لا شيء أفضل من الديمقراطية إذا ما اقترنت بالممارسة الناضجة والواعية والفهم السليم للمبادئ والأسس التي تقوم عليها هذه الديمقراطية.
ولا خيار أفضل من خيار التعددية السياسية إذا ما تلازمت هذه التعددية مع ثقافة الديمقراطية وأخلاقيات الاختلاف واحترام إرادة الشعب في صناديق الاقتراع وكان التنافس – أي تنافس كان – من أجل تقديم الأفضل للوطن وأبنائه وجسد الجميع التزامهم بالقاعدة الذهبية للديمقراطية القائمة على أن “الأغلبية تحكم والأقلية تعارض” ليمارس كل دوره وفق تلك الآلية التي أفضت إليها إرادة الجماهير.
ولا شيء يمكن أن يتفوق على العمل السياسي والحزبي إذا ما جعلت الأحزاب من نفسها مدارس للتربية الوطنية وترسيخ الحس الوطني الرفيع في وجدان أعضائها وداخل صفوف أبناء المجتمع وعملت هذه الأحزاب على ممارسة الديمقراطية في داخلها قبل أن تنتقل إلى ممارستها بصورة جماعية مع الآخرين.
وبكل تأكيد فإن أي جنوح عن هذه المحددات لا يسيء فقط للديمقراطية ومقاصدها النبيلة بل أنه يضعف مجريات تقدمها وتطورها ونضوج ممارستها خاصة إذا ما ظهر مثل هذا الجنوح في أروقة بعض التنظيمات السياسية والحزبية التي يفترض فيها أن تشكل القدوة والمثل في تعاطيها مع مسارات الديمقراطية باعتبار أن هذه المصفوفة هي المعنية بدرجة أساسية بتمثل القيم الحقيقية للعمل السياسي وأي جنوح في هذا الجانب يصبح خطأ فادحاٍ وجسيما بحق هذه الأحزاب وإساءة بالغة للديمقراطية التي تستمد منها مشروعية عملها على الساحة السياسية.
وليس من باب التجني على أحد إذا ما قلنا أن بعض التنظيمات السياسية والحزبية لم تتمكن بعد مضي حوالي عشرين عاماٍ على اعتماد نهج التعددية السياسية من عقلنة أدائها وترشيد خطابها والتعلم من تجاربها بل أن الأسوأ من ذلك أنها ما تزال تمارس العمل السياسي خارج نطاق المفهوم الاستراتيجي للديمقراطية الأمر الذي أدى إلى فشلها في تجاوز ثقافة الماضي وعجزها عن الدخول في فضاء اللعبة الديمقراطية لتضع نفسها في مأزق المراوحة بين الفكر الشمولي المشدودة إليه والتوظيف الخاطئ في التعامل مع الاستحقاق الديمقراطي ومتطلباته.
وتبرز أهم شواهد هذا الجنوح في اصرار هذه الأحزاب على اجترار مساوئ زمن انطوى واندثر لتصل بها هذه الحالة من التناقض حد القيام بالشيء ونقيضه فهي في الوقت الذي تنادي فيه بمزيد من الديمقراطية نجدها تحشد كل طاقاتها في سعي محموم وفاضح لعرقلة كل جهد يروم لتحقيق ذلك التطور وعلى نفس هذه الحالة من التناقض فهي تطالب بالحوار وفي ذات اللحظة تنقلب عليه بزرع الأشواك في طريقه والتمسك بالشروط التعجيزية فضلا عن الالتواءات التي يطغى عليها طابع المساومة والابتزاز والكيد السياسي.
والحال نفسه في مطالبة هذه الأحزاب الحكومة بالتطبيق الصارم للأنظمة والقوانين فيما لا تتردد في الدفاع عن الخارجين على النظام والقانون والتماهي معهم وتوفير الغطاء لممارساتهم الضارة بالوطن والمجتمع.
والشاهد الأخير على ذلك ما أعلنت عنه عناصر التخريب والإرهاب بصعدة أمس الأول إزاء ما يتصل بعلاقاتها القديمة بأحزاب اللقاء المشترك وتأكيدها على المضي في عقد تحالفات سياسية وثيقة مع هذه الأحزاب التي تعلم جيداٍ أن مجرد ظهور مثل هذا المؤشر يخضعها للمساءلة القانونية والدستورية لكونها سمحت لنفسها بإقامة علاقة غير مشروعة مع عناصر تمردت على الدستور والقانون ورفعت السلاح في وجه الدولة وأعلنت التمرد العسكري ومارست أعمال التخريب وقامت بقتل المئات من المواطنين الأبرياء.
ومثل هذا التصرف وحده كاف للتدليل على أن هذه الأحزاب لم تستوعب حتى الآن الأسس السليمة للعمل السياسي الذي يوجب عليها الانتصار للوطن وليس التحالف مع أعدائه كما أنها التي لم تستوعب أن اختلافها وتباينها مع الحزب الحاكم لا يعطيها الحق بالوقوف في خندق واحد مع الخارجين على النظام والقانون والدستور خاصة وأن بوسعها حسم أي خلاف أو تباين مع الآخر عن طريق الاحتكام لصناديق الاقتراع وليس بالانجرار إلى التحالف مع الشيطان.
وأمام هذه الشطحات والشطط الغريب والعجيب فإن الحقيقة التي سنظل نكررها اليوم وغداٍ وبعد غدُ هي أنه ليس من مصلحة هذه الأحزاب الاستمرار في الحرث بالبحر بعد أن أثبتت كل الوقائع أن مثل هذا الأسلوب لا جدوى منه ولن يعود عليها بأي شيء نافع لتصادم ذلك السلوك مع الوعي الجمعي للمجتمع اليمني الذي لم يعد يقبل بتحمل تبعات هذه المظاهر العدمية التي لا تدل إلا على المغامرة وضيق الأفق وعدم النضج السياسي.
إن على قيادات هذه الأحزاب أن تعي من أن الوطن أمامه استحقاقات كثيرة عليه إنجازها في ميادين التنمية والبناء والإصلاحات الاقتصادية والسياسية ولا مجال أمامه لإهدار المزيد من الوقت في المكايدات والمناكفات وإضاعة الجهد في الأخذ والرد مع الغارقين في أنانيتهم وطيشهم الذين لا يهمهم سوى مصالحهم حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح الوطن وتقدمه وتطوره.
وليعلم هؤلاء بأنهم لن يفلحوا في إعاقة التوجه الديمقراطي الذي سينتصر حتماٍ لكونه يمثل ضمير الوطن.
Prev Post
Next Post