المهام التبادلية تُظهر جناحين متلازمين لثورة يمنية واحدة في الشمال والجنوب
حكاية الثورة والاستقلال بلسان قائد »الذئاب الحمر«
«كان قرار الكفاح المسلح يعلن عن نفسه مُستنداً على الظروف الموضوعية والذاتية في المجتمع اليمني بآسره». بهذه الكلمات الجازمة القاطعة، يلخص واحد من أشهر «الذئاب الحمر» اليمنيين الذين انتفضوا في وجه «الأسد البريطاني» واستطاعوا -رغم فارق الإمكانيات- قهره وطرده مهزوماً مدحوراً من جنوب الوطن؛ حقيقة واحدية الثورة اليمنية في شمال الوطن وجنوبه، وأنها تتجاوز الدوافع الواحدة والأهداف المشتركة، إلى واحدية الثوار والمعارك، وواحدية القدر والمصير، على قاعدة «نكون أو لا نكون».
الثورة /إبراهيم الحكيم
«الذئاب الحمر» لقب أطلقته الصحافة البريطانية على الثوار اليمنيين في جنوب اليمن المحتل ضد إحدى أعتى امبراطورية استعمارية عرفتها البشرية طوال ثلاثة قرون، الإمبراطورية البريطانية، التي لم تكن الشمس تغيب عنها لاتساع رقعة مستعمراتها في العالم. وبقدر ما كان سلاح هؤلاء الذئاب الحمر (الثوار) يأتيهم من شمال اليمن الذي كان يرفدهم أيضاً بالرجال وكانوا يتلقون فيه تدريبهم العسكري؛ بقدر ما اضطلع نفس الثوار بمهمة الدفاع عن ثورة شمال الوطن وحماية ظهر جمهورية «26 سبتمبر» الوليدة من مؤامرات الإطاحة بها، وإجهاضها.
هذا ما تؤكده رواية واحد من أشهر هؤلاء «الذئاب الحمر» الثوار، ملأ صيته الأفق ومدونات تاريخ «النضال الوطني المسلح لتحرير الشعب اليمني وتوحيد الأرض اليمنية»، وبخاصة قيادة النضال في ثاني جبهات الثورة اليمنية «جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل».. ولا يمكن لمن يأتي على مسار الثورة اليمنية والنضال المسلح لتحرير جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني، أن يغفل الرئيس الراحل عبدالفتاح إسماعيل الجوفي، قائد الفدائيين في عدن، وأمين عام الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل التي احتضنت صنعاء مؤتمر تشكيلها في مايو 1963م.
أبرز ما يأخذه المؤرخون للحركة الوطنية على هذا «الذئب الأحمر» الثائر يأسه من خيار النضال السلمي وانحيازه حد التعصب لخيار الكفاح المسلح سبيلاً لتحرير جنوب الوطن من الاحتلال. وفي سياق روايته المُثبتة لحكاية النضال المسلح في جنوب اليمن، وميلاد ثورة 14 أكتوبر، وصولاً إلى انتزاع الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م؛ يقول عبد الفتاح: «على امتداد سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات كان الشعب قد تمرَّس على أساليب النضال الوطني، وخاض مختلف طرق النضال السلمي من أجل تحرره الوطني من الاستعمار».
خيار الكفاح
لكن نبرة اليأس هنا تقود لتفجر الأمل. يقول: «في البداية الأولى للستينيات بدأت تغزو بعض التنظيمات السياسية، أفكار الكفاح المسلح، وكانت في الواقع تجسيداً لجهور رفضها للوجود الاستعماري في البلاد. وكانت في نفس الوقت ملجأها الأخير بعد أن أثبتت تجربة النضال السلمي فشلها وعدم جدواها في الاضطلاع بالمهام الحقيقية للتحرر الوطني بفعل الطبيعة الاستعمارية الامبريالية البريطانية بل الطبيعة التي تلازم عادة كل المستعمرين في عصرنا الراهن. وكانت حركة القوميين العرب من بين التنظيمات الأخرى، التي تبنت أسلوب الكفاح المسلح طريقاً للتحرر الوطني».
وفي هذه النقطة، يبرز عبدالفتاح إسماعيل شرطاً أساساً اتخذ طابع «ما لا يكون الكل إلا به». ويقول:«لكن كان تقييمنا لهذه المسألة، أننا لا نستطيع أن نبدأ الكفاح المسلح، قبل إسقاط النظام الامامي الكهنوتي في صنعاء. وقد كان تقييمنا لهذه المسألة صحيحاً، فبعد فترة بسيطة لترسخ القناعة بضرورة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، قامت ثورة 26 سبتمبر وتم إسقاط النظام الامامي الكهنوتي وقام النظام الجمهوري، وولدت ظروف ملائمة في صنعاء، يمهد لانتقال الكفاح المسلح من حيز الإيمان النظري إلى حيز التطبيق العملي».
بيد أن هذا الانتقال أبرز بدوره عاملين أساسيين كانا بمثابة ساعة الصفر الواجبة لانطلاق هذا الانتقال المصيري، أو كما يقول الرئيس عبدالفتاح «حتما البدء في الكفاح المسلح». وهذان العاملان كما يقول هما:«أن الخلفية المساندة لأي كفاح مسلح في الشطر الجنوبي المستعمر من قبل المستعمرين الإنجليز، أصبحت موجودة، وهذا يعني أن النظام الجمهوري في صنعاء غدا تلك الخلفية التي يمكن أن تلعب الدور الوطني اليمني لدعم الكفاح المسلح ضد بريطانيا الاستعمارية من أجل تحرير جنوب إقليم الوطن اليمني».
أما العامل الثاني، الذي تتجلى فيه أكثر واحدية هوية الثورة اليمنية ودوافعها وأهدافها، وتنفيذها ووقائعها، في جبهتيها أو جناحيها في شمال الوطن وجنوبه. فيوجزه إسماعيل، قائلاً:«الجانب الآخر في المسألة هو أن مجرى النضال الوطني للشعب اليمني دفاعاً عن جمهورية سبتمبر، كان يضع أمام الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي من الإقليم مهام الاضطلاع بدور حماية هذه الجمهورية، فقد هب الآلاف من كل الحواضر والألوية والمناطق اليمنية، للانخراط في صفوف الحرس الوطني من أجل الدفاع عن جمهورية سبتمبر».
بتحديد أدق لطبيعة المهام التبادلية لجناحي الثورة اليمنية، يتابع الرئيس عبد الفتاح إسماعيل، رواية الحكاية في مقال نشره في يوليو 1974م، قائلاً:«كانت أمام الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي من الوطن مهمتان: مهمة الدفاع عن جمهورية سبتمبر بعرقلة التخريب البريطاني والملكي القادم من الجنوب، ومهمة الاستفادة من الظرف التاريخي الذي ولدته ثورة سبتمبر من أجل السير في النضال الوطني التحرري ضد المستعمرين الانجليز،لكي يتم تحرير جنوب اليمن. على ضوء كل ذلك كان قرار الكفاح المسلح يعلن عن نفسه مُستنداً على الظروف الموضوعية والذاتية في المجتمع اليمني بأسره».
لقاء صنعاء
وفي البداية، حسبما يؤكد الرئيس عبدالفتاح «كان هدفنا قيام جبهة وطنية تقود الكفاح المسلح، وقد حاولنا في حوارنا مع بقية التنظيمات وبالذات حزب البعث وحزب الشعب الاشتراكي، أن تكون القناعة مشتركة حول الكفاح المسلح، لكن يبدو أن مثل هذه التنظيمات لم تكن بعد قد تخلصت من عدم جدوى النضال السلمي، وكانت تعتقد أن الطريق السلمي لا زال هو المؤدي للاستقلال الوطني. وفي مايو 1963م جرى حوار في صنعاء بين حركة القوميين العرب وتنظيمات سياسية سرية أخرى، يمكن اعتبارها تنظيمات سرية وعلنية، لها علاقة طيبة بالحركة».
كان هذا اللقاء حدثاً محورياً في تاريخ حركة التحرر الوطنية في جنوب الوطن اليمني، وفي مسار الثورة اليمنية بجناحيها (الشمالي والجنوبي)، وفقاً للرئيس عبدالفتاح، الذي يقول:«وفي هذا اللقاء تم تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، على أساس الأخذ بالكفاح المسلح أسلوباً لطرد المستعمرين الانجليز، وحينها كان الصدام بين تشكيل القبائل أحد فصائل الجبهة القومية والقوات البريطانية قد بدأ يأخذ مجراه الصدامي في ردفان، وكان لا بد من جعل الانتفاضة المسلحة في ردفان بداية انطلاق ثورة 14 أكتوبر».
وهكذا -والحديث للرئيس الراحل عبدالفتاح إسماعيل- «تم تشكيل الجبهة القومية في صنعاء، وفي هذه الفترة كانت القوات العربية قد وصلت إلى صنعاء للمشاركة في الدفاع عن ثورة سبتمبر أمام الهجوم (الملكي وحلفائهم) والاعتداءات العسكرية الانجليزية في الجنوب. حينها كانت العلاقة داخل الحركة الوطنية مشوبة بالخلافات والمشاحنات العدائية، فقد كانت العلاقة بين الناصرية والبعث قد وصلت إلى درجة كبيرة من التوتر، وكانت العلاقة بين حركة القوميين العرب والرئيس الراحل عبدالناصر علاقة جيدة».
كان توافق غايات التحرر محور هذه العلاقة، ويقول الرئيس عبدالفتاح :«بسبب العلاقة الجيدة بين الحركة وعبدالناصر، وبسبب الأخطار المحيطة بجمهورية سبتمبر، إضافة إلى نضج الظروف الداخلية للقيام بالكفاح المسلح، استطاعت حركة القوميين العرب أن تلتقط مؤشرات النضال التحرري في الساحة وتدفع به خطوات إلى الأمام..كان الصدام العسكري بين القوات المصرية والبريطانية على “الحدود” بين اليمن الجمهورية (الشمال) واليمن المستعمرة (الجنوب) وبالذات بيحان؛ يمهِّد لتجسيد العلاقة الجيدة بين الحركة وعبدالناصر، بتدعيم العمل المسلح في الجنوب بالسلاح،…من خلال وجود القوات العربية في صنعاء وتعز».
المد السبتمبري
وعلى إثر توافر الشروط المهيئة للسير على طريق الكفاح المسلح، يقول الرئيس عبدالفتاح: «قمنا بالتحضير السياسي والعسكري الواسع للكفاح المسلح.. وبدأنا بتدريب العناصر التي ستتحمل مسؤولية العمل العسكري والفدائي.فقد كنا نرسل هذه العناصر سراً للتدريب في معسكرات الجبهة في تعز وصنعاء، على مختلف الأسلحة وأساليب العمل الفدائي. كان التدريب يأخذ فترة قصيرة في معسكرات الجبهة القومية في الشمال، إلى جانب ذلك كنا قد بدأنا بإدخال السلاح وتخزينه في أماكن سرية، وبدأنا بتشكيل الفرق الصغيرة التي ستكون مهمتها القيام بالعمليات الفدائية».
لم يكن الوقت لصالح الثوار، ولهذا فقد قابلت هذه التحضيرات المكثفة في الجانب العسكري الفدائي، تحضيرات مكثفة مماثلة في الجانبين السياسي والشعبي – حسبما يروي المناضل الراحل عبدالفتاح إسماعيل :«في الجانب السياسي، فقد كنا دوماً نحاول أن نجر القوى الوطنية الأخرى للانخراط في عملية الكفاح المسلح. ولكن يبدو أن الخلافات الحزبية والتناقضات الذاتية كانت أقوى من أن تغلب لصالح النضال الوطني والكفاح المسلح، خاصة وأن الحركة التي كانت تقود الكفاح المسلح، تعيش خلافاً مع التنظيمات الأخرى التي ترتبط بصلات حزبية بتنظيماتها القومية».
ويضيف: «في البداية الأولى، كان تركيزنا على تثبيت أركان الكفاح المسلح وانتشاره في ما كانت تسمى بالمحميات وعدن المستعمرة. وفي السنتين الأوليين من عمر الثورة أصبح الكفاح المسلح أبرز وأوسع أشكال النضال الوطني قدرة على التأثير في مجرى الحياة السياسية، وأصبح يستقطب حوله كل القوى الاجتماعية المؤمنة بالتحرر الوطني لبلادها. وإلى جانب أسلوب الكفاح المسلح، استخدمنا أساليب النضال الوطني الأخرى، مثل تنظيم المظاهرات الشعبية والإضرابات العمالية وإثارة القضية الوطنية في المحافل والمؤتمرات العالمية وهيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية».
وفي ما يتعلق بالمنظمات الجماهيرية التي ازدهرت في عدن إبان فصل إدارتها عن مستعمرة الهند البريطانية، وربطها مباشرة بوزارة المستعمرات البريطانية في لندن عام 1937م؛ يقر الرئيس الراحل عبدالفتاح إسماعيل بفاعلية دور المنظمات الجماهيرية، ويقول: «احتلت المنظمات الجماهيرية والاجتماعية اهتمامنا في عملية تنظيم وتعبئة الجماهير في مرحلة التحرر الوطني، وتركز اهتمامنا أكثر بالحركة العمالية، حيث استطاعت الجبهة القومية مد نفوذها واستقطاب العديد من النقابات إلى صفها، ولازلنا نتذكر الدور الذي لعبته النقابات الست في عملية النضال الوطني».
بتفصيل أكثر، يمضي الرئيس عبدالفتاح قائلاً: «وكما تمكنا من السيطرة على الحركة العمالية خلال عملية النضال الوطني؛ استطعنا كذلك التغلغل داخل المنظمات الجماهيرية مثل اتحاد الطلبة والمرأة والحركة الرياضية، وقد لعبت هذه المنظمات دوراً مهماً في النضال الوطني.. مثلاً كانت المرأة (بجانب مشاركتها في المظاهرات) تقوم بتوزيع المنشورات ونقل الرسائل والتعميمات الداخلية. وفي الريف شاركت في حمل السلاح وتزويد المقاتلين بالطعام. كما أن الطلبة قاموا مرات كثيرة بالإضراب عن الدراسة ومقاومة السياسة التعليمية الاستعمارية».
توسيع الكفاح
في المقابل، ظلت العمليات الفدائية للثوار تشهد تطوراً في الأدوات والأساليب ودقة التنفيذ. وبحسب ما يرد في نفس شهادته المثبتة على تاريخ حركة التحرر الوطنية في جنوب اليمن، يقول الرئيس الراحل عبدالفتاح إسماعيل: «بعد اتخاذ قرار الأخذ بالكفاح المسلح طريقاً لنيل التحرر الوطني، بعد الانتفاضة المسلحة في ردفان، كان علينا أن نتوسع في تدريب الكوادر العسكرية، ونعدها إعداداً سليماً، وبسبب ظروف العمل السري كنا نختار أصلب العناصر وأكثرها نضجاً في الوعي السياسي، ولها أيضاً خبرة تنظيمية طويلة».
ويضيف: «وبعد أن استكملنا تجهيز العناصر الفدائية، بدأنا نفكر في نقل العمل الفدائي إلى المدن وبالذات المستعمرة عدن.. لم يكن الكفاح المسلح يشغلنا في الأرياف، فقد كانت الظروف هناك ملائمة للسير فيه بحكم الطبيعة الجغرافية والجبلية.. وكانت بريطانيا لا تكترث لخطورة الكفاح المسلح في الريف، فهي مستعدة لمقاومته سنوات طالما أنه لن يمتد إلى عدن». وهو الانتقال الذي بدا أول الأمر صعباً وربماً مستحيلاً، قبل أن تكشف الشجاعة والإقدام للفدائيين: أن عدن ليست عنق الزجاجة التي يمكن أن يسدها الإنجليز في دقائق بعد سماع دوي أول انفجار».
عن هذه المرحلة وبسالة الفدائيين، يقول الرئيس عبدالفتاح :«كانت البداية صعبة بالنسبة لهم. فقد كان الاعتقاد أن المخابرات البريطانية تراقبهم وأنهم سينكشفون في الحال، وكانوا في الواقع يحتاجون إلى الهزة الأولى، قبل أن يتعودوا على ممارسة العمليات المباشرة مع العدو».
ويردف: «هذا الإحساس يعود إلى الطبيعة الجغرافية لعدن فهي شبه جزيرة صغيرة، وكعنق الزجاجة يسهل إغلاقها والسيطرة عليها بقوة محدودة وفي عدة دقائق أيضاً يضاف إلى ذلك أن العناصر الفدائية لم تكن قد تدربت أو تعلمت شيئاً عن حرب العصابات داخل المدن لكنها تعرف مدينة عدن، وشوارعها وأزقتها وجبالها».
لم يكن التحدي الأكبر تلقي الفدائيين تدريبات في تنفيذ عمليات على أهداف مباشرة تابعة للعدو، بل كان التحدي الأكبر التمكن من تهريب الأسلحة من شمال الوطن إلى عدن.. في هذا يقول الرئيس عبدالفتاح: «وبرغم الصعوبات والمشاق، إلا أننا كنا مهتمين بنقل الكفاح المسلح إلى عدن. ومن أجل ذلك هيأنا كل شيء ووفرنا شروط تفجيره. وتمكنا من إدخال السلاح إلى عدن تارةً مغامرة بالسيارات وتارة أخرى على الجمال التي كانت تنقل القصب والأعلاف والخضروات من المزارع إلى سوق عدن. وفي داخل المدينة كنا نقوم بصنع القنابل البلاستيكية من بعض المواد الكيماوية».
وبالفعل فقد كانت الهزة أو العملية الأولى داخل عدن كفيلة بتدشين مئات الهزات اللاحقة بثقة وثبات متزايدين.حيث يقول: «في منتصف 1964م بعد مرور بضعة أشهر من الثورة تم نقل العمل الفدائي إلى المستعمرة عدن، حيث قام الفدائيون بسلسلة من عمليات رمي بالقنابل على منازل الضباط الإنجليز وأنديتهم. كما ضُرب المطار العسكري بقذائف البازوكا، وتسببت هذه العمليات بقتل وجرح العشرات من الضباط والجنود البريطانيين. وخلال هذه العلميات اكتسب الفدائيون دروساً كبيرة أفادتهم في العمليات اللاحقة.وبانت لهم نقاط الضعف في النظام العسكري البريطاني داخل المستعمرة».
على أن أسلوب تنفيذ العمليات لم يخل من عفوية ظلت تعكس اليقين بعدالة قضية الاستقلال. يقول:«كنا في بداية العمل الفدائي داخل المدينة عدن وبقية المدن الأخرى، نلجأ إلى أساليب التمويه المختلفة، مثل لبس الأقنعة وتغيير أرقام السيارات وانتحال شخصيات ضباط رسميين بلباس رسمي أيضاً..كنا مثلاً نعد الأشخاص الذين سيقومون بالعملية ونعد السيارات بأرقام مزيفة، ونحدد مكان اللقاء بعد تنفيذ العملية. وبعد ذلك نقوم بتنفيذ العملية وننتهي من إخفاء كل شيء وإعادة السيارات بأرقامها الصحيحة، ونسير بين الناس بطريقة عادية، نجس نبض ردود الفعل لديهم حول العملية».
إشهار الكفاح
استمرت سرية العمل الفدائي على هذا النحو المعتمد مباغتة العدو خفية، أكثر مما خطط لها الاستمرار، بفعل تجدد اختلاف القوى السياسية الوطنية على الوسيلة الأنسب لتحقيق الغاية المشتركة لها جميعها, حسبما يفيد الرئيس عبد الفتاح، قائلاً: «يمكن القول أن الكفاح المسلح في هذه الفترة تميز بظروف العمل السري، وكان نجاح وثبات العمل الفدائي وتطوره يمهد للانتقال إلى مرحلة المجابهة المباشرة لقوات الاحتلال، ولكن الظروف التي نجمت عن قيام جبهة التحرير في بداية 1966م، أعاقت لفترة تحول العمل الفدائي إلى مجابهة مباشرة مع العدو الاستعماري».
لكن سرية العمل الفدائي لم تدم طويلاً فسرعان ما استشعرت المخابرات البريطانية ما يجري في عدن وأن ما تشهده مرافق سلطات الاحتلال وقياداتها، ليست حوادث عارضة بل عمليات منظمة. فكثفت المخابرات نشاطها، واستطاعت بالفعل القبض على خلية فدائيين. يقول الرئيس عبدالفتاح: «بعد الضربة الأولى التي تعرضنا لها عندما اعتقلت السلطات الاستعمارية بعض العناصر الفدائية العاملة، فكرنا بتوجيه ضربة لرجال المخابرات المحليين والإنجليز على السواء، لأننا إذا تركناها دون رادع فسوف تقضي على مستقبل العمل الفدائي».
ويضيف: «وجهنا في البداية العديد من الإنذارات نحذر فيها رجال المخابرات المحليين من قضية متابعة الفدائيين، ولكن يبدو أنهم لم يكترثوا لذلك، وخططنا لاغتيال أبرز رجالاتهم وتتابعت عمليات اغتيال رجال المخابرات الواحد تلو الأخر، وطالت رشاشاتنا صدور كبار ضباط المخابرات والمسئولين الإنجليز، مثل المستر بيري، وتشارلز رئيس المجلس التشريعي (في عدن) وشيبرس،..إلخ».الأمر الذي دفع بالكفاح المسلح إلى خوض مرحلة المواجهة المباشرة مع سلطات الاحتلال البريطاني، وأتباعه، وجهاً لوجه.
ووفقاً للرئيس عبدالفتاح، فقد كان الانتقال لهذه المرحلة:«ابتداءً من أواخر سنة 1966م وبداية 1967م».وقد تميزت العمليات العسكرية، كما يقول: «بالتحرك المكشوف والتمركز على سطوح المنازل، وخوض معارك الشوارع (حرب العصابات) ضد الدوريات وقوات المشاة، كما تميزت أيضاً باستخدام سلاح مدافع الهاون والبازوكا، وبالمقابل نجد أن قوات الاحتلال انتقلت من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع عن معسكراتها ومساكن عائلات الضباط في الأحياء الأوروبية، مثل: خور مكسر، والتواهي، والمعلا، والبريقة، وكريتر».
مع هذا، فإن تمترس القوات البريطانية وإعلانها حالة الطوارئ، وتشديدها الحراسة ورفع جاهزيتها إلى الحدود القصوى؛ كل ذلك لم يحل دون تكبد سلطات الاحتلال مزيداً من الخسائر الموجعة، وفي الوقت ذاته اكتساب الثوار مزيداً من الثقة والقوة والعزيمة.على حد تأكيد الرئيس عبدالفتاح، الذي يمضي قائلاً:«حتى انتقال القوات الإنجليزية إلى موقع الدفاع، لم يعرقل الثورة المسلحة بل أتاح لها إمكانية الانتقال إلى طور جديد من العمل، هو طور الهجوم بدلاً عن العمليات التي كانت تقوم على الضرب والاختفاء السريع».
ويضيف: «بالرغم من الحراسة المشددة على الأحياء السكنية التي تقطنها عائلات الجنود والضباط وحواجز الإسمنت المشيدة في الأزقة ومداخل الشوارع، خوفاً من كمائن الفدائيين؛ فقد لجأنا إلى استخدام مدافع الهاون والبازوكا من مسافات بعيدة، ونجحت العديد من العمليات، الأمر الذي اضطر الإنجليز في الأخير إلى إجلاء جميع العائلات وترحيلها».مُردفاً: «وفي عديد من العمليات استخدمنا الهاون الثقيل ضد المواقع العسكرية البريطانية في التواهي وخور مكسر».لافتاً إلى مشاهدة بعثة للأمم المتحدة عياناً واحدة من أشهر هذه العمليات وأعنفها.
المعركة الحاسم
في وصفه هذه العملية، يقول الرئيس عبدالفتاح:«كانت المعركة المكشوفة والمباشرة في الشوارع بين فدائيينا والقوات الإنجليزية، خلال قدوم بعثة الأمم المتحدة لتقصي الوضع في المنطقة في إبريل 1967م، فقد استمرت المعارك في الشوارع والأحياء طوال الأيام التي بقيت فيها اللجنة (البعثة) في عدن، وبشكل متواصل. وكان سلاحنا في هذه المعارك السلاح الخفيف من الرشاشات والقنابل ومدافع البازوكا، بينما استخدمت القوات البريطانية الطائرات والدبابات وقوات المشاة». مردفاً:«لقد تحولت عدن بالفعل إلى ساحة معركة دموية بين الثورة والقوات الاستعمارية».
ويضيف:«يمكن القول إن هذه التجربة، قد توِّجت باحتلال كريتر (مدينة عدن القديمة) في 20 يونيو 1967م، لأكثر من أسبوعين الأمر الذي مثل نقطة تحوِّل في الكفاح المسلح وتعبئة الجماهير لإسقاط المناطق الواحدة تلو الأخرى من أيدي السلاطين والمستعمرين. وبعد الهزيمة العسكرية التي تعرضت لها الجيوش العربية في حزيران 1967م وأدت إلى احتلال إسرائيل لكثير من الأراضي العربية، اعتقد الاستعمار البريطاني أنه في وضع يمكنه من توجيه الضربة النهائية للثورة، خاصة وأن ردود الفعل النفسية من الهزيمة لدى جماهير الشعب، كانت قد تركت كل أثر سلبي قانط في النفوس».
لكن القنوط تحوَّل إلى غضب عارم بعث الشعور الوطني لدى الجميع، كما يقول الرئيس عبد الفتاح:«بعض العناصر المؤيدة للجبهة في الجيش والأمن من أجل الدفع بالصدام مع الفدائيين في 20 يونيو 1967م. الأمر الذي أدى إلى التضامن النضالي بين جنود الأمن والفدائيين والقيام بالانتفاضة المسلحة في مدينة كريتر.. حيث تم الاستيلاء على مخازن السلاح وتوزيعه على الفدائيين وأنصار الجبهة، وجرت العديد من الاشتباكات مع الجنود الإنجليز في المدينة، حيث قتل العديد منهم وهرب الآخرون إلى خارج المدينة، ودمرت العديد من الآليات والهيلوكبتر».
وبعد أن تمت السيطرة الكاملة على المدينة، يقول الرئيس عبدالفتاح: «تحملت الجبهة مسؤولية إدارتها، وتحصنت قواتها على قمم الجبال ومداخل المدينة، وبدأت المعارك تأخذ مجراها بين قواتنا والقوات الإنجليزية التي تمركزت في أماكن متفرقة من حي المعلا ومفارق طرقها”.
منوها بأنه “طوال فترة إسقاط مدينة كريتر استخدمت القوات البريطانية مختلف الأساليب العسكرية لاستعادتها، ولجأت إلى محاصرتها لمنع أي تموين بالسلاح للفدائيين، ولكن حصارها فشل، واستمرت قواتنا تدافع عن المدينة طوال فترة سيطرتها عليها، مؤكدة بذلك عزمها وتصميمها على تحقيق الاستقلال الوطني مهما كان الثمن».
لتفاصيل أوفى، انظر:
-“حول الكفاح المسلح في جنوب اليمن”، بقلم: عبد الفتاح إسماعيل، الأمين العام للتنظيم السياسي للجبهة القومية، صحيفة «الثوري»، ملحق للعدد (224) بتاريخ: يوليو 1974م.