كنيسة الق◌ْلøöيس “كعبة أبرهة” معلم سياحي يندثر


تحقيق / هشام المحيا –
, السياحة والثقافة تتبادلان الاتهامات بالتقصير.. والترويج السياحي يروج بالسيديهات
, ما دونته كتب التاريخ عن القليس لم يعد موجوداٍ بعد أن تحول إلى مقلب قمامة
,رئيس قسم الآثار بجامعة صنعاء: ذهب الجميع إلى السياسة وأهملوا الآثار التي هي مصدر دخل قومي
,بداية الحل أن تبحث أمانة العاصمة عن مقلب قمامة لها بدلاٍ عن غرقة القليس
كالعادة “لا صوت يعلو فوق صوت الإهمال” النابع من عدم الشعور بالمسؤولية… وعلى هذا الإيقاع المتوارث لدى الجهات المعنية حتى اليوم تنسج المواقع الأثرية في اليمن أروع ألحانها الرثائية حزنا على اختفاء ملامحها الجميلة يوما تلو الأخرى … القليس “كعبة أبرهة” في صنعاء القديمة أحد هذه المواقع الأثرية التي تصارع من أجل البقاء إلاِ أن الجهات ذات العلاقة تحاول قصف عمره لا لشيء سوى أن هذه الكعبة -كما يقولون- بناها أبرهة الحبشي الكافر متناسين أن هذا الموقع يمثل حقبة من تاريخ اليمن وبإمكانه أن يمثل نقطة تحول في الاقتصاد اليمني في التاريخ المعاصر… في التحقيق التالي كشف لأسباب الإهمال العجيبة والممنهجة وما الذي يمكن أن نجنيه لو أن المسؤولين في وزارتي السياحة والثقافة ومكتبي السياحة والثقافة بأمانة العاصمة “بطلوا معاداة أبرهة”.
الآثار هي موروث أمة وتراث إنساني وخلاصة تجربة حياتية لدولة أو شعب ما عاش فترة من الزمن ثم اندثر وبقيت حضارته وثقافته عامرة كدليل على عظمة تاريخ هذا الموروث ولأن اليمن مهد الحضارات على مر التاريخ وموطنها الأول فإنها تعتبر قطعة أثرية من الكرة الأرضية فكل المحافظات تقريبا أقيمت على ترابها دول عظمى وبالتالي تركت هذه الدول الكثير من الآثار نظرا للحضارة والثقافة الغزيرتين اللتين تفردت بهما تلك المجتمعات ولسوء الحظ فإن هذا التاريخ وصل إلى أيادُ هي بالأصل بريئة من التاريخ براءة الذئب من دم يوسف فعاثت بالمعالم الأثرية فسادا وإرهابا فالآثار اليوم في وضع لا يسر صديقا ولا عدوا وتتعرض لإهمال ممنهج يضع الكثير من علامات التعجب والاستهجان أحد هذه المواقع الأثرية التي تعرضت للإهمال المتوارث “كنيسة القليس” أو كما يسميها البعض بـ”كعبة أبرهة” ويسميها سكان صنعاء بغرقة القليس هذه الكنيسة لا تقل أهمية –تاريخيا- عن الأهرام التي بناها الفراعنة في مصر أو تاج محل في الهند أو حتى سور الصين العظيم فكما أن “الأهرامات” بناها المتغطرس فرعون وبنا “تاج محل” السفاح شهريار فإن “القليس” بناها المتغطرس والسفاح ومتخلف زمانه أبرهة الحبشي فقط هناك فرق واحد بيننا وبين هؤلاء هو أن كل العالم يشكلون هيئات للحفاظ على تراثهم ونحن نشكل هيئات لمكافحة الآثار وإن لم تكن هذه الهيئات موجودة إلا أنها تمارس عملها بكل تفانُ وإخلاص.
موقع الكنيسة
تقع هذه الكنيسة في مدينة صنعاء القديمة على مقربة من باب اليمن في حارة القطيع قرب مسجد نصير وبنيت هذه الكنسية بأيادُ يمنية متقنة فنون العمارة وكان بناؤها بأمر ورعاية وإشراف أبرهة الحبشي “هتلر زمانه” في العام 525م وقد بنا أبرهة هذه الكنيسة لغرضين الأول إرضاء ملك الحبشة الذي غضب عليه لأنه قتل قائد الجيش السابق طمعا في خلافته والغرض الثاني أن يحج العرب إلى “القليس” بدلا من بيت الله الحرام وهذا أيضا لأسباب عدة أهمها الانتقام من العرب والثاني التحكم بمركز التجارة لأن مكة كانت هي عاصمة التجارة بجزيرة العرب آنذاك.
وحسب المصادر التاريخية فإن بناء كنيسة القليس يعتبر إضافة حضارية إلى رصيد فن العمارة اليمنية وقد اعتبر المؤرخون الكنيسة من أعظم الروائع التاريخية التي تفنن بها الإنسان.
وعلى كلُ فإن القليس امتازت بتصميم هندسي فريد فهي تمتلك فناء واسعا ومحاطا بفضاء فسيح للتنزه وأنشئ مدخل الكنيسة من الجانب الغربي وطليت أبوابها بالذهب والفضة وكان عقد الكنيسة من الداخل يرتكز على أعمدة من الخشب الثمين المزين بالرسوم وبمسامير من الذهب والفضة وكانت الكنيسة بشكل قبة بقطر حوالي 20متراٍ وفي مركز القبة لوحة من الرخام البراق تسمح بمرور الضوء وكان البلاط المستخدم من المرمر الملون وأمام الهياكل والمذابح المقدسة أبواب مموهة بالذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة وفي وسط كل لوحة يوجد صليب من الذهب… إلى آخر هذه الأوصاف وقد عمْرت حوالي200 سنة من تاريخ بنائها ثم هْدمت في العام 775م وأخذ السكان المجاورين لها أغلب محتوياتها الثمينة وبقيت آثارها غير الثمينة في مكانها فترة كبيرة من الزمن بعدها بدأ الناس بالبناء في مساحتها وأخذوا أحجارها وبقيت على هذا الحال وقيد الإهمال حتى عصرنا الحالي “عصر مكافحة الآثار” ففقدت كل ما تملك باستثناء القصص المروية عنها.
القليس الحزين
يا إلهي كم كنت مشتاقا لزيارة كنيسة القليس أو كعبة الرجل الذي”دوخ” العالم حينما قرر هدم بيت الله الحرام ليحج الناس إلى كعبته وبقيت أنظار العالم آنذاك ترقب اللحظة الحاسمة إلا أن الله سبحانه ما كان ليترك بيته الحرام فجعل من أبرهة وجيشه آية لأولي الأبصار لذلك قررت أن تكون الرحلة إلى القليس وكانت البداية من باب اليمن الباب الذي فقد أناقته بسبب “القمامة” التي أجبروه أن يتحلى بها كذلك وجود الدراجات النارية التي اتخذت من مقدمة الباب فرزة لها المهم تجاوزت الباب بعد أن ضرب رأسي الصداع بسبب الرائحة النتنة هناك ودخلت الحارات بحثا عن القليس دون وجود لأي لوحة إعلانية ولو بخط يد تخبرنا بمكان الكنيسة وبعد حالة من التيهان -وسط الحارات المكتظة بالمحلات والباعة دون وجود لأي تنظيم- هداني أحد السكان إلى مكانها وهناك وجدت لوحة وضعتها وزارة السياحة على استحياء تعلم الزائر أنه وصل وهنا رأيت الذي لم تره عيني في كتب التاريخ فلا فناء ولا فضاء ولا ذهب ولا أحجار كريمة أو حتى أحجار بخيلة كل ما في الأمر بركة للماء محاطة بالقمامة وبالداخل حيث للمخلفات أما الباب فكأنه باب اصطبل للحمير أما الساحة فلا تتجاوز خطوات قليلة من كل جانب وذلك لأن المساحة العامة ذهبت أدراج الأرباح وباعتقادي لو أن المولى عز وجل بعث أبرهة هذه الأيام لخرج معلنا الحرب على الحكومة الرشيدة التي لا تفهم إلا بالسياسة ليردها إلى صوابها وتحافظ على تراثها.
القليس والقمامة
السيناريو المتوقع الذي لا يفارقنا طرفة عين هو أن القمامة بطلة كل المشاهد السياحية في اليمن فأينما ذهبت فستجدها فاردة أحضانها لاستقبالك لكنها هذه المرة ليس في أي مكان إنها في المكان الذي تعودت عليه في كنيسة القليس ومحيطها لذا لم نجد أي تفسير يشرح لنا غياب صندوق النظافة عن هذا المكان سوى أن استمرار رمي القمامة في الكنيسة منذ فترة جعل القمامة جزءاٍ لا يتجزأ من التراث والآثار في آن واحد فوجب الحفاظ عليها كموروث.
إعلان براءة
وما أكثر مسؤولي التراث حين تعدهم ولكنهم عند النائبات قليل وإليك -عزيزي القارئ الكريم- قائمة مسئولي التراث والبداية بوزارة السياحة ثم وزارة الثقافة مكتب السياحة أمانة العاصمة مكتب الثقافة مكتب الترويج السياحي الهيئة العامة للحفاظ على التراث حيث تعد كنيسة القليس بالنسبة لكل هذه المكاتب مجرد أسطورة انتهى أمرها وأصبحت المسئولية ملقاة على عاتق كتب التاريخ وإليك -سيدي القارئ- خلاصة المقابلات التي أجريت مع بعض المكاتب المذكورة آنفا.
البداية كانت مع الأخت نجاة باحكيم مدير مكتب الثقافة بأمانة العاصمة والتي يقع على عاتقها جزء من المسئولية وذلك من عدة حيثيات أبرزها توعية المجتمع والدولة –أيضا- بخطورة إهمال المواقع الأثرية والتي منها القليس وعلى كلُ استمرت هذه المقابلة عشر ثوان فقط وذلك لأن المديرة أبلغتنا عبر أحد الموظفين في مكتبها أن الموضوع ليس من اختصاص مكتب الثقافة بل هو من اختصاص مكتب السياحة.
المقابلة الثانية كانت مع مدير مكتب السياحة بأمانة العاصمة أمين كباس والذي أوضح أن مكتب السياحة لا علاقة له بالقليس وما تتعرض له من إهمال فعمل هذا المكتب إيرادي وإداري لينهي الكباس بهذه اللكمات -أقصد الكلمات- المقابلة التي لم تلبث سوى الدقيقة والنصف قاطعا الطريق أمام سيل الأسئلة التي كانت معدة لمكتب السياحة.
المقابلة الثالثة كانت مع الأخت فاطمة علي الحريبي المدير التنفيذي لمجلس الترويج السياحي وقد تحدثت الحريبي عن الترويج السياحي في اليمن وكأننا في ألمانيا أو فرنسا حيث وسائل الترويج الحديثة جدا كالبرشورات والسيديهات مع تجاهل تام للتلفزيون والإذاعة أو الصحف أو الملصقات وأوضحت الحريبي أن الوسائل التي يستخدمها المكتب وجدت الصدى لدى الكثير من الزوار وعن القليس تقول “نحن نروج في المحافل الدولية عن الأثار بشكل عام ومنها صنعاء القديمة ونذكر أنه يوجد فيها كنيسة القليس”.
أما الهيئة العامة للحفاظ على التراث -والمغلوبة على أمرها- فقد أوضحت من خلال تصريحات سابقة في مقابلات سبق وأن نشرتها على صحيفة الثورة أوضحت أنها تعاني من أزمة مالية خانقة إضافة إلى هنجمة المتنفذين فوق رأس الهيئة حتى تصمت إذا ما ارتكبوا المخالفات لذا لن نستغرب إذا ما جئنا في الأيام القادمة وقد تحولت كنيسة القليس إلى منزل لشخص ما.
ما أثار في نفسي الاشمئزاز وخيبة الأمل سؤال أحد الموظفين في مكتب السياحة عن سبب اهتمامي بالقليس فالذي بناها رجل كافر “يقصد أبرهة” وهذا السؤال تلخيص لموقف المسئولين عن الآثار والسياحة -وأيضا- هو إجابة لهذا التحقيق الذي يبحث عن سبب إهمال القليس بمعنى أن العاملين لا يعرفون قيمة عملهم وهذا بداية الضياع.
هجمة شرسة
الدكتور فهمي علي الأغبري رئيس قسم الآثار جامعة صنعاء يرى أن القليس ومثلها بقية المواقع الأثرية في اليمن تتعرض لإهمال كبير من الدولة والمواطنين فالمواطن يريد إشباع حاجاته ولو كانت حاجته هذه على حساب الآثار -حد وصفه- وقد فند الدكتور مشكلة الإهمال للآثار التي تمارسها الجهات المسؤولة وحللها من عدة جوانب فيرى أن جوهر المشكلة تسخير الحكومة طاقاتها للسياسة وتركت القطاع السياحي والمعتمد أصلاٍ على المواقع الأثرية ولو أنها اهتمت بالمواقع الأثرية والتي منها كنيسة القليس لتمكنت من توفير ملايين الدولارات إن لم تكن المليارات وذلك من خلال عملية الجذب السياحي -حد تعبيره- وأضاف: “الدور الذي تضطلع به وزارتا الثقافة والسياحة مغيب تماما فكل عملهما مقتصر على تلقي البلاغات وتدوينها وعن الحلول يقول: “لحل المشكلة يجب أن تتوفر عدة عوامل أهمها أن يقوم الإعلام بدوره للتوعية بأهمية الآثار حتى لا يعتدى عليها –أيضا- على وزارة التربية أن تقوم بعمل توعية في المدارس وعلى وزارتي الثقافة والسياحة أن تعي الدور الذي تضطلع به إزاء حماية المواقع الأثرية من السطو أو الإهمال.
ختاما
أهرام فرعون في مصر تجني منها جمهورية مصر العربية ملايين الدولارات ومثلها كل المواقع الأثرية في العالم فلماذا لا تكون كنيسة القليس مصدر دخل كبير لميزانيتنا المتهالكة وباعتقادي أن هذا لن يكون حتى تقوم الحكومة بإجراءات عدة أهمها إعادة ترميم الكنيسة بالشكل الذي يليق بها بدلا من “الغرقة” الموجودة اليوم والتي تشبه خزان الماء الأرضي ومن ثم تقديم الدعم المالي اللازم لمكتب الترويج السياحي لعمل الترويج في وسائل أكثر تطورا كالتلفاز –مثلا- بدلا من البروشورات التي لا تغني ولا تسمن من جوع. أيضا على وزارتي السياحة والثقافة اللتين تغردان خارج السرب أن تعيدا النظر في القليس وعلى مكتب أمانة العاصمة أن يجد لنفسه مقلبا للقمامة بدلا من الكنيسة ومحيطها.

قد يعجبك ايضا