للطفولة عالمها الرحب المحفور في الذاكرة ولكل مبدع طفولته التي تطل من خلال أعماله وإبداعاته والتي تُصِّر على الظهور وجذب المبدع إلى تخومها وكذلك للقلق ،الإبداع والكتابة أثارها على المبدع وعلى حياته..
باختصار أردنا التعرف على المبدع وعالم الطفولة والتعرف على قلق الكتابة والإبداع، حيث حملنا أسئلتنا وطفنا بها على مجموعة من المبدعين.. وفيما يلي إجابة الشاعر الكبير / حسن عبدالله الشرفي:
لقاء/ محمد القعود
كمبدع كيف عشت طفولتك؟ وهل كانت هناك بوادر للاتجاه نحو الابداع “الكتابة”؟
– قلت في رسالتي نصف المفتوحة إلى الزميل محمد القعود المنشورة في هذا المحلق في أحد أعداده السابقة: إنني تأخرت عن الرد على هذا السؤال وبقية الأسئلة التالية، لأنني أردت الإجابة عليها بشيء من التفصيل، ولا بد لي هنا من ذلك، لأن مخزوني من ذكريات طفولتي هي نفس طفولة السواد الأعظم من أطفال ما قبل خمسين عاما، أولئك الأطفال الذين كانت أسرهم تعيش ماديا دون مستوى الكفاف، وما زلت أتذكر تلك الليلة التي لم يجد فيها أبي وأمي وأنا وأختاي ما نأكل فعضضت أمي وأنا أبكي من الجوع حتى أدميت ساعدها، كنت أكبر الأولاد في هذه الأسرة الصغيرة بعد موت أخي البكر قبل مجيئي إلى الدنيا بعام وأحد، وهذه الليلة لم تكن إلا واحدة من عشرات الليالي أمثالها في حياتنا عند زيارتي لأبي وأمي والأرحام في عيد الأضحى من هذا العام 1988م تذكر أبي وأمي أيام زمان ووقفنا ضاحكين عند ليلة هذا “العضة” وفي مطلع الخمسينيات تعين أبي معلما “بناحية عبس” من محافظة “حجة” وباشر عمله وحجين عاد إلى الشاهل “منطقتنا” لاصطحابنا معه رفضت أمي بعناد لماذا؟ لأنها كانت تعتقد أن عبس قريب نت بحر الظلمات وهي تخاف علينا أبناءها الثلاثة من هذا الانتقال المحفوف بالمخاطر، وأصر أبي على موقفه وحاولت إقناعها أن منطقة عبس لا تبعد من الشاهل إلا مسافة يوم مشيا على الأقدام وكاد هذا الخلاف يؤدي إلى الانفصال بين الأبوين تدخلت جدتي أم أبي وأقنعته على الذهاب إلى حجة المحافظة ويطلب نقله من عبس وتحقق له ذلك ولكن هذه المرة إلى ناحية المفتاح تبعد هذه الناحية عن الشاهل ذات البعد من عبس لكنها ترى بالعين المجردة من بيتنا في الشاهل ضمن سلسلة جبال الشرقين مع شروق الشمس ذات يوم رحلت الأسرة الصغيرة أبوان يحملان فوقهما كل ما يملكان من عفش مطويا داخل هدمتين وحزبه وكانا يتناوبان مع ذلك حمل أختي الصغيرة بنت العام والنصف وأنا وأختي الثانية تمشي، تماماً كما يفعل البدو الرحل وصلنا مع المغرب بعد رحلة جوع وتعب في اليوم الثالث أحد أيام عام 1951م باشر أبي التعليم في “المكتب” وكنت قد درست في مكتب الشاهل على يد أبي وعند المرحوم الفاضل محمد بن عبدالله إسماعيل من القرآن الكريم إلى سورة الأحقاف لقيت لي بمحل الإقامة الجديد زميلا في نفس السورة، واصلت حتى عام 1954م ثم انتقلت بعد عام إلى المرعى مع قطيع صغير من الغنم كان يوفر لنا الحليب والسمن حيث بدأت عصافير الحب والشعر تنقر شرفات قلبي في المرعى، كان لي أتراب من الرعيات والرعيان تعلمنا عشرات النصوص “الحروري” وحكايات الجدات يومها بدأت أشعر أن بداخلي شيئا للمحاكاة في أغاني المراعي وبالات “الصراب في علان” وهذا ما أشرت إليه في “مدخل غير مطلوب” من مجموعتي الشعرية “ألوان من زهور الحب والبن” في آخر عام 1957م.. دخلت المدرسة العلمية في المحابشة وفيها وجدت ضالتي، درست ما تيسر من النحو والصرف وعلوم البلاغة للأستاذين علي الجارم ومصطفى أمين وكان الأستاذ الطيب أحمد هاشم عبدالله الشهاري مدرس هذه المواد شاعرا ركان يدرسنا “المحفوظات” أي النصوص من الشعر ومن نهج البلاغة لم أكن مهتما كثيرا بالعلوم الأخرى في المدرسة وشاركني هذا الاتجاه رفيق العمر الرائع علي عبدالرحمن جحاف في الشعر والزميل زيد بن علي جحاف “عضو المحكمة حالياً” الذي اتجه إلى كتابة القصة ومعه العقيد حاليا زيد حسن الشعلي تأثرت أنا والزميل الشاعر علي عبدالرحمن ججاف بالشريف الرضي والمتنبي والمعري وشوقي وعلي الجارم وتأثر هذان الزميلان بالمنفلوطي والرافعي لكنهما لم يستمرا.
قلت: لا بد لي من الاسترسال ولو مع ذاتي.. كان مدير المدرسة العلمية بالمحابشة يوم ذاك القاضي الفاضل المرحوم محسن قاسم حميد وحين انتقل عائدا إلى المدرسة العلمية “بحجة” لحقت به أنا والأخ الزميل زيد الشعلي بقيت فيها أدرس في “حورة وفي الدخَّاري” أقل من شهر بعد مراجعة المذكرة وليس لمدة شهرين كما جاء في الملحق انتقلت بعدها من بداية عام 1961م إلى صنعاء لألتحق بدار العلوم فلم أوفق طلبت الالتحاق بالمدرسة المتوسطة الثانوية وكان فيها من أقاربي الأستاذ يحيى بن علي الشرفي مدير عام شركة النفط حاليا والعقيد عبدالملك حسن الشرفي والأستاذ المرحوم صالح أبو عيد والأستاذ علي الشرفي من شرفة بني حشيش والدكتور حاليا يحيى حسن الشهاري ولا ننسى هنا معهم الإنسان المهذب العقيد حاليا عباس عبدالرحمن المتوكل الذي تعين أول قائد عسكري لناحية الشاهل بعد قيام الثورة مباشرة.. هؤلاء كانوا يؤمنون لي ولأمثالي “اللقمة” في وجبة الظهر على “القروانة” في منزلتهم بجامع قبة النزيلي في هذا الجو من المعاناة بدأت كتابة البواكير الأولى شعرا “كانت قهوة على ضيف الله” مقابل باب المدرسة المتوسطة وفي وقت الراحة يخرج الميسورون من الطلاب لشرب الشاي فيها وأجلس أنا وأمثالي تحت شجرة الفلفل.. لم يكن حينذاك قد تم قبولي في تلك المدرسة فلجأت إلى دار المعلمين بجوار قصر السلاح ودار الأيتام وتم قبولي، حيث بدأت أتعلم من بعض الزملاء المحامي حاليا أحمد الوادعي وعلي حسن الوريث واحمد الماروري وناصر السنباني وإسماعيل الشامي وعبدالله العمدي الكبير مبادئ الرياضيات واللغة الأنجليزية وأعلم بعضهم النحو والصرف في المستوى الذي وصلت إليه كان بعض هؤلاء على وشك التخرج وأذكر أنه عندما تعين الأستاذ عبدالله العمدي وآخرون معه معلمين شاركت في توديعهم بأول مقطوعة شعرية قرأتها في المناسبة ومطلعها:
نودعكم بالدمع حين نودعُ
وأكبادنا من حسرة تتقطعُ
صفق لها الزملاء وقالو إنني شاعر، ولا أخفي أن كل ما فيها كان كلمة أو شطرا مني وكلمة أو شطرا من هنا أو هناك لذلك لم أثبتها في أي عمل من أعمالي قبل مظاهرة أغسطس الشهيرة عام 1962م دخلت السجن مع الزميل المرحوم يحيى حسين الغيلي والزميل إسماعيل الشامي الذي لم أعد أعرف عنه شيئاً الآن ومعنا زميل رابع هو الزميل المرحوم العقيد أحمد هاشم الشهاري، وفي السجن تعرفنا على المرحوم النقيب فيصل عوفان والأستاذ صالح الدوشان الذي التقيت به لاحقا قبل عامين في مقر اتحاد الأدباء والكتَّاب بصنعاء.. كان حبسنا بسبب خلاف مع المرحوم “الحرازي” مدير دار المعلمين بحجة أننا نحرض على الشغب، يوم ذاك حاولت كتابة قصيدة تحت تأثير الوهم بأني ورفاقي أصبحنا من الأحرار ومن الثوار على غرار قصيدة الشهيد الزبيري بعد خروجه من سجن الأهنوم، وقد أضحكتني سذاجتها كثيرا وبعد حين مزقتها وكنت ضمن مظاهرة أغسطس 1962م حيث تم اطلاق الرصاص علينا جنب الإذاعة وأصيب الطالب يحيى العماد من دار العلوم في رجله وهرب أو تم تهريبه من المستشفى.. في الليلة الثانية قامت الثورة في 26 سبتمبر 1962م وتفرق الطلاب من دار المعلمين ومن التوسط ومن دار العلوم كل في طريق وسلكت طريق الشعر مختارا إلى اليوم رغم وعورة هذا الطريق المليئة بالعجائب.. هذا الاستطراد للفترة من عمري من عام 1950م إلى عام 1962م مهم للغاية في حياتي المعرفية والثقافية لأنه شكل الأساس لكل عمل إبداعي قدمته فيما طبعت من أعمال وفيما لم يطبع بعد.. إذن فالإجابة على السؤال الثاني الذي يقول: كمبدع هل استفدت من الماضي وذكريات طفولتك في أعمالك الإبداعية والأدبية، وكذلك الإجابة على السؤال الثالث القائل:
في أي أعمالك الإبداعية الأدبية جسدت عالم طفولتك؟
– الإجابة على السؤالين نقول: إنه مما سبق وقلته في هذا الاسترسال تجب العودة إلى الثلاثة المجلدات المطبوعة من أعمالي “الآن هي ثمانية” بين أعوام 1996م- وعام 2008م حيث تتوفر النصوص والقصائد الجديدة بالقراءة سواء فيما يتعلق بطفولتي أنا كشخص أو بطفولتي الطبيعة في المرعى من وجهة نظري أو بالكلمات مع مراعاة الفارق الزمني والفني بين قصيدة وأخرى، ومع مراعاة النضج في التجربة الإبداعية، ويبقى السؤال الرابع:
كيف تعيش قلق الكتابة والإبداع ولحظات توتره وهل انعكست آثار ذلك على حياتك وسلوكك وصحتك؟ ما هي آثاره؟
– أولا إنني أعيش قلق الكتابة كإنسان شاعر وفي القلق هذا كل الفائدة لأن أي عمل إبداعي وخاصة في الشعر والقصة والرواية وهذه الثلاثة أهم وأجمل الفنون الجميلة- أقول: إن أي عمل إبداعي بدون قلق “ومن العيار الثقيل” أعتبره غير ناضج بالقدر المطلوب عندي وعند القارئ، وهذا ما تعلمته من تجربتي الشعرية على مدى ثلاثة عقود ونصف، والقلق الذي أعنيه ليس لمجرد القلق بذاته كحالة ولكنه من أجل الإبداع نفسه ومن أجل الطرف الثاني في العملية وهو المتلقي، لكي تحصل على رضاه في التعبير عن مشاعره والتنفيس عن كربه ومشاركته همومة المعيشية والعاطفية، لأن كتابة الأدب في الأساس مشاركة إنسانية وثقافية ومعرفية مطلوبة من الجميع للجميع لذلك تكون أصعب حالات التوتر والقلق هي تلك التي تأتي بها ساعات المخاض للقصيدة الناجحة ،وهذه الحالات بكل وجعها فيها من السعادة واللذة ما لا يحد ولا يحصى، وقد انعكس ذلك التوتر وذلك القلق على حياتي وسلوكي وصحتى بشكل فيه من الآثار القاسية ما فيه، لكنني كنت وما زلت وسأظل رغم كل شيء كان في منتهى السعادة بما أنجزت وفي غاية الأمل والثقة والتفاؤل بما سوف أنجز مع اعترافي بمحدودية النجاح والكمال في ذلك.
شكرا للزميل في المحلق الثقافي على التواصل مع الإبداع والمبدعين من مختلف المستويات ولمدة تسعة أعوام حتى الآن.. تحياتي وتمنياتي.
من كتاب (على راحة الأسئلة).