الثابت والمتحول في المسار اليمني
عبدالرحمن مراد
يرى الكثير من المفكرين أن الهند نجحت في التعالي على الأجانب لا عبر هدايتهم إلى الديانة أو الثقافة الهنديتين بل عن طريق التعامل مع تطلعاتهم بقدر رفيع من الاتزان ورباطة الجأش , فقد دأبت على التعامل مع المستويات الحضارية الجديدة وأذابتها في بوتقة الحياة الهندية دون خوف , فعظمة الهند تكمن في قدرتها على التحدي ضد أي تأثير غريب ولذلك فرضت تأثيرها وشروطها على النظام العالمي الجديد , وهي تجربة إنسانية فريدة يمكن الاستفادة منها , وإن كان لدينا أسس هذا النوع من التعايش تجسدت بذرته في “وثيقة المدينة “، لكن الفكر العربي ظل محكوما بالنص, ولذلك تقيدت حركة تطور المجتمعات .
لدينا أسس سلوكية وأخلاقية مبثوثة في كتب الأخبار والسير تؤكد على قدرتنا على حتمية القيادة الإسلامية للنظام الدولي أو التأثير فيه وتهذيب مساراته وسياقاته، شريطة قيامنا بحل مشكلاتنا الداخلية وتبني استراتيجية مستجيبة للمصالح المختلفة إقليميا ودوليا ، حيث يتعين علينا أن نعزز وحدة أكبر وأوسع في الجغرافيا العربية والإسلامية وصولاً في آخر المطاف إلى كتلة تاريخية واقتصادية كبيرة ، أما في الغرب فلا بد لنا من العمل على تحقيق التوازن وعلى ترسيخ علاقة تعاون مع الصين.
ومن الإنصاف القول إن بعض القوى الثورية في القرن العشرين حاولت أن تصل إلى مراحل متقدمة وأن تخطو خطوات فاعلة في هذا الاتجاه لكنها واجهت تحديات داخلية لم تتمكن من حلها، فاليمن – كمثال ثم قس على ذلك …, هي من أكثر الأقطار ميولاً إلى الثورة لتأصل هذه الفكرة في البنية الثقافية والبنية العقائدية – من أقل الأقطار إحداثاً للتحولات والتبدلات، فكل الثورات لم تكن تستهدف تغييراً ملحوظاً أو تبدلاً في المسارات بل كانت تستهدف إبدال وجه بآخر وصورة بأخرى مع بقاء الشكل كإطار دال على استمرار الماضي في صميم التجارب، وقد كان ذلك هو ديدن المراحل ولذلك ظل الماضي هو العائق الوحيد أمام المستقبل في كل المراحل.
فثنائية الثبوت والتحول في حركة المجتمع في اليمن لها وجهان عميقان في البنية الثقافية، وهما ممتدان في التاريخ، فالوجه الأول هو الوجه الثبوتي الذي تمثله فكرة الخلافة الوراثية التي قال بفكرتها معاوية بن أبي سفيان وحشد لها النصوص التي تؤيد هذه الفكرة، وقد نشط في زمنه الرواة الذين كانوا يصنعون المبرر النصي إلى درجة شيوع ما اصطلح على تسميته علماء الحديث بالاسرائيليات – والاسرائيليات هي منظومة نصية تختص بالحديث النبوي والوقوف أمامها بالتحليل للفكرة وفق منهجية الجدلية التاريخية يفضي بنا مسارها إلى الصراع العشائري ليس أكثر من ذلك – وهذا الوجه عطّل قدرات الأمة وحدَّ من قدراتها، وشل فاعليتها، لكنه كان الأكثر تأثيراً في حركة المجتمع والسياسة وفي حركة التاريخ.. والوجه الآخر هو الوجه التحولي، وهذا الوجه تمثله فكرة الثورات التي قادها آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يمثل الثورة التحولية التي تتحرك في جانب الشعب وبالشعب في مقارعة الظلم كما يظهر ذلك في جل المراحل والمحطات التاريخية على وجه العموم، أما على وجه الخصوص فالزيدية في اليمن مثلت فكرة الثورة التحولية والشافعية كانت تمثل فكرة الثبوت، وبينهما تكوّن تاريخنا وهو ممتد في كل التجارب التي تتجانس في بعض المراحل وتتضاد في أخرى، وما يحدث اليوم من صراع يحمل ذات السمات الثورية التحولية والثبوتية الخلافية، فالماضي يناوش بثبوته والمستقبل يحاول تحقيق وجوده، فالثبوت الذي عليه تيار الإخوان والسلف -كسمة ثقافية لوجه تحالف العدوان- في مقابل فكرة الثورات التحولية التي عليها حركة أنصار الله كامتداد لتيار المقاومة العربية والذي تبدو إيران في صدارة مشهده ويمكن قياس ذلك في صورة المشهد السياسي في عمومه في المنطقة العربية. أقول فالثبوت والتحول تلاقيا من جديد في جانب صراعي دامٍ، فتحرك جانب بين آتٍ لا يأتي لقلة وسائل صنعه، وبين ماضٍ لا يرجع لانعدام الحياة فيه، وإن دلت عليه أصوات وأصداء، لهذا فالعملان مجرد حركة هزيلة في فراغ، فالماضي مستحيل الرجوع لكن الغد ممكن الميلاد وهو يستدعي جدة نفوس الداخلين فيه، وقدرة تجديده وتجديد نفوسهم معه حتى لا يصبح ماضياً ممتداً في زمن جديد أو نفترض جدته، وحيوية كل عمل تكمن في أفكاره الحياتية التي تتنازعها الفصائل والفرق والكيانات في صور غير متجانسة، فالسمة الغالبة للبناء الثقافي في مشهدنا السياسي اليوم لا تعدو عن كونها نزوعاً دينياً يبزغ من طرفه بمفهوم عائم الحس الوطني.. والملاحظ أن غموض المرحلة زاد من غموض الفكرة، غير أن مكوناتها الأولى تصلح أساساً للبناء الجديد لأنها بذرة حية قابلة للنمو.
ما يمتاز به الفاعلون السياسيون الوطنيون هو التجانس الثقافي مع البناء الثقافي الشعبي فنشأتهم واكبت الشكل الاجتماعي اليمني ولذلك حين نتحدث عن كتلة جماهيرية متدحرجة واحدة فنحن ندرك هذه الأبعاد في النشأة والتكوين وهو الأقرب، وإن شطَّ بهم الرأي فالتباين لا يعدو عن كونه صراعاً بين النزوع الديني والحس الوطني، ومن السهل التقريب بين البعدين بالتوافق السياسي، أو بالاشتغال على فلسفة فكرة مشروع المرحلة، لأن الفلسفة هي الفكرة التي يمكنها تبرير المشروع وتمتين فكرته في التصور الذهني، وهي في السياق نفسه من تملك أدوات هدمه.
وقد تحدثنا كثيراً عن التحول من عصر الصناعة إلى عصر المعلومة بما يغني هنا عن التكرار لذلك، فالثورات التي تنشأ في مراحل التاريخ بصورة نمطية واحدة قد تغيرت وتبدلت، فالثورة في عصر المعلومات غيرها في عصر الصناعة، وإدراك مثل هذه الحقيقة قد تؤهل القوى الوطنية لقيادة ثورة انتقال حقيقية بالاشتغال على فكرة المعلومات وتوظيفها وتشغيلها بدل ذلك الاضطراب والفوضى، ولذلك يمكن للقوى الوطنية أن تقود ثورة نهضة شاملة بالاشتغال على الاستراتيجيات وإحداث ثورة ثقافية تبدلية حقيقية.
إذن.. نحن بحاجة إلى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء الجسور والتواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية، لمشكلات مجتمعنا اليمني والعربي وتحدياته الثقافية والحضارية.
ومعالجة الواقع الجديد – بالنقد والتفكيك– على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي، فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارها حولنا، تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية.