عبدالله علي صبري
حين جرى التوافق بين أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام على تشكيل المجلس السياسي الأعلى، واختيار الرئيس الشهيد صالح الصماد رئيسًا للمجلس، كانت اللحظة الضاغطة تحتم على الرئيس الصماد القبول بهذه المهمة الاستثنائية وتحمل تبعاتها الجسيمة، وكل ما يرشح عنها من تحديات كان يعرف سلفا أنها تنتظره بمجرد أن يضع خطوته الأولى دالفا القصر الجمهوري بصنعاء رئيسًا لبلد تعيش حالة حرب شاملة في مواجهة عدوان ضروس وغير مسبوق في تاريخ البلاد.
لقد شكلت خطوة الإعلان عن المجلس السياسي الأعلى وانتهاء مهام اللجنة الثورية العليا، عن إرادة وطنية خالصة استجابت لنداء الواجب في ضرورة توحيد كل الجهود السياسية في مواجهة صنوف الحرب والحصار والأزمة الاقتصادية، ومحاولات دول العدوان والمجتمع الدولي فرض تسوية سياسية مذلة تبدأ بإجراءات أمنية عسكرية ظاهرها وباطنها تجريد القوى الوطنية من أسلحة الصمود والتحدي، ولا تنتهي عند سلبها من مقومات العزة والكرامة التي تبلورت على نحو أسطوري بفضل الصمود الشعبي وانتصارات الجيش واللجان الشعبية في أكثر من جبهة.
وإذ راهنت دول العدوان على إمكانية خلخلة التلاحم الوطني وتماسك وفدي المؤتمر وأنصار الله إلى المشاورات السياسية، فقد جاءت خطوة المجلس السياسي الأعلى لتقلب الطاولة في وجه العدوان السعودي الأمريكي ومرتزقته، وتبشر بمرحلة وطنية أكثر قوة وصلابة، وأشد بأسا وتنكيلا بالقوى الغازية التي احتلت كثيرا من مناطق البلاد بزعم تحريرها من ” الانقلاب الحوثي”..
الاقتصاد وجع على وجع
الحرب كما يقال محرقة الاقتصاد، فكيف الحال حين تكون الضحية دولة ومجتمع فقيران لما يمكن تسميتها بمقومات الحياة والعيش الكريم، في مقابل تحالف يملك من الأموال ما لا يمكن مقارنته باقتصاد اليمن وهي في أوضاع مستقرة وآمنة، لكن بدل أن يستسلم هذا الشعب الأبي للأمر الواقع، قرر أن ينهض ويستنفر كل طاقات وموارد البلاد على شحتها في المواجهة الملحمية التي طال زمنها بخلاف كل التوقعات والسيناريوهات. وحين اعتقد العدو أن اليمن قد استنفدت كل امكاناتها الاقتصادية بعد مرور ما يزيد عن العام، فقد باشر خطة التأزيم من جديد في ضوء تهديدات أمريكية أفصح عنها السفير الأمريكي على النحو المعروف لمن تابع مشاورات السلام اليمنية في الكويت.
لم تمر أيام على هذا التهديد حتى كانت العملة الوطنية تشهد تراجعا مخيفا، وما هي إلا بضعة أشهر، وبالتزامن مع إعلان العدو نقل وظائف البنك المركزي إلى عدن، حتى أعلنت صنعاء عن عجزها عن الاستمرار بصرف مرتبات موظفي الدولة، ما ترك تأثيرا مباشرا على حياة نحو ثمانية ملايين مواطن يمني أو أكثر.
كان على الرئيس الصماد أن يقابل التحدي بالبحث الجاد عن حلول بديلة، وإذ لم تسعفه الأفكار المطروحة، فقد كان تصميمه على البحث عن حلول عملية تخفف عن المواطنين والأسر التي فقدت المرتبات الشهرية، العامل الرئيس في ابتكار البدائل التي أمكن من خلالها امتصاص الصدمة الأولى للأزمة الاقتصادية الأعنف، ومع أن الكثيرين قابلوا هذه الخطوات بنوع من السخط والسخرية، فلعلهم اليوم يتمنون بعضًا من تلك الحلول التي يفتقدونها وهم يواجهون الأزمة يوما بعد آخر، خاصة بعد أن تضخمت العملة الوطنية إلى الحد الأعلى الذي عصف بالمدخرات، ودفعت الآلاف من الأسر التي كانت متوسطة الدخل إلى حافة الفقر.
سياسيًا، كان على الرئيس الشهيد أيضًا أن يتصرف كرئيس توافقي، وأن يسلك مواقفًا قد لا تنطبق مع قناعاته الشخصية، ومن حسن الحظ أن شخصية الصماد المتسامحة والمعتدلة قد أهلته للعب الدور الوطني في رئاسة المجلس السياسي على أكمل وجه، الأمر الذي عزز ثقة الأطراف السياسية في منهجه وحكمته، وساعدت على تحريك دواليب مؤسسات الدولة التي كادت أن تنهار لولا أن اللجان الثورية تدخلت بشكل إيجابي فحالت دون تلاشيها، وسمحت لها بالنهوض بأدوارها الدستورية والخدمية وإن في الحدود الدنيا.
تشكلت حكومة الإنقاذ التوافقية ودبت الروح من جديد في أجهزة الدولة والحكومة، وانتظمت جلسات مجلسي النواب والشورى، وعادت المحاكم والنيابات لتقوم بدورها في إطار الدستور والقوانين النافذة، وبات المواطن اليمني مطمئنا إلى جدوائية التسوية السياسية الداخلية، وما انبثق عنها من تماسك ملحوظ في مختلف جبهات المقاومة والصمود، ومن خطاب إعلامي متوازن كانت الأولوية في مختلف وسائله وبرامجه لمواجهة العدوان والمرتزقة، ولتعزيز مسار إعادة بناء الدولة وتفعيل مؤسساتها وأجهزتها في العاصمة وفي المحافظات التي تخضع لسلطة المجلس السياسي الأعلى.
وساعدت هذه الحالة الجديدة والجادة على تماسك موقف الوفد الوطني التفاوضي، وحالت دون الرضوخ لإملاءات العدوان واشتراطاته المذلة التي حاولت استغلال واستثمار الأزمة الاقتصادية، فضاعفت من حدة الحصار على الشعب اليمني، ودفعت بالتصعيد العسكري في مختلف الجبهات.
فتنة ديسمبر وتحدياتها الأمنية والسياسية
شهدت صنعاء في ظل الرئيس الشهيد حالة من الاستقرار والطمأنينة برغم كل المتاعب التي كانت تواجه الدولة والمجتمع، وانعكست هذه الحالة بشكل إيجابي على الجبهة العسكرية التي دخلت مرحلة تطوير قدراتها الدفاعية والهجومية بهدف خلق نوع من توازن الردع مع تحالف العدوان، إلا أن التحدي الأكبر كان يتخلق يوما بعد آخر بفعل مؤامرات العدو الذي أدرك استحالة اختراق المعركة مع صنعاء، وهي في حالة من الثبات والوحدة الوطنية بين مختلف الفرقاء السياسيين، فعمد إلى إشعال الفتنة عبر أدواته التي رهنت قرارها للأزلام في الرياض وأبو ظبي، وتجاهلت أن قوتها تكمن في وحدتها واتحادها مع الشعب الذي كان ولا يزال يسطر ملحمة التضحية والفداء لأجل أن تحيا اليمن حرة كريمة، لا تخضع قرارتها السيادية لهيمنة هذه الدولة أو تلك.
لقد كانت فتنة ديسمبر 2017م أخطر التحديات التي واجهت صنعاء والرئيس الصماد، بل لعل الأطراف التي اشتركت في التخطيط للفتنة وتنفيذها راهنت على الشخصية التوافقية للرئيس الشهيد، ظنا منها أنه قد لا يتمكن من الحزم والحسم تجاه المشروع التآمري الخبيث، الذي لو لم يخمد بتلك السرعة لدخلت صنعاء حربا أهلية لا حدود لتداعياتها ومآىسيها. إلا أن حكمة الرئيس واتزانه في التعاطي مع بوادر تلك الفتنة كانت عاملا من عوامل الحسم أيضا، فقد أمكن للرئيس الكشف عن الكثير من خفايا المخطط التآمري، كما أمكن له تحييد الكثير من الشخصيات السياسية والاجتماعية التي كان رأس الفتنة يراهن عليها في معركة صنعاء. كما أن الرئيس لم يكن بعيدا عن الترتيب للمواجهة العسكرية والأمنية، وقد كان مقدامًا حين اقتضت الضرورة، ونبيلا حين ظفر بالنصر.
كان في قلب الخطر ومن الميدان يتابع مجريات المواجهة التي اضطر إليها اضطرارا، ولما انجلت الغمة وسقط رأس الفتنة، وأمكن لصنعاء أن تتنفس الصعداء، خاطب الرئيس الشعب بلغة متسامحة، وعمد إلى قرارات وخطوات حكيمة وشجاعة أمكن من خلالها معالجة آثار الفتنة بأسرع وقت، ولم تدفعه عظمة الانتصار إلى الثأر والانتقام، وإنما راهن من جديد على وحدة الجبهة الداخلية، فأعلن العفو العام ووجه بالإفراج عن المئات من الأسرى المشاركين في الفتنة، وفتح يده وقلبه من جديد لقيادات المؤتمر الشعبي العام التي لم تنخرط في الفتنة، ومنحها فرصة استئناف النشاط السياسي والوطني، تحت قيود مخففة، كان الهدف منها احتواء ما خفي من تداعيات الفتنة داخليا وخارجيا، والحفاظ على الشراكة الوطنية في السلطة وفي مواجهة العدوان معا.
ويقينا فإن الرئيس الصماد قد واجه ضغوطا كبيرة من داخل ” أنصار الله “، حاولت أن تدفعه إلى إجراءات قمعية لا تتناسب ومتطلبات مواجهة العدوان الخارجي، لكنه تحرك في إطار مسئوليته الدينية والوطنية وآثر تغليب الحكمة على الشدة والعنف، فأثبتت الأيام صوابية منهجية الصماد، ورسخت من مكانته وموقعه في قلوب الناس، فهتفت جموعهم بالمديح، ولهجت ألسنتهم بالثناء الحسن.
الرئيس المحارب
لم تشغل السياسة وشؤون الحكم الرئيس الشهيد عن متابعة مجريات الحرب والمواجهة الميدانية العسكرية مع العدوان وأدواته، فكان متابعا دائما لكل المستجدات التي تخفى على عموم الناس، وكانت زياراته للجبهات لا تتوقف، سواء كانت هناك مناسبة للزيارة أم لا، وكما أن المواطنين بادلوا الرئيس الحب والاحترام، فقد كانت مشاعر المجاهدين جياشة بكل معاني الوفاء والتقدير لبطل كان دائما إلى جوارهم متغنيًا بتضحياتهم وثباتهم وانتصاراتهم، ومتمنيًا لو كان جنديا إلى جوارهم يذود عنهم وعن الوطن، ويستميت في الدفاع عن حياض اليمن وسيادته واستقلاله. ولأن قلبه ووجدانه كانا هائمين في ميادين العز وساحات الوغى، فإن لسانه وتعبيراته قد أفصحتا عن تمجيد وتقدير كبيرين للمجاهدين الأبطال إلى درجة قوله: إن مسح الغبار من على نعال المجاهدين أسمى وأشرف من كل مناصب الدنيا.
أدرك العدو أنه أمام أنموذج مختلف من الساسة والحكام، فأطلق خطة الترصد والاغتيال، واجتهدت أدواته في تنفيذ المهمة التي شكلت الخسارة الكبرى لليمن واليمنيين طوال سنوات العدوان، لكنها بالنسبة للرئيس الشهيد كانت بمثابة الخاتمة الطبيعية التي تليق بالعظماء والأولياء الصالحين. هدد العدو الامريكي باحتلال الحديدة زاعما أن أبناءها سيستقبلون قوات العدو بالورود، فانتفض الصماد لا يلوي على شيء، ومن الساحل الغربي هتف منذرا العدوان بجهوزية استقبال الحديدة لقواته، لكن على أفواه البنادق والخناجر، وبرغم الحشد الكبير والنوعي لمعركة الحديدة، إلا أن كيد العدوان تبدد مع اللحظات الأولى للنهضة التهامية الصمادية، ومع أن العدو قد أمكن له اغتيال الرئيس البطل، إلا أن دماءه الزكية والطاهرة شكلت خير متراس للساحل الغربي، ولمدينة الحديدة التي ظلت وستبقى عصية على الانكسار كأخواتها صنعاء وصعدة وحجة وغيرها..
ارتقى الرئيس سلم المجد والشهادة وقد ترك وراءه سيرة عطره مزدانة بالثقافة القرآنية، التي كانت خير زاد استعان به الرئيس في مهمته الاستثنائية، كما كانت أبرز عنوان يتمثله سلوكا حياتيا لا شعارا زائفا كما هو حال بعض أدعياء المسيرة والمنتفعين منها. ومن هذا المنطلق لم يعرف عن الصماد أنه امتلك أرضا أو عقارا جديدا منذ بدء العدوان السعودي الأمريكي على بلادنا، كيف وقد نقل عنه رفاقه قوله، أن من يشتري أرضا أو يبني عقارا هذه الأيام – أي أيام الحرب- فاكتبوا على جبينه فاسد. وقد كان قوله هذا ولا يزال أبلغ رد على المفرطين والمفسدين من المسئولين في الدولة أو المشرفين في حركة ” أنصار الله “.
ومن حسنات الرئيس الشهيد أنه لم يغادر الحياة الدنيا إلا وقد رسم مشروعا لبناء الدولة، فقد رفع شعار” يد تحمي ويد تبني ” حتى لا يظن المتكاسلون أن الحرب يمكن أن تعطل عجلة البناء. وقد أحسن المخلصون لمشروع الشهيد حين أطلقوا إطارا نظريا متكاملا لبناء الدولة، في مشروع طموح ننتظر بفارغ الصبر أن يتحول إلى حقائق ملموسة في الواقع وفي الميدان، بعيدا عن الدعاية التي بات البعض يتفنن في اتقانها وهو يروج للأوهام وأحلام اليقظة.
بقي أن نقول أن تحركات الرئيس الشهيد ومبادئه وثقافته وإحساسه الكبير تجاه المسئولية الملقاة على عاتقة، قد رسمت معادلات الصمود الوطني بمفهومه العميق والشامل، وشكلت القواعد المتينة للنصر المبين الذي تلوح بشائره يوما بعد آخر. وكما أمكن للرئيس الذي أعاد تعريف الزعامة السياسية، أن يحفر اسمه زاهيًا في سجل الخالدين، فقد زاحم بآثاره وإيثاره السابقين من الحكام المصلحين الذين لم تتكرر نماذجهم إلا فيما ندر من أيام الحياة الفانية..