذا سكت العلماء فهم شياطين خْرس”.
التحول الخطير
أما الأدهى والأمر من صمت العلماء والنخب فهو تحولهم إلى أدوات بيد الحاكم يْصمتون الشعب وقت ما يشاء ويجيشون مشاعره وعواطفه تارة أخرى وقت ما يشاء وهو ما اعتبرها أستاذ علم النفس الدكتور علي وهبان أزمة أمة وأزمة وطن وقال: عندما تكون النخبة فاسدة وتتخلى عن مبادئها وتتحول إلى مصالحها وتنهار لديها منظومة القيم ومفهوم الذات تصبح النخبة للأسف مجموعة لصوص لا أقل ولا أكثر وهي الكارثة بعينها.
معادلة صمت النخب
وأشار وهبان إلى معادلة غريبة وخطيرة في الآن ذاته لتفسير صمت النخب بقوله: عندما تلتقي أنانية النخب وضيق مصالحها مع جهلها وانحطاطها القيمي تتشكل معادلة صمت النخب ذلك أنه عندما تخط النخب قيمياٍ وتوظف قدراتها وإمكاناتها لخدمة مصالحها الضيقة ويقترن ذلك أيضا بفرقها في وحل الجهل والأمية فهنا تكمن الكارثة الحقيقية على الأمة بكل المقاييس لأن النخبة فيها تكون سيئة وحركة التغيير في المجتمع لا تأتي إلا على أكتاف النخب.
مستبعداٍ وجود أي ثورة في العالم كانت ثورة شعبوية بحتة وقال: أنكر أن هناك ثورة في العالم شعبوية مع أنه قد يقال أن الثورة الشيوعية الماركسية ثورة شعبوية لكنها في حقيقة الأمر كانت ثورة نخبوية وليست شعبوية.
ذلك أن النخب هي التي تبدأ الثورات فتتبعها الشعوب وتستنير برؤاها وأفكارها وهذا هو الإطار الطبيعي للثورات وعمليات التغيير الاجتماعي كما يقول وهبان.
القدوة والجرأة
ويذكر التاريخ أسماء عدد من الأعلام ممن جددوا فكر الأمة وحياتها بنور أفكارهم ورؤاهم في عصر النهضة بعد أن عاشت عقوداٍ من عصور الانحطاط أمثال الكواكبي وأحمد عرابي ومحمد إقبال وعمر المختار وعبدالقادر الجزائري ومحمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان وغيرهم من الإعلام ممن قادوا حركات التحرر والنهضة في الوطن العربي وكسروا حواجز الخوف والصمت للمطالبة بالتحرر والاستقلال.
ويرى الدكتور سند أن وجود القدوة أو النموذج في المجتمع إلى جانب العوامل النفسية والاجتماعية عوامل مهمة في صحوة الشعوب وتحريكها صوب الحرية وإبداء آرائها ومطالبها علانية ويتساءل: ما الذي حرك الشعوب في دول الربيع العربي للمطالبة بالتغيير في الوهلة الأولى¿ ألم تكن جرأة شخص!! هو محمد البوعزيزي!!
وقال: الجرأة موجودة أصلاٍ داخل نفوس الناس فقط تحتاج لمن يحركها ويدفعها ويشجعها ويكفي أن يبدأ أشخاص معدودين بكسر الحاجز النفسي لتجد أشخاصاٍ آخرين يتجرأون لتكرار مثل ذلك الفعل.
الخوف من العزلة
يبدو ذلك منطقياٍ لكن بالمقابل ألا يمكن أن تتسبب كثرة الإخفاقات في بلوغ الأماني وتكرار الانتكاسات المرة تلو الأخرى في شيوع حالة من اليأس والإحباط العام لتْعيد الناس إلى دوامات الصمت مرة أخرى بعد أن بْحت أصواتهم وخارت عزائمهم وفقدوا الأمل في التغيير المنشود أو خوفاٍ من العزلة الاجتماعية والنظر إليهم كأقلية معارضة وخارجة عن رأي الأغلبية في المجتمع¿! وهو ما أشارت إليه عالمة الاجتماع الألمانية اليزابيث نيومان في محاولتها لتفسير عملية تشكيل دوامة الصمت عندما افترضت أن معظم الناس يخافون من العزلة الاجتماعية مما يدفعهم إلى اتباع الأغلبية بحثاٍ عن محاولة التوحد معها حتى ولو أدى ذلك إلى التزام الصمت وإخفاء وجهات النظر التي تختلف مع وجهة نظر الأغلبية.
الإعلام وصمت الناس
ومع أن نيومان أكدت أن التزام الناس بالصمت وتمسكهم به يتزايد مع تصاعد تأييد وسائل الإعلام لوجهة نظر الأغلبية والإعلان عنها مما يعني أن وسائل الإعلام تلعب دوراٍ هاماٍ ومحورياٍ في تعزيز ثقافة الصمت في المجتمع إلا أن أستاذ الاتصال السياسي الدكتور يوسف سلمان يقلل من شأن ذلك لاعتقاده بأن تعدد قنوات الاتصال وتنوعها في عصر الفضاء الإعلامي المفتوح يسقط مثل هذا الافتراض إذ يصبح متعذراٍ تحقيق الإجماع أو هندسة التوافق الجماهيري في ظل تعدد الوسائل وتنوع الأولويات الإعلامية.
وقال: “وسائل الإعلام ليست الوحيدة التي يمكنها إسكات الناس بتصوير رأي فئة من المجتمع بأنه رأي الأغلبية والرأي السائد في المجتمع بل ربما المجتمع نفسه هو الأكثر تأثيراٍ منها في هذا الاتجاه وتابع قائلاٍ: بالعكس وسائل الإعلام في ظل ثورة المعلومات وتطور تكنولوجيا الاتصال تساعد الجمهور على الإفصاح عن رأيه وإيصال صوته بعيداٍ عن مقص الرقيب والخطوط الحمراء أمام حرية تداول المعلومات وتدفقها.
شراء الولاءات
ويرى سلمان أن دور وسائل الإعلام في تغذية دوامات الصمت لم يعد مجدياٍ اليوم لأن دورها أصبح عكسياٍ بعد أن تحولت ملكيتها من يد النخبة الحاكمة إلى يد الجمهور وبات شائعاٍ اليوم ما يعرف بإعلام المواطن والإعلام البديل أو الجديد وتأثيره على علاقة الإعلامي قد يتأثر ببعض العوامل التي قد تجعله سلبياٍ ويلوذ هو الآخر بالصمت وذكر منها تبعية الوسيلة الإعلامية والنخبة الإعلامية أيضاٍ بالانتماءات السياسية وولاءاتها لبعض المراكز وقال: يمكن التأثير على النخب الإعلامية أو الوسائل وحرف مسار رسالتها بضمان ولائها تحت تأثير إغراء الجوانب المادية مما يدفعها إلى الصمت أو الترويج لبعض الآراء على أنها رأي الأغلبية بالإضافة إلى تأثير السياسة الاتصالية للوسيلة التي تعمل في إطارها تلك النخب الإعلامية باعتبارها المؤثر الأول.
تفاؤل بالمستقبل
ومع ذلك يبدي الدكتور سلمان تفاؤله بالدور الإيجابي لوسائل الإعلام في اتجاه الإفصاح عن آراء الناس والتعبير عنها لا إسكاتهم وقال: مع تقدم العلم وتطور تكنولوجيا الاتصال لم يعد بمقدور الدولة ولا الأحزاب ولا الأشخاص توجيه وسائل الإعلام أو التحكم في خطابها الإعلامي فإن سكت بعضها ما صمتت الأخرى وإن سكتت كأنظمة ما سكتت كأشخاص ولن يكن بمقدور أحد بعد اليوم التحكم في تشكيل الرأي العام أو توجيهه.
وهو الأمر نفسه الذي اتخذه الدكتور علي وهبان منطلقاٍ لرهانه على صحوة الناس وتجاوزهم حواجز الخوف والصمت والكبت والحرمان وانطلاقهم صوب التغيير والتطور الاجتماعي مستبعداٍ إمكانية عودة الشعوب الثائرة المتفائلة إلى دوامات الصمت مجدداٍ لأن المجتمع يتحول نحو الديمقراطية وعجلة التاريخ لا تعود للوراء كما يقول الدكتور وهبان الذي أكد على أهمية تعزيز الغرائز الإنسانية الفطرية بمكتسبات اجتماعية حقيقية كالحرية ولعدالة والمساواة والنظام وسيادة الحقوق وصون الحريات والحقوق الإنسانية.