تفكيك الحالة السياسية اليمنية
عبدالرحمن مراد
المتأمل للحالة السياسية اليمنية يجدها لا تخرج عن جذرها التاريخي، ومتواليات انكساراتها دالة على الفراغ الحضاري الذي حدث قبل انهيار السد، ولم يكن «العرم» وفجوته الحضارية إلا تتويجاً لمرحلة انكسارية كانت قد سبقته.
والثابت أنّ الذات اليمنية كثيرة الاعتزاز بذاتها لذلك فإن ما أبدعته سبأ وحمير في غابر الأيام لم يكن إلا تفجيراً لكوامن الذات وتوظيفاً واعياً لطاقاتها، الأمر الذي عزز الشعور بالقوة والبأس الشديد- كما تجلى ذلك في حديث بلقيس وهذا الشعور لم يمنعها من ثنائية «الخضوع والتسلط» الخضوع لسليمان والتسلط على قومها، ومثل ذلك التسلط في الغالب كان يفضي الى التشظي والانقسامات كما أنّ الخضوع عمل على التأسيس لبداية الفجوة الحضارية التي حدثت في الذات الحضارية اليمنية.
ويمكن أن يقال إن روح الانقسام بين الكيانات التي تكوّن قوام الدولة المركزية التي تحكمها بلقيس هي سبب مباشر في ذلك الخضوع، ذلك أن الدولة المركزية كانت تتكون من كيانات جزئية كل كيان كان له قيل، وبتحالف مجموع الكيانات والأقيال تتكون الدولة المركزية فإذا غضب قيل من الأقيال انفصل عن الدولة المركزية، وأعلن نفسه كياناً مستقلاً كما نقرأ عن قتبان، وأوسان وحضرموت وغير أولئك الذين تشكلوا في إطار الدولة المركزية.. فالتنظيم كان حاضراً عند الدولة التاريخية اليمنية.
كما أن التناقض كان أساساً محورياً في الأشكال البسيطة والمعقدة للحركة، وهو بيّن من خلال حالة التشاور في التفاعل مع رسالة النبي سليمان عليه السلام.
وظل الفراغ الثقافي هو الفجوة الأكثر تأثيراً في المسار الحضاري للذات اليمنية.. فالثابت أن كتب الاخبار تحدثت عن أنبياء ورسل الى عرب الجنوب ولم تشتهر إلا قصة ملكة سبأ مع سليمان وقصص اليهودية والنصرانية، وقد ظل أثر ذلك كنوع من تطور التناقضات الداخلية في البنية الثقافية التراكمية للمجتمع اليمني كما ظل الفراغ الحضاري والثقافي فاغرا فيه يلتهم كل قادم بعد حادثة الأخدود في نجران وغرق الملك ذي نواس في البحر.
ذلك أن خروج ذي ثعلبان النجراني إلى الحبشة للاستعانة بهم كان بمثابة ذروة النكوص الحضاري الذي بدأت ملامحه مع قصة الهدهد والعرش للملكة بلقيس ثم توالت الأحداث من بعد ذلك في ذات المربع الذي رواه الهمداني في الأكليل نقلاً عن الزبور حيث قال إنه ورد في الزبور ما نصه:
– «لمن ملك ذمار»؟
– لحمير الأخيار
– لمن ملك ذمار؟
– للحبشة الأشرار.
– لمن ملك ذمار؟
– لفارس الأحرار.
– لمن ملك ذمار؟
– لقريش التجار.
إذ شهدت المراحل التاريخية المسار عينه الذي رسمه الزبور في غابر الأيام، فسيف انتهج ذات المسلك لـ«ذي ثعلبان» ثم شهدت المرحلة الإسلامية نفياً حضارياً للذات اليمنية بدءاً من السقيفة وانتهاءً بما وصفه البردوني تنصيب النائب رئيساً.. ولعل الممعن في التاريخ الإسلامي يجد حضوراً فاغراً للبعد الحضاري الذي ظل طوال تاريخه وحتى اللحظة يشتهي الامتلاء.
فاللحظة التاريخية الوحيدة التي يمكن وصفها بلحظة الوعي بالذات كانت مع القيل الهيصم بن عبدالرحيم الحميري ولم يمتد عمرها لأكثر من عشرة أعوام حتى صرخ المكان على لسان هارون الرشيد بقوله لأحد قواده:
«أسمعني أنين أهل اليمن» ومثل تلك الصرخة لم تتكرر مع الحركات التي كان لها آصرة تمتد الى الجذر المكاني الذي كان يومئ من بغداد أو من القاهرة الى نجد وقريش كمتوالية تاريخية تنبأ بها كتاب الزبور وظلت كصيرورة في كتاب الزمن.. وبمثل ذلك يمكننا تفسير موقف السعودية من ثورة سبتمبر 1962م، إذ أن التباين الواضح «بين الزيدية والسلفية» كان يحتم عليها الوقوف مع صف الثورة لكنها ساندت النظام الملكي الى لحظة التصالح الأخيرة في الخرطوم، فتلك المساندة كان العامل المكاني التاريخي هو الفاعل فيها ولم يكن للمصلحة السياسية إلا دور المبرر فقط لانتفاء عناصرها وموجباتها.
فالدور السعودي في الستينيات والسبعينيات لم يكن إلا بهدف تدعيم بنية الخضوع والهيمنة وتكريس عوامل التخلف التاريخي الذي يعمل على فقدان المجتمع لشروط تجديد إنتاجه، وهو ذاته الذي ظل فاعلاً خلال العقود التي تلت وما تزال حتى اللحظة التي شهدت التوقيع على المبادرة الخليجية، فالقضية لا تبرح مربع إفراغ الذات الحضارية اليمنية من محتواها الثقافي والتاريخي من خلال طمس المعالم الأثرية الذي تنتهجه الحركة الوهابية في اليمن واستهداف المخطوطات بالممكنات المتاحة كإغراءات البيع والتهريب وتعطيل القدرات الإبداعية والتقليل من فاعليتها وذلك عن طريق قوة تأثيرها في حصر الصراع بين طبقتين في اليمن هما طبقة المشائخ وطبقة الرأسماليين وأضحت بقية الطبقات خارج دائرة الصراع الاجتماعي وهو الأمر الذي عزز من حزمة المفاهيم التاريخية البغيضة كالاستغلال والغبن والغش الأمر الذي يتضاد مع نعوت وأحوال الحالات الثورية كالنقاء الثوري وشرف النضال الثوري، مع إضمار رفض استمرارية الثورة ورفض التطور الجدلي للمجتمع.
وقد ساهم نظام علي عبدالله صالح في ذلك، إذ عمل عن طريق المشائخ على تسخير قوى الشعب العامل لصالح مؤسسة الحكم / الحزب ذلك أن تحالفهم مع طبقة المشائخ كان تحالفاً وقتياً أو عرضياً فرضته الضرورة السياسية الضاغطة وهو في جوهره تعبير عن التناقض التاريخي، الذي بالضرورة لا يدل على النفي أو الاحتواء، بل قد دل على بداية ولدت مع النهاية التي رسمت ملامحها احداث 2011م.
إذ رأينا في 2011م إمكانية تحالف الاضداد على أرض الواقع، «تحالف رأس المال وقوة العمل»، فقد نهضت التيارات في حركتها الاجتماعية المتعادية والمتناقضة حتى تؤدي دور البطولة المطلقة من خلال وهم الانتصارات، ذلك أن خلاصة صورة 2011م نوجزها في القول إنها كانت صراعاً بين قوة العمل والسلطة , قوة العمل المتحالف مع رأس المال والمتناقضة معه في ذات الوقت وبين النظام المعبر عن الجماهير ومصالحها، فرأس المال السياسي كان يجاهد في سبيل مصلحته عن وعي متفاوت الدرجة كي يحافظ على الأساس الاقتصادي والبنيان العلوي وهو بذلك قد يزيد من العقبات في وجه أي ميل الى التغيير والانتقال، ذلك أن تغيير المجتمعات يعود بالأساس الى تطور التناقضات الداخلية فيها.
ومن هنا يمكننا القول إن اليمن بعد فبراير 2012م لا يواجه عناصر مستقلة ممثلة في رأس المال السياسي وقوة العمل – كتحالف أنتج حالة ثورية – فحسب ولكنه يواجه علاقات متناقضة بين رأس المال وقوة العمل..
فرأس المال السياسي من مصلحته ضمان علاقات إنتاج مستمرة وامتيازات في امتلاك وسائل إنتاج بما يضمن له استمرار علاقات الإنتاج القديمة وبحيث يدعم بوجه خاص النظام الراسخ في ملكية وسائل الإنتاج، وثمة مؤشر على ذلك الحال تناقلته الصحافة السيارة يومذاك .
إن القضية الوطنية اليمنية تعود بجذرها إلى الأشكال التاريخية التي لم يتعرض لها المفكرون لفض إشكالاتها المتوالية ولذلك فإن النتائج المتوالية نتائج مؤلمة لكل حركات التحول والانتقال التي اشتغل عليها السياسي وأهم تلك الأشكال تتمثل في الصراع الاجتماعي وتناقض علاقات الإنتاج، فاليمن الأسفل يمتاز بقيم وعلاقات متناقضة مع غيرها من المناطق ذات البنى الاجتماعية الأكثر استغراقاً في النظام القبلي كما أن الجنوب الذي حكمته النظرية الاشتراكية لمدة (23) عاماً قد تركت في تصوراته نظم ربما كانت متصارعة مع الثقافة الرأسمالية للمستعمر البريطاني الذي حكم المحافظات الجنوبية لما يقارب قرن ونصف من الزمان ومتصارعة مع الإشكالات التاريخية في السياق الثقافي الوطني ومثل ذلك التناقض ترك أثراً في المسار التاريخي الثوري تتوَّجَ بحركة (13 يناير 1986م) الدامية، فاليسار في الجنوب لم يتمكن من فض الإشكال التاريخي ولم يتمكن من تصفيته من محتواه المتأجج والعدائي، كما أن الثورة اليمنية لم تتمكن من فض الإشكال في اليمن الأسفل وهو إشكال تركه قائمو مقام الدولة العثمانية وما تزال آثاره تهدّد السلام الاجتماعي وتعزِّز من الروح العدائية والمتأججة في تلك المناطق، فالنظام الإقطاعي في تلك المناطق ترك أثراً نفسياً مدمراً وشعوراً بالدونية والنقص والفراغ ويكاد مثل ذلك يمتد إلى الشريط الساحلي كنتيجة لبعض الممارسات الخاطئة التي تنامت بعد حرب صيف 94م التي شكلت منعطفاً خطيراً في اليمن الحديث، فالذين خاضوا الحرب لم يكن هاجسهم إلا البحث عن الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعية المرموقة، ولم يكن الاستقرار هدفاً في ذاته فوعي الغنيمة كان حاضراً بقوة من خلال نهب المؤسسات الرسمية والاستئثار ببعض المقدرات ومن خلال نهب الأراضي التي اقتطعوها لأنفسهم واكتسبت شرعيتها القانونية من خلال الهبات الرئاسية، وتحت هذا المناخ برزت الإقطاعيات العسكرية والدينية والمشيخية على حساب الطبقات الاجتماعية الأخرى وجموع الجماهير التي كانت تشرئب أعناقها إلى غدٍ أكثر رخاءً ورغداً، ولم يكن حظ الجماهير من تلك الحرب (حرب صيف 94م) سوى يقظة حزمة من المفاهيم التاريخية البغيضة كالاستغلال والغبن والغش وهي مفردات تكوّنت صورتها الحقيقية في الحراك الجنوبي بكل فصائله، لذلك فالانفصال بما يعنيه من تناقض ليس نفياً للآخر كما أنه ليس احتواءً له ولكنه بداية سوف تظهر مع نهاية هذه المرحلة (مرحلة الحرب وبقايا النظام القديم ).
ونحن الآن نشهد مخاضها وهي في مظهرها العام صراع بين شمال وجنوب وفي غدٍ يتحول إلى صراع بين الجنوب والجنوب، ذلك أن الحالات القهرية التي عاشها الوطن قد أيقظت الهويات التاريخية، وعمر اليمن الديمقراطي لم يتجاوز (23) عاماً ولم يكن في واقعه الاجتماعي والسياسي مستقراً إذ أن حركة الزمن بين الكر والفر، والإقدام والإحجام، والهجوم والدفاع، والنصر والهزيمة، والعداء والمصالحة، والتحالف والانفصال، لم تحمل على تطوير التناقضات الداخلية فيه ولم تحدث تغييراً مشهوداً في الحركة البسيطة والمعقدة للمجتمع، ومع استمرار الصراع نأمل أن يبدأ التطور الواعي للعملية التاريخية حتى يتمكن المجتمع من تجديد شروط العملية الإنتاجية وبما يخفف من حدة الصراع، فالتعويل على محاكاة الآخر (النموذج) مثل “تركيا” عند الإخوان، ودول شرق آسيا أو أوروبا عند بقية القوى السياسية، لن يجدي شيئاً، فالمحاكاة في البعد الثقافي دون وعي كبير بالبعد الاقتصادي وبعلاقات الإنتاج في ظني ستكون عبئاً لا طائل منه وقد دلّت التجارب الوطنية الحديثة على مثل ذلك العبث، ذلك أن فقدان تجديد شروط الإنتاج قد يطيل من أمد الارتهان للآخر المتقدم وهو ارتهان تاريخي كما أوضحنا في السياق.
فالتجربة الوطنية الحديثة لم تستطع الخروج من هيمنة الاقتصاد المعاشي، أي الإنتاج من أجل الحياة، وهو النمط الذي كان سائداً قبل الثورة في نصف القرن الماضي وما يزال عدا بعض الاستثناءات التي لا يمكن التعويل عليها، كما أن علاقات الإنتاج شابها من الثبات ما شاب غيرها من الأنماط الثقافية والاجتماعية والقيمية، فالتجديد ظل غائباً وظلت المعيارية الاجتماعية لوسائل الإنتاج أيضاً ثابتة، فسكان الهضبة من صعدة إلى هضبة يريم يمتازون بقيم وعلاقات تختلف عن تلك التي يمتاز بها اليمن الأسفل (تعز، إب.. ) إلى امتدادات السهل الساحلي وتهامة وهي أكثر تناقضاً واختلافاً في المحافظات الجنوبية، فمربع الصراع الجنوبي (عدن، لحج، أبين، الضالع) يمتاز بقيم أكثر مدنية وتلك القيم تمتد إلى تعز، فالتشابه في التأثير والمؤثر الثقافي بين تعز وعدن يكاد يصل إلى حد التوحد والتطابق، وبالنسبة لحضرموت فهي نسيج لوحدها بتفاعلها الجاد مع البعد الاقتصادي واشتغالها به وباعتزازها بذاتها الثقافية المستقلة، ومن هنا يمكن القول إن تطوير التناقضات في المجتمع بالضرورة سوف يفضي إلى تجديد شروط إنتاجه، ذلك أن الانتقال إلى الدولة المدنية يتطلب مهاداً ثقافياً يعمل على تفكيك البنى الثابتة تمهيداً لإعادة بنائها بما يتوافق واللحظة الحضارية المعاصرة بعيداً عن أولئك المشدودين إلى النقاط المضيئة في الماضي والذين لا يؤمنون بحركة الزمن ولا بتطور إيقاع الحياة .
في ظني إن اليمن في مرحلتها الراهنة بحاجة أكثر إلى إثارة سؤالها الحضاري، وسؤالها الثقافي، وسؤالها الاجتماعي والاقتصادي، حتى تتمكن من استعادة وعيها بذاتها وتجتاز دوائر الفراغ الحضارية التي وقعت فيها في مسارها التاريخي.