أكدت دراسة مالية حديثة أن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها اليمن وبالأخص بعد العدوان الغاشم تحتم وجود دور رائد وواع في عملية إدارة وقيادة وتوجيه التنمية ، مشيرة إلى أن الدولة وبحسب نصوص الدستور كونها تتبنى نظام اقتصاد السوق وتأخذ بآلية التخطيط التأشيري في إدارة وتوجيه التنمية فقد أصبح من المعلوم أن أدوات السياسة المالية هي الأدوات الرئيسية إلى جانب أدوات السياسة النقدية التي تستطيع الدولة من خلالهما القيام بهذا الدور الهام بصورة عملية وفعالة وبالأخص في ظل الأهمية النسبية لدور القطاع الحكومي والعام في توليد الناتج والدخل والتوظيف وتحديد مستوى الطلب الكلي ، والتشابكات الأمامية والخلفية للقطاع الحكومي والعام مع مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية ، وهذا ما يجعل عملية إصلاح وتطوير عمل القطاع الحكومي شرطاً رئيسياً وحاكماً لتحقيق النجاح لأي إصلاح اقتصادي شامل وتحقيق استقرار حقيقي وتنمية حقيقية مستدامة على وجه التحديد..حول ذلك إليكم التفاصيل:
الثورة / أحمد المالكي
وقالت الدراسة – التي أعدها الدكتور أحمد محمد حجر وكيل وزارة المالية حول حوكمة عمليات قطاع المالية العامة ودورها في تعزيز مبادئ الحكم الرشيد، حصلت الثورة على نسخة منها -إن قطاع المالية العامة يمثل أهم قطاعات الدولة المعنية برسم وتنفيذ وتقييم نتائج السياسات التي تستند إليها الدولة في توجيه وقيادة وإدارة الشأن الاقتصادي بما ينسجم و بلوغ غايات وأهداف التنمية الحقيقية المستدامة والعادلة..
حيث تبرز أهمية حوكمة أعمال وأنشطة قطاع المالية العامة في تحقيق أهداف ما أطلق عليه حديثاً الحكم الرشيد عامة وتحقيق الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد خاصة..
الحسابات القومية
ووفقا للدراسة فإن بيانات الحسابات القومية تظهر أن القطاعات الاقتصادية التقليدية تساهم في الجزء الأكبر من توليد الناتج المحلي الإجمالي ، حيث تصل نسبة مساهمة قطاعات (الزراعة والصيد والصناعة الاستخراجية والبناء والتشييد والتجارة والمطاعم والفنادق ) إلى الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط ما نسبته (58 %) قبل العدوان (46 %) بعد العدوان، في حين لا تتجاوز مساهمة القطاعات الحديثة (الصناعة التحويلية والاتصالات والتمويل والتأمين ) في المتوسط إلى ما نسبته (13 %) قبل العدوان، و(17 %) بعد العدوان، وهذا ما كان له أثر واضح في تدني معدلات النمو وبالتالي محدودية التوسع في حجم وتنوع الأنشطة الاقتصادية وبالتالي تدني توسع الأوعية الإيرادية وبالأخص في ظل ارتفاع حجم الأنشطة الفردية خارج القطاع المنظم في هذه القطاعات..
مشيرة الى تدني معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي خلال سنوات ما قبل العدوان، حيث لم يتجاوز في المتوسط (4.5 %) قبل أحداث 2011م ليتحول إلى سالب خلال الفترة (2011- 2019م) بنحو (5.3 %) ، ثم يواصل انخفاضه بسبب العدوان والحصار خلال الفترة (2015م – 2019م ) بمعدل سنوي متوسط (11.73 %) ، وذلك في ظل معدل نمو سنوي للسكان (3.0 %) ، وهذا ما ترتب عليه :
– انخفاض الحجم الحقيقي للطاقات الإنتاجية للاقتصاد المحلي عام 2019م عن مستواه عام 2014م بما نسبته (46 %).
– انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي المتاح الحقيقي عام 2019م عن مستواه عام 2014م بما نسبته (58 %).
– ارتفاع نسبة البطالة الكاملة من نحو (24 %) عام 2014م إلى ما يتجاوز (60 %) عام 2019م.
تخصيص
وأشارت الدراسة الى عدم رشادة تخصيص الموارد المالية للاقتصاد القومي ، حيث استحوذت نفقات المجتمع على سلع وخدمات الاستهلاك النهائي على نحو (80.6 %) عام 2010م لترتفع بعد أحداث 2011م إلى نحو (98 %) عام 2014م ولتصل بعد العدوان والحصار حتى 2019م إلى نحو (112 %) ما يعني أن نتائج أحداث 2011م أدت إلى التهام المجتمع لأي مدخرات جديدة، لتأتي الحرب العدوانية والحصار وتفرض على المجتمع سحب جزء من مدخراته سنوات سابقة لتغطية احتياجاته الأساسية والضرورية من السلع والخدمات النهائية ، وهذا ما يجعل الاقتصاد القومي غير قادر على توفير أي موارد مالية ليس لإنعاش الاقتصاد فحسب بل والمحافظة على ما تبقى من طاقاته الإنتاجية القائمة أيضاً..
إضافة إلى ارتفاع درجة اعتماد الاقتصاد القومي على العالم الخارجي وبالأخص من السلع والخدمات الاستراتيجية والأساسية كالقمح بنسبة (94 %) والأدوية (85 %) والأرز (100 %) والحليب والزيوت (80 %) ومدخلات الإنتاج الصناعية أكثر من (60 %) والسلع الرأسمالية…. إلخ ، وكذا ارتفاع نسبة انكشاف الاقتصاد القومي على العالم الخارجي بنسبة (61 %) عام 2010م ومعدل المكون الأجنبي للاستثمار نحو (70 %) ، إلى جانب العوامل الخارجية المساهمة في توليد الدخل القومي بنسبة تتجاوز (20 %) وتمويل الاستثمار القومي ، وهذا ما جعل الاستقرار والنمو الاقتصادي رهين عوامل خارجية لا يمكن التحكم بها..
وكذا ارتفاع معدلات التضخم، حيث ظلت طوال السنوات قبل أحداث 2011م في المتوسط أكبر من (10 %) لترتفع إلى نحو (12.6 %) خلال السنوات (2011م – 2014م ) ثم ترتفع خلال سنوات العدوان (2015م – 2019م) إلى نحو (21 %) في المتوسط ، وذلك في ظل تراجع متوسط الفرد من الدخل القومي بالأسعار الجارية..
كذلك ارتفاع فجوة الطلب المحلي الكلي السالبة من (4.4 %) عام 2010م إلى (14.6 %) عام 2014م إلى (27.6 %) ما يعني ان الطاقات الإنتاجية لا تستطيع الوفاء بقيمة احتياجات المجتمع من السلع والخدمات الاستهلاكية والاستثمارية بنسب متزايدة قاربت نسبة الاستثمار الإجمالي عام 2014م وتجاوزاتها بأكثر من (11 %) نقطة مئوية عام 2019م ما يدل على أن الاستهلاك النهائي الكلي قد تجاوز عام 2019م حجم الناتج المحلي الإجمالي بما يقارب (11 %) وتم تغطية هذه النسبة من أصول ومدخرات المجتمع لسنوات سابقة..
الفجوة التمويلية
واستمرار نسبة الفجوة التمويلية السابقة طوال الفترة (2010م- 2019م ) حيث بلغت (93.7 %) عام 2010م لترتفع إلى نحو (121 %) عام 2014م ثم تعود إلى مستواها عام 2019م وهو (93 %) ، وذلك رغم تدني حجم الاستثمار وتراجعه الكبير خلال سنوات العدوان ما يعني أن الجزء الأكبر من الاستثمار تحكمه عوامل خارجية ما يدل على خضوع عملية التنمية لعوامل خارجية تخدم في جزء هام منها أهداف الممولين الخارجيين..
بالإضافة إلى اختلال هيكل موقف ميزان المدفوعات ، حيث تتركز الصادرات على سلعة واحدة هي النفط الخام والغاز بنسبة تصل في المتوسط خلال الفترة (2012م- 2014م) إلى (82 %) من إجمالي الصادرات السلعية و(63 %) من صادرات السلع والخدمات و(35 %) من العائدات الاقتصادية الوطنية من النقد الأجنبي ، هذا إلى جانب استحواذ قيمة الواردات من السلع الضرورية والأساسية (الحبوب ، والمشتقات النفطية ، والأدوية ، والأرز ، والحليب ، والسكر ، زيوت ) على ما نسبته ( 50 %) من إجمالي قيمة الواردات السلعية ، وهذا ما يؤكد مدى اعتماد الاقتصاد القومي على العالم الخارجي لتوفير السلع الأساسية في الوقت الذي يعتمد فيه الاقتصاد الوطني على مصادر نقد تحكمها عوامل خارجية ما يجعل الاقتصاد حساساً بدرجة عالية جدا تجاه أي تطورات خارجية سياسية أو اقتصادية ، هذا إلى جانب معاناة الميزان من عجز مرتفع خلال معظم السنوات بنسب متفاوتة تراوحت ما بين (2 %- 9.7 %) خلال الفترة (2014م – 2019م ) وظلت عام 2019م في حدود (7.3 %) من الناتج المحلي الإجمالي..
وأكدت الدراسة أن اختلال ميزان العرض النقدي أدى إلى ارتفاع نسبة النقود إلى إجمالي العرض النقدي من (36.4 %) عام 2014م إلى (62.6 %) عام 2019م بسبب تمويل عجز الموازنة بالإصدار النقدي وقيام حكومة العملاء بطباعة كمية كبيرة من النقد ما كان له أثر واضح في تدهور القوة التبادلية للعملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم ، هذا في الوقت الذي تراجع فيه عامل صافي الأصول الخارجية إلى إجمالي العرض النقدي من (38.6 %) عام 2014م إلى (1.84 %) عام 2019م لصالح الزيادة في رصيد صافي مديونية الحكومة للجهاز المصرفي الذي ارتفعت نسبته إلى إجمالي العرض النقدي خلال نفس الفترة من (63.2 %) إلى (103.8 %)، فيما تراجعت وخلال نفس الفترة مديونية القطاع الخاص من (26.3 %) إلى (14.3 %) وهذا ما يعكس أثر العدوان والحصار في تفاقم اختلال ميزان العرض النقدي..
ناهيك عن الاختلال في سوق رأس المال الذي أدى -وفقا للدراسة- إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض والسلفيات، حيث تراوحت ما بين (19 %- 25 %) وفوائد الودائع ما بين (15 %- 20 %) وذلك في ظل تدني مستوى الطلب الكلي والبيئة الاستثمارية ما أدى إلى إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار لارتفاع تكاليف الاستثمار في ظل تدني مستوى الأرباح ما ترتب عليه زيادة اتجاه القطاع الخاص نحو حدة المضاربة في الأصول الثابتة للأراضي وأسعار العملات، وهذا ما كان له أثر سلبي وواضح في زيادة تدهور مستوى الإنتاج وارتفاع سعر الصرف ومعدلات التضخم وبالتالي تدني مستويات المعيشة وارتفاع نسب الفقر ومعدلات البطالة..
خلاصة:
وخلصت الدراسة في توصياتها إلى ضرورة إيجاد تقييم علمي وحقيقي وشامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة فعلاً ، ليتم على ضوئها تحديد التحديات والصعوبات القائمة وبالأخص في ظل النتائج والتداعيات الناجمة عن العدوان والحصار ، والتي على ضوئها سيتم اقتراح البدائل العلمية والعملية للإنعاش والإصلاح الاقتصادي ، مع مراعاة أن لا يتم إعداد هذا التقييم في دوائر مغلقة وإنما من خلال مشاركة المختصين والفنيين في كافة الجهات الحكومية والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني أيضاً..
مع أهمية مراجعة جهد الإصلاح الاقتصادي والمالي والنقدي خلال الفترة السابقة للاستفادة من تجارب الإصلاح وتعزيز الإيجابي منها ومعالجة مكامن القصور والخطأ فيها ومعالجة الصعوبات والإشكاليات التي ظهرت أثناء التنفيذ..
ومراعاة أن يصاحب عملية تنفيذ سياسات وإجراءات حوكمة قطاع المالية العامة تنفيذ سياسات إصلاح في العديد من الجهات السيادية ووزارة التخطيط والتعاون الدولي ،والبنك المركزي ،ووزارة الصناعة ،والقضاء والأمن ، وجهاز الرقابة وهيئة مكافحة الفساد والقطاع الخاص كشرط رئيسي لتعزيز نتائج تنفيذ سياسات الإصلاح المالي الإيجابية..
وأكدت الدراسة في توجيهاتها ضرورة قيام الكادر الفني الوطني بالدور الرئيسي في عملية الدراسة والتحليل والتقييم عند إعداد مشاريع برامج الإصلاح ، وأن تقوم الجهات الحكومية المعنية بالتنفيذ بالدور الرئيسي في عمليات المتابعة والتقييم وطرح المقترحات ،وضرورة التزام الجهات بإيجاد قاعدة البيانات والمعلومات المرتبطة بمهامها واختصاصاتها ورفع كافة الحواجز والرسميات المقيدة لعملية انسياب المعلومات بين الجهات الحكومية ومراجعتها ومناقشتها لإزالة عدم الاتساق فيما بينها وعدم الواقعية ،مع مراعاة تحديد خطة زمنية لتنفيذ سياسات وإجراءات الإصلاح حسب أولويات عملية لتنفيذها ،وإعداد رؤية عملية وواضحة لحوكمة قطاع المالية العامة واضحة الأهداف والسياسات العامة وأولويات التنفيذ ودور الجهات والقطاعات في مختلف مراحل إعداد وتنفيذ ومتابعة وتقييم سياسات وإجراءات الرؤية ،إضافة وجود آلية واضحة وعملية لعملية المتابعة والتقييم ورفع التقارير ومتابعة تنفيذ مقترحات معالجة مكامن القصور والصعوبات والفساد ونحوها بصورة دورية ومنتظمة.