ملخص ما نشر في الأسبوع الماضي
> ابلغ مركز شرطة عصيفرة في تعز عن تعرض امرأة محامية أثناء تواجدها بمحكمة شرق تعز لطعنة قاتلة من قبل شخص تم ضبطه والتحفظ عليه بمكتب أمن المحكمة بينما المرأة المجني عليها تم اسعافها إلى مستشفى الثورة بالمدينة.. فانتقلوا من المركز عقب ذلك إلى مبنى المحكمة واستلموا من هناك المتهم “المضبوط” مع أداة الجريمة “السكين” كما قاموا بجمع ما أمكن من المعلومات حول الواقعة ثم انتقلوا إلى المستشفى لمعاينة حالة المجني عليه وكانت لم تزل على قيد الحياة ولم تلفظ أنفاسها وتفارقها الروح بعد فأخذوا أقوالها التي أفادت فيها أن الذي قام بطعنها هو رجل يدعى هشام وكانت تعرفه من قبل وأنها لا تعرف لماذا فعل ذلك..¿! والطعنة التي بها كانت في البطن وعميقة وغائرة جداٍ وقد فارقت الحياة متأثرة بهذه الطعنة فيما بعد لتتحول الواقعة اثنائها إلى جريمة قتل وتبدأ إجراءات شرطة المركز للتتغير وتتفاعل حسب الحالة باعتبارها جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد.. وعلى هذا اهتموا وانطلقوا لجمع إفادات الأشخاص الشهود الذين تصادف تواجدهم في المكان وقت الواقعة وجمع التحريات والاستدلالات حول الجريمة وملابساتها وأسبابها وكل ما يتعلق بها واهتمامهم في الحين نفسه بفتح محضر الاستنطاق والاستدلالات مع المتهم “الجاني” الذي كان رجلاٍ كبير السن وبدا فرحا وصريحا جريئا وغير نادم على ارتكاب جريمته بل ومختلفا كلية عن المتهمين أمثاله في جرائم القتل أو معظمهم من الوهلة الأولى.. و.. وها هي بقية الوقائع ومع أحداث الحلقة الثانية والأخيرة.
أكثر ما حير ضباط التحقيق واستغربوا له هو ما لاحظوه على الرجل المتهم الجاني عند مباشرتهم لفتح أول محضر معه واستنطاقه.. فقد ظهر هادئاٍ منبسط المحيا وشبه ابتسامة تخرج من فمه كأنه ليس مبالياٍ بالموقف الذي يواجهة وخطورة جنايته التي فعلها وما يترتب عليها من مصير مجهول مخيف ينتظره… بل انطلق يعبر عما مر ويشعر به بداخله بنبرة مباشرة وجريئة وبما تعنيه الصراحة بقوله:
أصدقكم القول أنني في البداية كنت حزيناٍ عندما علمت أن المرأة “المجني عليها” أسعفت للمستشفى وأنها لم تزل على قيد الحياة ولم تمت وكدت انفطر من الغيظ والقهر بسبب ذلك ولكن بعد أن تبلغت بموتها وتأكدت أنها صارت جثة هامدة مودعة في ثلاجة المستشفى أحسست بالانتشاء وغمرتني الفرحة وذهب عني كل غيظ لأنها في نظري تستاهل القتل وكنت أتمنى لو أستطيع قتلها مائة مرة وليس مرة واحدة لأن ذلك يشفي غليلي ويريحني أكثر وأكثر ولن أشعر بالندم على قتلي لها.
فكان هذا وغيره ما جعل رجال التحقيق يقفون موقف المستغرب المتسائل والمتحير تجاه الرجل “المتهم” ويضعون في تفكيرهم حوله أكثر من افتراض وذلك أنه ربما وصل في اقتهاره من المجني عليها لدرجة لم يعد يستطع الصبر عليها وأنها لا شك فعلت به شيئاٍ جعله يتغير نحوها ويتحول بوجدانه وكيانه إلى كتلة من نيران الحقد والكراهية لها ثم يحصر كل أمنيته وتفكيره في أن يتخلص وينتقم منها كرد فعل على ما فعلته به.
وقد سألوا الرجل المتهم عن فحوى ذلك وسره والسبب الحقيقي لإقدامه على ارتكاب الجريمة وبصيغة الكيفية ومفردات القصة الخفية لما حدث بينه والمرأة “المجني عليها” ومعرفته وعلاقته بها من البداية.
فأجاب المتهم كمن يلخص الأحداث ويفتح الأبواب المغلقة لسرد كل ما هو مكبوت ويختزنه بداخله معترفاٍ وقائلاٍ.
لفترة خمسين عاماٍ أو تزيد قضيتها من عمري في الغربة وفي بلاد المهجر.. تركت أرض الوطن إلى إحدى البلدان العربية الشقيقة وأنا في مقتبل الصباح وانفتاح الشباب الصغير.. هاجرت بطموح الرؤية كأي فتى يتطلع لشق طريقه في الصخر من أجل بناء نفسه ومن أجل صنع مستقبله.. ولم يكن الطريق هذا “طريق الغربة” معبداٍ بالورود ولا بحدائق الزهور ولكنه كأي مسلك للاغتراب المجهول كان مليئاٍ بالأشواك والأسلاك الشائكة التي لا ترحم ومعايشتها تعني المكابدة ومواجهة كل أصناف المشقة والتعب والمعاناة وعذاب الافتراق والاحتراق وكذا الم الشوق والحنين إلى الأهل وتراب الوطن البعيد.
عملت في الأعمال الصغيرة والثقيلة واشتغلت في عديد من المهن التي أجورها كانت ضئيلة ومجحفة.
أيام وليالُ مرت كأنها قرون.. البعد عن الأهل والأحباب ومكابدة الأمرين في بلاد المهجر ليس بالسهل ولا بالهين.. ومع ذلك على مدى خمسين عاماٍ هي أحلى سنين الشباب والعمر ضاعت من حياتي في بلاد الغربة تحملت خلالها الكثير والكثير وواجهت فيها مختلف أنواع البؤس والشقاء والعناء وصرير الجوع والسهر والصبر على كل عسير.. ولم أتذمر يوماٍ.. كنت متحمساٍ ومصراٍ على صنع المستحيل.. على تحقيق كافة أحلامي.. كل همي كان أن أجمع أكبر قدر من المال وأعود إلى الوطن في نهاية المطاف وقد حققت وامتلكت ما حلمت به في تلك السنين الطويلة وهو أن أبني منزلاٍ وأسرة وأصنع مستقبلاٍ عن طريق الاستثمار في أي شيء لكي أستقر في الوطن وأعيش كأمير أنا والعائلة.. وهذا كان طموحي وحلمي.
وما تطلعت إليه خلال سنوات الغربة.. ولكن.. وآه من لكن..!¿
فلقد حدث في السنوات الأخيرة أن اختلفت أنا وأحد الأشخاص الذي خانني وقام وأخذ علي عمارة أو عقاراٍ يقدر ثمنه بالملايين مقابل شيكات غير مقبولة الدفع.. ووصل هذا الخلاف بيني وبينه إلى النيابة والمحاكم وقمت من أجل ذلك بعمل تفويض للمرأة المحامية لتكون وكيلتي وتتولى الترافع بإسمى في قضية النزاع بيني وغريمي بالنيابة والقضاء.. وكنت مؤمنا لها وواثقاٍ فيها بأنها ستكون وفية لي ومخلصة معي وعند حسن الظن كونها ممثلة لي في القضية حتى النهاية.. وقد أعطيتها الكثير والكثير من المبالغ المالية مقابل اتعابها ولم أقصر معها من البداية وبشكل متتابع بل وأغدقت عليها بما هو أكثر من ذلك.. غير أنه للأسف وبعد فترة ليست بالقليلة والقضية من محكمة إلى محكمة والغرامات “التكاليف” من مئات الآلاف إلى مئات الآلاف أفاجأ مؤخراٍ وبين ليلة وضحاها بأنها أي المحامية قد خانتني وطعنتني في الظهر وأنها ضيعت حقوقي وأموالي التي قمت بجمعها وكانت ثمرة غربتي طيلة خمسين عاماٍ في بلاد المهجر وتسببت قصداٍ وعمداٍ في نسف كل ما هو لي ومن حقي نسفاٍ وليس ذلك وحسب ولكنها قامت في الآونة الأخيرة بإلغاء تفويضي ووكالتي لها كمحامية تمثلني وتسجيل هذا الإلغاء والتصديق عليه في مكتب وزارة الخارجية بتعز ليكون شرعياٍ ورسمياٍ وذلك ما كان بمثابة الضربة القاضية التي وجهت لي منها والصدمة التي جعلتني أدور حولي نفسي وأفقد عقلي وأحس كأنها الطعنة التي قصمتني من العمق.. فلم أعد أدري ما أفعل بعد ذلك ولم أستطع التحمل وكدت أجن.. ثم قررت تحت نيران القهر التي اشتعلت بداخلي ووساوس الشيطان التي استولت علي وقذفت بي للشعور باليأس أن أنتقم منها (أي من المرأة المحامية) والانتقام منها هو بقتلها وإن كان ذلك لا يكفي لإشفاء غليلي ولا يحقق الجزاء الكامل على ما فعلته بي وعلى ما ارتكبته بحقي من غدر وخيانة من وجهة نظري.
ثم عدت من بلاد المهجر إلى الوطن بتعز ورحت أبحث عنها وأقتفي أثرها وأترصد لها حتى عثرت عليها في صباح يوم الواقعة ورأيتها وهي على سلم الدرج في مبنى المحكمة فسارعت اليها وكنت قد تجهزت باقتناء سكين من الصنف الحاد اشتريتها من السوق سلفا وأخذت أحملها بحوزتي أينما ذهبت لذات الغرض وباشرتها بطعنها بالسكين في بطنها بمجرد اقترابي منها وبلا كلام أو سلام قاصدا قتلها وكنت أريد استئناف الطعنة لها حتى أراها تموت بين يدي وأتأكد من تحقيق انتقامي بانتهائها ولكن فوجئت خلال ذلك بتقافز الناس وشرطة مبنى المحكمة والتفافهم علي وإمساكهم بي بحيث وجدت نفسي واقعا في قبضتهم وعاجزا عن فعل أي شيء وما فكرت فيه وكان همي في تلك الأثناء بعد القبض علي واسعاف المرأة المجني عليها هو ان أسمع وأتاكد بأنها لفظت أنفاسها وماتت نتيجة الطعنة غير انهم أبلغوني يومها أنها فاقت في المستشفى وظلت على قيد الحياة وكدت أنشق كمدا وحسرة عند سماعي ذلك وحزنت كثيرا ثم بعد إعلامي بخبر وفاتها شعرت بالارتياح وزال عني الحزن وهكذا كانت الواقعة..
في عدد الاحد القادم مع نشر وقائع جريمة حمام الدم.. وإلى اللقاء.