الثقافة ومواجهة التطبيع

قاوم جميع الأدباء والمثقفين العرب الأحرار المحاولات المتعددة للتطبيع الصهيوني، وذلك منذ سنوات طويلة لمعرفتهم بخطورة وأهداف هذا التطبيع الساعي إلى تركيع الأمة العربية وجعل الكيان الصهيوني هو الحاضر الفاعل في الوطن العربي والمتحكم في قضاياها ومصيرها.
وعن تعريف التطبيع يقول أحد المثقفين العرب الدكتور/عدنان أبو عامر : ما هو التطبيع، وما حقيقة هذه اللفظة لغويّاً على الأقلّ؟ ماذا نعني بكلمة تطبيع على أرض الواقع؟ أين هي الحدود أو الأطر التي نضعها في خانة التطبيع؟ وما هي المفاهيم التي تخضع لهذا العنوان؟
من الواضح أن مفهوم التطبيع يكاد يكون محصوراً في خانة الصراع العربي الإسرائيلي، أي إنّ معركة تثبيت الكيان الوليد على أرض فلسطين لن يُكتَب لها النجاح إلا بتطبيق مفهوم أو لفظة “التطبيع”، أي قبول المحيط وصاحب الأرض بالأمر الواقع، وهي معركة فيها كلّ الأسلحة من التقليدية العسكرية، إلى الاقتصادية، وصولاً إلى الثقافية والاجتماعية والنفسية والدينية، وما إلى هنالك.
وبذلك يكون مفهوم التطبيع تثبيت الواقع بغضّ النظر عن مسألة الحقّ والأحقية والقانون والشرائع، متخذاً عدة أشكال ومناحٍ في كيفية تطبيقه، وقد استخدمت إسرائيل وأميركا شتّى أنواع الطرق في سبيل الغاية المنشودة، وهي تثبيت الكيان بالدرجة الأولى، بالإحساس أو باللا وعي، ثمّ على أرض الواقع.
ويقول عن الأهداف من التطبيع: إن طبيعة التسوية التي تفرضها إسرائيل على العرب يتجاوز إقامة علاقات بين الجانبين، أو حتى إقامة نوع من التعاون بين دول المنطقة، إنه إلغاء جذري وشامل ومنهجي ومخطط للأمة العربية وتاريخها وثقافتها وقيمها الأخلاقية والدينية، وشخصيتها القومية، وتحويلها إلى كم من الأفراد في آلية اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة، إلى كمٍّ من البشر، لا أُمة تمتلك موروثها الثقافي، وتطمح لتنمية مجتمعاتها، والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية، بمعنى آخر، فإن التطبيع الثقافي في المفهوم الإسرائيلي هو تكريس الحاضر، والانطلاق منه، وتجاهل الماضي والتاريخ والتراث والحضارة.
لاسيما وأن البعض يعرف “التطبيع الثقافي” بأنه قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل، حيث أن الهدف النهائي لهذا التطبيع يتركز في محاور رئيسة هامة، أبرزها:
الوصول إلى عقل المواطن العربي ووجدانه،
ضرب المناعة النفسية لديه،
دفعه للقبول بالآخر “الإسرائيلي” ضمن شروطه التي يفرضها في عصر قوته،
الترويج لفكرة المشاركة مع الآخر “الإسرائيلي” في كل المجالات والقطاعات.
وسينعكس هذا التطبيع حتما في المناهج المدرسية الرسمية، التي ستكون ملزمة بإجراء التحويرات فيها، بما لا يتناقض مع الاتفاقات المعقودة.
ومن الأدباء العرب والشعراء الذين واجهوا التطبيع وإقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني الشاعر العربي الكبير الراحل/نزار قباني رحمه الله، وذلك من خلال ابداعه الشعري وكتاباته، وكانت قصيدته (المهرولون) هي بيان الرفض العربي لهذا الكيان ولكل محاولة صلح معه..وفي ما يلي نص القصيدة :

(المهرولون):
1
سقطت آخر جدران الحياء.
وفرحنا.. و رقصنا..
وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء
لم يعد يرعبنا شيء..
ولا يخجلنا شيء..
فقد يبست فينا عروق الكبرياء…
2
سقطت.. للمرة الخمسين عذريتنا..
دون أن نهتز.. أو نصرخ..
أو يرعبنا مرأى الدماء..
ودخلنا في زمان الهرولة..
ووقفنا بالطوابير, كأغنامٍ أمام المقصلة.
وركضنا.. و لهثنا..
و تسابقنا لتقبيل حذاء القتلة..
3
جوَّعوا أطفالنا خمسين عاماً.
ورموا في آخر الصوم إلينا..
بصلة…
4
سقطت غرناطةٌ
للمرة الخمسين من أيدي العرب.
سقط التاريخ من أيدي العرب.
سقطت أعمدة الروح, و أفخاذ القبيلة.
سقطت كل مواويل البطولة.
سقطت كل مواويل البطولة.
سقطت إشبيلية.
سقطت أنطاكيه..
سقطت حطين من غير قتالً..
سقطت عمورية..
سقطت مريم في أيدي الميليشيات
فما من رجلٍ ينقذ الرمز السماوي
ولا ثم رجولة…
5
سقطت آخر محظياتنا
في يد الروم, فعن ماذا ندافع؟
لم يعد في قصرنا جاريةٌ واحدةٌ
تصنع القهوة والجنس..
فعن ماذا ندافع؟؟
6
لم يعد في يدنا
أندلسٌ واحدةٌ نملكها..
سرقوا الأبواب
والحيطان و الزوجات, والأولاد,
والزيتون, و الزيت
وأحجار الشوارع.
سرقوا عيسى بن مريم
وهو ما زال رضيعاً..
سرقوا ذاكرة الليمون..
والمشمش.. والنعناع منا..
وقناديل الجوامع…
7
تركوا علبة سردينٍ بأيدينا
تسمى (غزةً)..
عظمةً يابسةً تدعى (أريحا)..
فندقاً يدعى فلسطين..
بلا سقفٍ لا أعمدةٍ..
تركونا جسداً دون عظامٍ
ويداً دون أصابع…
8
لم يعد ثمة أطلال لكي نبكي عليها.
كيف تبكي أمةٌ
أخذوا منها المدامع؟؟
9
بعد هذا الغزل السري في أوسلو
خرجنا عاقرين..
وهبونا وطناً أصغر من حبة قمحٍ..
وطناً نبلعه من غير ماءٍ
كحبوب الأسبرين!!..
10
بعد خمسين سنة..
نجلس الآن, على الأرض الخراب..
ما لنا مأوى
كآلاف الكلاب!!.
11
بعد خمسين سنة
ما وجدنا وطناً نسكنه إلا السراب..
ليس صلحاً,
ذلك الصلح الذي أدخل كالخنجر فينا..
إنه فعل اغتصاب!!..
12
ما تفيد الهرولة؟
ما تفيد الهرولة؟
عندما يبقى ضمير الشعب حياً
كفتيل القنبلة..
لن تساوي كل توقيعات أوسلو..
خردلة!!..
13
كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ..
وهلالٍ أبيضٍ..
وببحرٍ أزرقٍ.. وقلوع مرسلة..
ووجدنا فجأة أنفسنا.. في مزبلة!!.
14
من ترى يسألهم عن سلام الجبناء؟
لا سلام الأقوياء القادرين.
من ترى يسألهم
عن سلام البيع بالتقسيط..
والتأجير بالتقسيط..
والصفقات..
والتجار والمستثمرين؟.
من ترى يسألهم
عن سلام الميتين؟
أسكتوا الشارع
واغتالوا جميع الأسئلة..
وجميع السائلين…
15
… وتزوجنا بلا حبٍ..
من الأنثى التي ذات يومٍ أكلت أولادنا..
مضغت أكبادنا..
وأخذناها إلى شهر العسل..
وسكرنا.. و رقصنا..
واستعدنا كل ما نحفظ من شعر الغزل..
ثم أنجبنا, لسوء الحظ, أولاداً معاقين
لهم شكل الضفادع..
وتشردنا على أرصفة الحزن,
فلا ثمة بلدٍ نحضنه..
أو من ولد!!
16
لم يكن في العرس رقصٌ عربي.ٌ
أو طعامٌ عربي.ٌ
أو غناءٌ عربي.ٌ
أو حياء عربي.ٌ ٌ
فلقد غاب عن الزفة أولاد البلد..
17
كان نصف المهر بالدولار..
كان الخاتم الماسي بالدولار..
كانت أجرة المأذون بالدولار..
والكعكة كانت هبةً من أمريكا..
وغطاء العرس, و الأزهار, و الشمع,
وموسيقى المارينز..
كلها قد صنعت في أمريكا!!.
18
و انتهى العرس..
ولم تحضر فلسطين الفرح.
بل رأت صورتها مبثوثةً عبر كل الأقنية..
ورأت دمعتها تعبر أمواج المحيط..
نحو شيكاغو.. وجيرسي.. وميامي..
وهي مثل الطائر المذبوح تصرخ:
ليس هذا الثوب ثوبي..
ليس هذا العار عاري..
أبداً.. يا أمريكا..
أبداً.. يا أمريكا..
أبداً.. يا أمريكا..
* إعداد /حامد فؤاد

قد يعجبك ايضا