أرملة في الثلاثين تنام مع صغارها على رصيف أكبر شوارع الحديدة، قبل الحرب كان لديها بيت في قريتها الصغيرة، لكن قنابل الطائرات هدَّمته وكان لديها زوج عطوف حملهم من تحت ركام البيت نازحا بهم إلى الحديدة، لكنه كان يحمل أيضا جرحا صنعته شظية في خاصرته، ولم يلبث أن توفي نتيجة مضاعفات تلك الإصابة بعد ثلاثة أشهر.
على قارعة الشارع تكون ساعات آخر الليل رعبا حقيقيا لامرأة شابة تنام مع صغارها، فخلالها يرتفع هاجس الأمان ليصير أشد إلحاحا من الحاجة للطعام.الثورة/ أبرار المغلس
بصوت يكسوه الألم تحكي (فاطمة يحيى، 30 عاما) عن معاناة فاقمها العدوان ، هي الآن نازحة تسكن مع أطفالها الخمسة (ثلاثة صبيان وطفلتان، أكبرهم يبلغ من العمر 10 أعوام وأصغرهم 5 أعوام) تحت قطعة قماش “نصف خيمة” متهالكة على رصيف (جولة كمران، شارع صنعاء).
قبل عامين كانت تعيش مع عائلتها داخل بيتهم في قرية “سوق الثلوث” القريبة من مدينة حرض الحدودية، بلهجتها الريفية البسيطة تحكي فاطمة قصتها، قائلة ما معناه: “كنا نحيا عيشة مستورة برغم الحرب، لكن قبل سنتين تقريبا بدأت أصوات الانفجارات تقترب من قريتنا الصغيرة، وصار أزيز الطائرات أكثر وضوحا. استمر هذا الحال عدة أشهر حتى اعتدنا عليه مثل بقية أهل القرية، فلا أحد يعرف ما يخبئه القدر ولا أحد يستطيع الهروب من قدره.
ليلة النزوح
بسبب تكرار أصوات الانفجارات وما تسببه من رعب للأطفال طوال عدة أشهر، فقد اعتاد الوالدان تلك الأيام على النوم في غرفة واحدة مع الأطفال لطمأنتهم، وفي ليلة حالكة السواد بينما كان الجميع يغطون في النوم، وفجأة اهتزت أركان البيت على وقع انفجار مدوِّ، استيقظ على إثره الجميع مفزوعين واندفعت الأم لاحتضان أطفالها، فإذا بصوت صاروخ آخر يشق الظلام ليعقبه انفجار أشد عنفا أطاحت شظاياه بأجزاء من المنزل، امتلأت الغرفة بالغبار والشظايا المتناثرة التي أصابت إحداها جسد زوجها مسببة جرحا قطعيا في خاصرته بجوار الكلية اليسرى، لم تكن الإصابة خطيرة حينها لأن الزوج وجد أنه ما زال قادرا على الوقوف والحركة، وكما يبدو فقد كان حريصا على إظهار تماسكه كي يخفف من مشاعر الرعب التي داهمت قلوب زوجته وأبنائه، على الفور قامت فاطمة بربط جرح زوجها بقطعة من القماش ولاحظت أنه لم ينزف سوى قليل من الدماء ثم انقطع النزيف بعدها.
ما إن هدأت أصوات الطائرات حتى قرَّر الزوج مغادرة المنزل قبل عودة الطائرات لتدمير ما تبقى منه. هكذا غادرت العائلة منزلها طلبا للنجاة، وهو ما فعله بقية أهالي القرية أيضاً هاربين بأنفسهم إلى المجهول، كانت تلك الليلة آخر ليلة لهم في بيتهم، لتكتب لهم الأقدار قصة معاناة أخرى جديدة…
نزوح لا نجاة فيه
استقرت فاطمة وأسرتها في مدينة الحديدة، التي صارت مأوى لأكثر من 98 ألف عائلة نازحة أخرى في ذلك الوقت، بحسب إحصائيات (المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي) الصادرة في نوفمبر 2019م.
ما إن وصلت عائلة فاطمة إلى مدينة الحديدة، حتى بادر زوجها لاستئجار سكن متواضع في أفقر أحياء المدينة (منطقة السلخانة شمال شرق الحديدة)، كان لديه القليل من المال دفع معظمه مقابل إيجار البيت المتواضع ولهذا صار عليهم البحث عن مصدر للرزق كي يحصلوا على الطعام، لكن الوضع الاقتصادي المتردي في مدينة الحديدة لم يترك مجالا للحصول على أي فرصة عمل.
تقول فاطمة: “خرجت برفقة زوجي للبحث عن عمل كي نقتات منه ما يشبع جوعنا دون اللجوء للتسول، كنا نتجول في شوارع المدينة ونقوم بتجميع قوارير المياه والعصائر الفارغة، ومن ثم نبيعها لنقتات بما نحصل عليه من ثمن زهيد”.
تلك الظروف جعلت زوج فاطمة يحصر اهتمامه بالحصول على ما يشبع جوع أطفاله، لهذا لم يهتم بالحصول على خدمة علاجية لجرحه، معتقداً أنه سيلتئم من تلقاء نفسه طالما لا دماء تنزف منه.
صدمات متلاحقة
مع الوقت كان الجرح يلتهب ويتوسَّع ببطء في أعلى خاصرته، تقول فاطمة: “بسبب فقرنا لم نفكر في الذهاب إلى طبيب لمعالجته، كانت المنطقة المحيطة بالجرح تتآكل، وزوجي يكتم الألم موجها كل اهتمامه نحو جمع أكبر قدر من قوارير الماء الفارغة لنحصل من قيمتها على طعام لأولادنا. وبعد ثلاثة أشهر من النزوح كنا نتجول معا في أنحاء المدينة لجمع القوارير، ثم رأيته يسقط على الأرض، فتجمع الناس حولنا وقاموا بإسعافه إلى مستشفى الثورة، وهناك قالوا لي إن وضعه الصحي خطر للغاية، لأن جسده قد تضرر كثيرا لدرجة أن التهاب الجرح قد وصل إلى رئته، وبعد ساعة أو ساعتين أبلغوني أنه انتقل إلى رحمة الله”، حدث هذا نهاية شهر نوفمبر 2019م بحسب شهادة وفاة زوجها (عبدالله علي محمد السودي).
صدمة تلو أخرى تتلقاها فاطمة، لكن وفاة زوجها كانت أسوأ كارثة أصابتها، وما بين مشاعر الانهيار والدموع تذكرت أطفالها المنتظرين في البيت…
أثناء حديثها تحاول فاطمة أن تظهر أقل تأثرا مما هي عليه، فتقول: “لم أتخيل أني سأفقد زوجي، سندي وقوتي، فقدت زوجي وبعده فقدت كل شيء، فقدت إحساسي بالحياة، فقدت الأمان، فقدت المأوى… فبعد أسبوعين من دفن زوجي جاء صاحب البيت الذي نستأجره ليطردنا، فهو يدري أنني لن أستطيع دفع الإيجار، لم أعرف أين أذهب بأطفالي، فخرجت بهم إلى الشارع الرئيسي في “حي السلخانة” وبدأنا حياة التشرد هناك.. كنت أقوم بالتجول بمفردي لجمع القوارير، أما أبنائي فيعملون في مسح السيارات، وكنا ننام على رصيف الشارع الذي كان يضم مشردين آخرين.
حياة بلا رحمة في مدينة منكوبة
بعد وفاة زوجها، تعرضت (فاطمة) لمضايقات وانتقادات من أمثالها من المشردين ومن بعض أهالي المنطقة أيضا، بحجة أنه لا يجوز أن تعيش على رصيف الطريق بدون رجل يحميها هي وأبناءها، فالمجتمع لا يتقبل حياة المرأة الشابة إن بقيت دون رجل، تقول فاطمة: “الجميع كانوا متفقين على ضرورة زواجي من أي رجل، وفور أن أكملت فترة العدة على وفاة زوجي، جاء شاب يبلغ من العمر 18 عاما، طالبا يدي للزواج، ولم يكن بيدي حيلة سوى القبول للخلاص من الانتقاد والتهديد ومن كلام الناس ونظرتهم المستنكرة.. أنا غريبة على رصيف مدينة موحشة لا ملاذ لي فيها ولا مجير.. تزوجت من ذلك الشاب، وانتقل بنا للسكن هنا (رصيف شارع صنعاء، داخل خيمة من القماش المتهالك).
في الخيمة المجاورة تعيش والدة زوجي الجديد وأخوه، وهذه الخيمة لي أنا وزوجي وأطفالي، نتحمل في ظلها كل الأجواء، ليس لنا سوى الصبر والقناعة بحياتنا دون أمل في حصول زوجي على عمل غير غسل السيارات أمام المطعم المجاور، أبنائي أيضا يعملون في غسل السيارات محرومين من أبسط الحقوق التي يحصل عليها أقرانهم من الأطفال فلا بيت ولا تعليم، لا يعيشون طفولتهم بل يضطرون للعمل تحت أشعة الشمس الحارقة ومخاطر الطريق.”
فاطمة الآن، حامل في شهرها التاسع كما يبدو، ما زالت تتجول كعادتها لجمع “القوارير” وبيعها كي تشبع جوع أطفالها.. لم يتغير جدول حياتها اليومية بعد الزواج الطارئ، كما لم ترتفع عن كاهلها مسؤولية إطعام أطفالها، وقريبا سيكون لديها طفل جديد، لكنه سيختلف عن أخوته بكونه من مواليد رصيف شارع صنعاء.
طفل جديد، مسؤولية جديدة، ولا أمل في الخلاص أو العودة إلى قريتها، لا بأس، هي أصلا لم تعد تفكر في المستقبل، فكل أمنياتها تنحصر في سلامة أطفالها من مخاطر السيارات الطائشة، والحصول على طعام يكفي لسدر مقهم كي يناموا بهدوء دون أن يوقظهم الجوع.