بعناية؛ يختار ولي عهد آل سعود محمد بن سلمان ضحاياه، فهو يعلم جيِّدًا من يجب تصفيته وإخراجه من المشهد، ليكون شيخ الحقوقيين أبو بلال عبد الله الحامد آخر ضحاياه، وهو البالغ من العمر سبعون عامًا، غير أنّ سنين عمره تلك لم تشفع له أمام ابن سلمان، بل على العكس أخذ يتلذذ برؤيته وهو يُصارع الموت، وبعد أنّ دخل في غيبوبة تامة، ولم يعد ابن سلمان قادرًا على التلذذ بالنظر إلى مصارعته الموت؛ قرر نقله إلى المشفى ليموت هناك.
لا صاحب سمو ولا صاحب دنو
شكّلت كلمات وخطب وأفكار الدكتور عبد الله الحامد أوّل حالة احتجاج رسمي على وجود آل سعود على رأس السلطة في جزيرة العرب، وذلك من خلال دعوته إلى إقامة ملكيّة دستورية، الأمر الذي فسّره آل سعود على أنّه تحد مباشر لعرشهم ولحكم عائلتهم المُمتد منذ أكثر من تسعين عامًا، فكان من أشهر عباراته التي كان يُرددها دائمًا “لا صاحب سمو ولا صاحب دنو في الإسلام”، وكانت هذه العبارة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وجلبت عليه أهوال آل سعود، ليبدأ بعدها مشواره في السجون ولأكثر من ستة اعتقالات مُتتالية.
فمنذ بداية مشواره بالمطالبة بالحوق المسلوبة لشعب الجزيرة العربية عمل الحامد على إنشاء لجنة حقوق الإنسان للمطالبة بالحقوق المدنية؛ من أجل تحويل مملكة آل سعود من ملكية مطلقة إلى دولة دستورية تحمي مواطنيها وتضمن حقوقهم جميعًا بدون النظر إلى لون أو عرق أو نسب أو طبقة اجتماعية.
أكثر من ذلك؛ ففي عام 2009م قد تحدى الحظر المفروض على المجتمع المدني في مملكة الظلام، وقام مع مجموعة من الناشطين بالإعلان عن انطلاق الجمعية السعودية للحقوق المدنية والسياسية والتي تعرف باسم “حسم”، وبدأ بالحديث جهرًا عن “حجم الاستبداد” في جزيرة العرب، والمحاكمات السرية التي تجرى للمعتقلين في السجون، فضلا عن تلفيق وفبركة التهم للمعتقلين ليقضوا أطول فترة ممكنة في السجون.
كلُّ شيء في مملكة آل سعود مُباح إلّا المُطالبة بالحقوق المدنية والسياسية، الأمر الذي أوقع أبو بلال بمواجهةٍ مُباشرة مع مخابرات آل سعود، وتمتد المضايقات والاستفزازات منذ الإعلان عن تشكيل الجمعية في العام 2009 وحتى العام 2013م، حيث أمضى تلك السنوات مُدافعًا عن مشروعه السياسي في محاكم آل سعود، وفي هذا العام حكمت محاكم آل سعود بالسجن أحد عشر عامًا على الحامد، ولم يخرج إلّا جُثةً هامدة.
ماذا يُريد الحامد؟
الدكتور عبد الله الحامد الذي ذاق مرارة سجون آل سعود ستُّ مرات، لم يكن يحلم بأكثر من وطنٍ كالأوطان، وطنٌ يسوده العدل، كما كل الأوطان، لكن حتى هذه المطالب البديهيّة جرّت عليه ويلات وغضبات آل سعود منذ العام 1992م عندما كان أحد المؤسسين الستة لأول جمعيّة خاصة بحقوق الإنسان في مملكة آل سعود، حيث تمّ إيداعه السجن عدّة أشهر، كما تمّ طرده من عمله كأستاذ جامعي.
كُلُّ تلك الأثمان دفعها الحامد وهو يعلم أنّ حكومة آل سعود عازمة على قمعه وتجريمه واستهدافه بأكثر الطرق وحشية، خشية أن يكون خطابه مرغوبا للآخرين، فهم يعلمون أكثر من أيِّ أحد آخر أنّ ما يُنادي به الحامد من المُمكن أنّ يزلزل عرشهم، من خلال محاولاته الدؤوبة الجمع بين الجماعات الأيديولوجية المُتنافرة فيما بينها والرافض بعضها بعضًا، فالإسلاميون علاقتهم مشحونة دائمًا مع الليبراليين على سبيل المثال، كما رفض وبإصرار الفصل الطائفي بين السنة والشيعة الذي يعتمده آل سعود لفرض سيطرتهم على المجتمع، كما أنّه سعى ومنذ تسعينيات القرن المُنصرم إلى إنهاء معاناة سجناء الرأي وطالب بحق حرية التعبير، وهو الأمر الذي لم يُعجب آل سعود البتة.
وقبل إصلاحات ابن سلمان المزعومة فيما يخص حرية المرأة؛ عمل الحامد على تأكيد المساواة بين الجنسين، مُعتبرًا المرأة مواطناً ذوي أهلية كاملة، مُطالبًا بمجتمع عادل وحكومة شفافة وتمثيل سياسي يشمل كافة أطياف المُجتمع.
وفي النهاية؛ من المؤكد أنّ وفاة الحامد لم تكن طبيعية، إنّما جريمة اغتيال سياسيّة مُنظّمة ومُخططة من قبل سلطات آل سعود، وذلك من خلال الإهمال والإيذاء النفسي والجسدي، وقد برز هذا الأمر بعد أن وصل إلى حالة الغيبوبة ولم يتم نقله إلى المشفى، بل تركه يعاني آلامه في محبسه، وبعد أن تيقّن جلّادوه من أنّه لا أمل بشفائه قاموا بنقله إلى المشفى ليرفعوا العتب عن أنفسهم.