الوطن أولا◌ٍ وثانيا◌ٍ وأبدا◌ٍ.. 

المتأمل في بعض المواقف سيجد مع الأسف الشديد أن هناك من أسقط بقصد أو بدون قصد من حساباته وأولويات اهتمامه الواجبات التي تفرضها قيم المواطنة نحو الوطن الذي ينتمون إليه ويحملون هويته ويعيشون في كنف خيراته وعطاءاته لتختلط لديهم الأمور. إلى درجة أنهم نسوا أو تناسوا أن حب الوطن من الإيمان وأن إيمان المرء لا يكتمل إلا بصدق إخلاصه لوطنه والإيثار من أجله والحفاظ على منعته وعزته وكرامته وسلامته ووحدته.
والمؤلم أكثر أن يظهر علينا من يتغنى باسم الوطنية فيما هو لا يعمل بأي من مدلولاتها ومعانيها النبيلة بل أنه يستخدم هذا اللفظ لمجرد ذر الرماد على العيون والتغطية على سلوكياته الخاطئة وانتهازيته المقيتة وأنانيته المفرطة رغم إدراكه أن الوطنية ليست شعاراٍ نرفعه في المناسبات ولا مصطلحاٍ تلوكه الألسن في الخطب والتصريحات وإنما هي مبدأ نبيل تتجلى تعبيراته في البذل السخي من أجل الوطن والمثابرة للنهوض به وتغليب مصالحه على ما دونها من المصالح. والارتقاء به بين الدول والسهر على أمنه واستقراره وبذل كل جهد لإعلاء شأنه وسمعته.
واللافت في الأمر أن يتنامى مثل هذا السلوك ويتعمق في وجدان البعض تحت تأثيرات الحزبية والعمل السياسي والمصالح الذاتية الضيقة على حساب الإيمان الراسخ بقيمة ومفهوم المواطنة والولاء للوطن. الذي ينبغي أن يتقدم على كل الولاءات الأخرى.
إذ أن مجرد التغاضي عن مثل هذا الجنوح سيترتب عليه الكثير من الأخطاء الجسيمة التي سيكون ثمنها باهظاٍ على الأجيال الجديدة التي يتعين تحصينها بثقافة وطنية خالصة تحميها من الوقوع في منزلقات العصبيات المقيتة والأفكار الدخيلة والاستلاب الفكري والذهني وبذور الفتن الماحقة.
وفي هذا الخصوص يصبح من الضروري والواجب أن ندعو الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى إعادة النظر في خطابها الذي يغلب عليه في كثير من الأحيان الكيد السياسي وعدم التمييز بين خلافها مع الحزب الحاكم وخلافها مع الوطن وبين ما يخص المجتمع بشكل جمعي وما يسعى إليه حزب أو أحزاب على نحو خاص.
ولابد أن يكون واضحاٍ لدينا جميعاٍ أنه إذا ما تصادمت أية مصلحة حزبية أو ذاتية أو فردية مع مصلحة الوطن فإن الأولوية هي لمصلحة الوطن وليست لغيرها. فالحقيقة أن ما نعانيه اليوم من مشكلات وأزمات ليس سوى نتاج طبيعي للتشابك الحاصل بين المصالح العامة والخاصة الأمر الذي أدى بانعكاساته إلى إضعاف مكونات الولاء الوطني وهو ما نلمس بعض تجلياته في عواصف الانفعالات الحزبية التي دفعت بالبعض إلى تجاهل ما يجري في خواصرهم جراء بروز بعض النتوءات المغلفِة بالمشاريع الصغيرة والتي تجد من يشجعها نكاية بالآخر دون وعي بالمثالب الفادحة التي قد تنجم عن هذا التماهي غير المسؤول على الوطن وأبنائه.
ومما سبق فليس من الواقعية والمصلحة أيضاٍ أن تظل الأحزاب والتنظيمات السياسية متمترسة وراء ذلك الخطاب الذي لا يلقي بالاٍ للوطن ومصالحه العليا خاصة وأن هذه الأحزاب مطالبة قبل غيرها بالوفاء بمسؤولياتها تجاه وطنها والقيام بواجباتها في حماية أمنه واستقراره وسلمه الأهلي ووحدته الوطنية والتصدي لكل الممارسات المنحرفة التي تحاول النيل من ثوابته ومكاسبه وإنجازات ثورته خدمة لأجندات خارجية لا يجهلها أحد.
وبصراحة متناهية فإن هذه الأحزاب يجب أن تغير من أسلوبها وخطابها وتغير من أدائها وأن تصبح لها رؤيتها الواضحة التي تبرهن من خلالها أنها مع هذا الوطن وليست عائقاٍ أو معرقلاٍ له.
وبالقدر الذي نحتاج فيه اليوم إلى تكاتف جهود وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام والأوقاف والإرشاد والشباب والرياضة من أجل إيجاد استراتيجية متكاملة لغرس الثقافة الوطنية في عقول شبابنا فإننا في ذات الوقت ننتظر من المصفوفة الحزبية والسياسية الابتعاد عن ذلك الخطاب التسطيحي والعنتريات المسيئة للوطن والفهم الواعي بأن الوطن ليس دكاناٍ سياسياٍ اسمه “الحزب” وليس بقرة نحلبها ولا ورقة بنكنوت ترتبط بها مواقفنا ولا مركزاٍ وظيفياٍ يقربنا من بعض مصالحنا ولا شماعة نعلق عليها إخفاقاتنا ولا خشبة مسرح ندعي فيها أننا نأخذ جانبه ونحن نمثل عليه.
فالوطن أكبر من كل ذلك فهو الحديقة التي تحتضن الكل وطن لجميع أبنائه ولكل مواطنيه نستمد منه العزة والكرامة والافتخار .. فلا طهر إلا بطهارة وصدق الانتماء ولا ظفر إلا بظفر الوطن ولا وطنية إلا بوطنية التضحية من أجل الوطن ولا خير إلا بخير الوطن فهو الأزلي الذي خلقنا الله لخدمته وعلو منزلته وهو الجدير بالولاء له أولاٍ وثانياٍ وأبداٍ.
وإذا ما اختلفنا فليكن من أجله ومن أجل مصلحته لا من أجل منافع زائلة أو مكاسب رخيصة أو أهواء ذاتية ضيقة.
وفي هذه الحالة فقط يصبح الاختلاف مفيداٍ لكونه يقوم على قاعدة الضد يظهر حسنة الضد الآخر انتصاراٍ للوطن وليس غيره.

قد يعجبك ايضا