أكد مشاركة جميع اليمنيين في النضال ضد المستعمر البريطاني

فترة الاستقلال في ذاكرة المناضل راشد محمد ثابت

 

 

سقوط معظم مناطق الجنوب في العام 1967م أجبر بريطانيا على مفاوضات الاستقلال

خليل المعلمي

لدى المناضل راشد محمد ثابت -وهو عضو الجبهة القومية لتحرير جنوب الوطن- الكثير من الذكريات سجلها في كتابه “ثورة 14 أكتوبر اليمنية من الانطلاقة حتى الاستقلال”، رصد فيه نضال اليمنيين منذ تفجير ثورة الرابع عشر من أكتوبر في العام 1963م وحتى الاستقلال، وأبرز خلال ذلك الدور النضالي للشعب اليمني في مجابهة الاستعمار ومقارعته عبر التنظيمات الفدائية والعسكرية والسياسية وبدعم من ثوار السادس والعشرين من سبتمبر في شمال الوطن.
تعرض المناضل راشد محمد ثابت للاعتقال مرتين من قبل الاستعمار البريطاني، كانت الأخيرة في العام 1965م، وأفرج عنه في نوفمبر من العام 1967م، شغل العديد من المناصب القيادية والتنفيذية بعد الاستقلال، فكان مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون ومن ثم وزيراً للإعلام بداية العام 1973م ووزيراً للدولة، ووزيراً للثقافة والسياحة، ووزيراً لشؤون الوحدة اليمنية، وعمل سفيراً لليمن في كل من تونس والمغرب.
عام الاستقلال
كان عام الاستقلال هو العام الأهم في تلك المرحلة حيث تصاعدت الأحداث وكانت الجبهة القومية قد سيطرت على الكثير من المناطق وقامت بحل السلطنات فيها وتشكيل سلطة تنفيذية تقوم محلها.
وعلى الرغم من المؤامرات التي حاكتها الحكومة البريطانية ومنها إشعال فتيل الصراع بين المناضلين في الجبهة القومية وجبهة التحرير، واتخذت ذريعة بأنها لن تسلم السلطة إلى سلطة تستطيع السيطرة على كل المناطق، وأنها مع وحدة الأراضي اليمنية في الجنوب، يقول “ثابت”: وعلى مشارف هذه التطورات لم يفت الجبهة القومية أمر التنبه إلى ما تحيكه الحكومة البريطانية من مؤامرات لتدويل جزيرة ميون وبعض الجزر اليمنية الأخرى، وكانت الجبهة القومية قد حددت موقفها الواضح والصريح القاضي بتحرير كل الجزر اليمنية، واعتبارها جزءاً من أراضي الجنوب اليمني المحتل، ثم أتت التصريحات البريطانية المعبرة عن نوايا الاستعمار بفصل بعض الجزر وتدويلها وبدأت على أثر ذلك باتخاذ خطوات عملية عن طريق القيام باتصالات دبلوماسية مع مختلف الدول في الأمم المتحدة لتسليم الأمم المتحدة إدارة جزيرة ميون، غير أن أبناء هذه الجزيرة تنبهوا لمرامي هذه التحركات وأحبطوا مؤامرة التهيئة النفسية لتدويل الجزيرة الأمر الذي اضطر بريطانيا إلى إعلان فشلها في تدويل هذه الجزيرة.
ويضيف: تشير الرسائل والمذكرات التي كانت ترد إلى الأمم المتحدة من المندوب السامي البريطاني في عدن بهدف وضعها في صورة ما يجري من تطورات داخلية، ويفيد بأن الجبهة القومية قد أحكمت سيطرتها على مناطق السلطنتين القعيطية والكثيرية في حضرموت وكذلك السيطرة على المهرة، وعبر المندوب السامي البريطاني عن ترحيب حكومته بمؤتمر الحوار الذي ينعقد في القاهرة بين ممثلين عن جبهة التحرير والجبهة القومية، غير أنه يرى أن الوقت لا يسير في مصلحة القوات البريطانية والإبقاء على وجودها في المنطقة، خاصة أن استعدادات الانسحاب مرتبطة ببرنامج زمني محسوب ويمكن استكمالها خلال فترة قصيرة وأن الحكومة البريطانية ترجو أن يتم على نحو سريع في اللقاءات المنعقدة بين المجموعتين في القاهرة تشكيل وفد للتفاوض حول إجراءات الاستقلال النهائية.
ومما أوضحه راشد في ذكرياته أن وزير الخارجية البريطاني على إثر ذلك أعلن في البرلمان أن حكومة بلاده تتوقع من الجبهتين حل خلافاتهما وتشكيل وفد مشترك للتفاوض معها، وأشار إلى أن المعلومات تؤكد أن الجماعتين اللتين تتفاوضان في القاهرة تمكنتا من الوصول إلى اتفاق على تكوين الوفد المفاوض حول إجراءات الاستقلال، وأن الحكومة البريطانية حريصة أن تترك وراءها بلداً موحداً ومستقراً وأكد الوزير البريطاني في آخر البيان المعلن أن حكومته قررت أن يتم استقلال الجنوب في شهر نوفمبر 1967م وقبل حلول يوم الاستقلال سوف تعلن حكومته التاريخ المحدد للانسحاب النهائي والكامل من المنطقة.
التحرك نحو الاستقلال
يقول المناضل راشد محمد ثابت في الكتاب: كانت الجبهة القومية وهي تنتظر الرد على برقيتها التي أرسلت إلى وزارة الخارجية البريطانية قد حصلت على رد يتضمن الموافقة على إجراء المفاوضات في جنيف وجرت المشاورات بواسطة الاتصال التليفوني حول تحديد تاريخ البدء في المفاوضات التي تحدد بناء على اقتراح الجبهة القومية في 20 نوفمبر 1967م، وعلى إثر ذلك أصدرت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل بلاغاً صحفياً جاء فيه أن “الجبهة القومية قد طلبت أن تبدأ المفاوضات مع الحكومة البريطانية يوم الاثنين 20 نوفمبر 1967م، وأن الجبهة القومية قد اتخذت كل الترتيبات والخطوات الضرورية وشكلت وفداً خاصاً للمفاوضات برئاسة السيد قحطان محمد الشعبي عضو اللجنة التنفيذية وعضو القيادة العامة للجبهة القومية، وسيرافق الوفد عدد من المستشارين في الشؤون الاقتصادية والمالية والقانونية والعسكرية وسيلتقي أعضاء الوفد والمستشارون بمن فيهم المتواجدون خارج المنطقة في زمن محدد في بيروت العاصمة اللبنانية ومن ثم مواصلة سفرهم إلى جنيف”، في غضون ذلك تناقلت وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام الأجنبية ما ورد في بيان وزير الخارجية البريطاني الذي أدلى به في مجلس العموم البريطاني والمتضمن قرار الحكومة البريطانية بأن تجري المباحثات حول الاستقلال وتسليم السيادة في الجنوب اليمني بين حكومة بريطانيا وبوصفها الدولة المستعمرة وبين الجبهة القومية بوصفها ممثلة للشعب، وأكد أنها ستبدأ في يوم 20 نوفمبر 1967م في مدينة جنيف العاصمة السويسرية، وأضاف في تأكيده أن القوات البريطانية المتواجدة في أجزاء من المنطقة سوف تنسحب نهائياً في نهاية نفس الشهر نوفمبر 1967م وأن الوفد البريطاني في المحادثات سيكون برئاسة (اللورد شاكلتون)، مشيراً إلى وجود مسائل ضرورية من الأفضل أن تسوى قبل أن يصبح الجنوب اليمني مستقلاً ولكن إذا لم تنته المفاوضات قبل az فليس هناك ما يمنع أن تستمر هذه المفاوضات بين الدولتين بعد الاستقلال.
تلك القرارات من قبل الحكومة البريطانية لم تأت بدافع الرغبة الصادقة من بريطانيا في تسليم الاستقلال والإقرار بحرية الشعب اليمني، ولا من واقع أن السياسة البريطانية قد تغيرت تجاه الشعوب المستعمرة، يؤكد “ثابت” أن موقف التسليم بالاستقلال والاعتراف بحرية الشعب وسيادته على أراضيه انتزع انتزاعاً بفعل النضال الجماهيري السياسي والمسلح، وتحت ضغوط التصعيد المستمر لهذا النضال الذي قادته الجبهة القومية منذ فجر الرابع عشر من أكتوبر 1963م حتى يوم الاستقلال، وأن الوضع السياسي الذي تشكل على ساحة الجنوب اليمني بتأثير هذا الكفاح الثوري وسيطرة الجبهة القومية على كل أراضي الجنوب قد وضع السلطات الاستعمارية البريطانية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تسلم بالأمر الواقع وتقر بأن الجبهة القومية وحدها تقود ثورة الشعب وتمثله والتي يجب أن تسلمها السلطة والسيادة، أو أن تراهن على الجواد الخاسر من العملاء وتترك المنطقة دون أن تفي بالتزاماتها السياسية والأخلاقية، ولا ننسى أن الأمل كان يراود الحكومة البريطانية أن تترك المنطقة بعد رحيل جنودها وهي تموج بالصراعات وتسبح في بحر من الدماء جراء الاقتتال الأهلي ودمار المؤامرات الاستعمارية.
إلا أن ذلك لم يتم لبريطانيا وفوت شعبنا اليمني الفرصة عليها وعدم الوصول إلى النهاية المحزنة التي كانت تخطط لها بريطانيا، وتم تضييق الخناق على القوات البريطانية وسياستها حتى استسلمت ووافقت على الاستقلال.
تصاعد الأوضاع ومحادثات الاستقلال
يعِّبر الكتاب عن حقيقة الكفاح الذي شهده جزء غال من وطننا الحبيب، وبهذا يوضح “ثابت” أن الحركة الوطنية في الجنوب اليمني المحتل تمكنت من تحقيق الانتصار على الاستعمار البريطاني ودحر قواته العسكرية المدججة بأحدث الأسلحة والمعدات المتطورة، وكانت الجماهير كل الجماهير اليمنية هي المحرك الأساسي والقوة التي بفضلها تحقق هذا الانتصار الكاسح على الاستعمار وأعوانه، وكانت الجبهة القومية قبل أن تقوم بتشكيل وفدها المفاوض في محادثات الاستقلال في جنيف قد أعلنت سيطرتها على كل مناطق الجنوب وتوالى سقوط السلطات في المناطق الريفية خلال عام الاستقلال، حيث سقطت كل من الضالع وشعيب في شهر يونيو وسقطت مناطق المفلحي ولحج ودثينة والعواذل ويافع السفلى والعليا في شهر أغسطس، فيما سقطت مشيخة العقربي ومناطق أحور والمحفد العوالق السفلى وسلطنة القعيطي في حضرموت، ومنطقتي بيحان وحريب في شهر سبتمبر، وسقطت سلطنة الكثيري بحضرموت ومشيخة العوالق العليا ومناطق العوالق السفلى باكازم والمهرة ومنطقة الواحدي في شهر أكتوبر من العام 1967م.
وإثر سقوط تلك المناطق تم تشكيل لجان وإدارات أمنية وإدارية لحفظ الأمن وتعزيز مسؤولية الجبهة القومية في السيطرة الكاملة على سلامة وأمن مناطق الجنوب المحررة بعد جلاء الاستعمار البريطاني عنها.
وقد شددت السلطات الجديدة على ضرورة المحافظة على نظام العمل في الإدارات العامة لدوائر السلطة والمؤسسات والشركات وتأمين سلامة المواطنين وممتلكاتهم الخاصة وكذا الحفاظ على الممتلكات العامة الثابتة والمنقولة في المناطق المحررة.
تشكيل وفد المفاوضات
شكلت الجبهة القومية وفدها للمفاوضات من أبرز القياديين في الجبهة برئاسة قحطان الشعبي وعضوية كل من: عبدالفتاح إسماعيل، فيصل عبداللطيف، محمد البيشي، سيف أحمد الضالعي، خالد عبدالعزيز، عبدالله صالح سبعة، ورافق الوفد المفاوض مجموعة من المختصين في الجوانب الفنية في المباحثات، ومستشارون في الشؤون السياسية والاقتصادية والمالية والقانونية والتاريخية وكل ما يتصل بجوانب المفاوضات والقضايا المثارة بين الوفدين اليمني والبريطاني.
في الكتاب يقول المناضل راشد محمد ثابت: غادر الوفد مدينة عدن يوم الأحد 19 نوفمبر 1967م متجهاً إلى بيروت للانضمام إلى أعضاء الوفد المتواجدين في الخارج الذين تحرك بعضهم من القاهرة إلى بيروت بعد أن قابلوا الرئيس جمال عبدالناصر قبل انطلاقهم إلى العاصمة السويسرية جنيف.
وقبل مغادرته القاهرة أدلى رئيس الوفد قحطان الشعبي بتصريحات إلى وسائل الإعلام حدد فيها القضايا التي ستكون مثار نقاش مع الجانب البريطاني وهي تحقيق الاستقلال الناجز وتسليم السيادة للحكومة الوطنية، وكذا رفض أي اتفاق عسكري أو دفاعي أو أحلاف سياسية، ورفض الدخول في نطاق الكومنولث البريطاني، وعدم التفريط في أي جزء من الجنوب اليمني بما فيها كل الجزر التي ترتبط بأراضي الجنوب اليمني المحتل.
وكذلك رفض أيه قيود أو شروط من أي نوع كانت سواء كانت اقتصادية أو مالية أو سياسية، وأن الحكومة الوطنية الجديدة قد تقبل الارتباط بمنطقة الاسترليني لمدة معينة تكون قابلة للتجديد أو الإلغاء، وستعمل على إلغاء كل الاتفاقات الموقعة بين بريطانيا والسلاطين والمشائخ السابقين وحكومة الاتحاد المزيف.
وأضاف الشعبي في التصريح أن المفاوضات ستشمل طلب معونات وتعويضات مالية غير مشروطة وتسليم كل ممتلكات الجيش البريطاني الثابتة لحكومة الثورة، كما سيكون الاتجاه إلى تحديد فترة انتقالية بعد الاستقلال وسيتم إنشاء مجلس وطني تأسيسي لإعداد الدستور الدائم.
وأشار راشد إلى أن الوفد اليمني أثناء المفاوضات تعرض للكثير من الضغوطات لكنه وقف أمامها بصلابة وأستطاع أن يفرض شروطه وآرائه ونيل الاستقلال الكامل والناجز على كل الأراضي اليمنية التي كانت تحت الاحتلال البريطاني.
إعلان الاستقلال
يقول المناضل ثابت محمد راشد أن الجبهة القومية في صبيحة يوم 26 نوفمبر 1967م أصدرت بياناً أعلنت فيه أنه بعد منتصف الليلة الماضية لتاريخ البيان تمت عملية انسحاب القوات البريطانية الاستعمارية من أحياء كريتر، والمعلا والتواهي وبذلك لا يكون لقوات الاحتلال الأجنبية أي وجود في أراضي الجنوب ما عدا بعض قوات في معسكر القوى الجوية التي ستنسحب ليلة الثلاثين من نوفمبر 1967م.
وقبل انسحاب بقية جيوب القوات البريطانية من مدينة عدن تحركت في يوم 27 نوفمبر 1967م في جميع أحياء مدينة عدن وفي أغلب مناطق الريف مسيرات شعبية كبرى عبرت فيها الجماهير عن فرحتها وابتهاجها بجلاء القوات البريطانية من معظم أحياء المدينة وتأكيداً على التفافها حول قيادتها الطليعية الجبهة القومية.
وتوثيقاً لتلك المرحلة من تاريخ اليمن فقد تناولت النشرة التي كان يصدرها مكتب إعلام الجبهة القومية في عدن في افتتاحياتها ليوم 29 نوفمبر 1967م موضوع الجلاء النهائي لقوات الاحتلال البريطاني مبشرة بشروق شمس الحرية والعزة والكرامة ومما جاء في الافتتاحية:
اليوم يتم الجلاء النهائي لقوات الاحتلال البريطاني بعد استعمار دام ما يزيد عن قرن وربع القرن، اليوم تتطهر أرضنا وإلى الأبد من أي وجود أجنبي، اليوم تشرق علينا شمس الحرية بأضوائها لتنير الظلام الذي لف البلاد طوال حكم الاستعمار البغيض، واليوم كذلك يعود وفد الجبهة القومية من جنيف بعد اجتماعاته مع الوفد البريطاني في مفاوضات الاستقلال، وها هي شوارعنا تزينها الأعلام وتسطع فيها الأنوار احتفالاً بهذه الأيام العظيمة، وإن على جماهير الشعب أن تبدأ تفاعلها الثوري الضروري مع قيادتها منذ الآن بتنظيم الاحتفالات وتسيير المسيرات الشعبية ونشر جو البهجة والأمل في طول البلاد وعرضها.
وكان يوم الثلاثين من نوفمبر من العام 1967م هو يوم رحيل آخر جندي بريطاني عن الجزء الجنوبي من وطننا الغالي.

قد يعجبك ايضا