عندما يئن القلب الحنون من ألم الحياة تهتز قدسية السماء وترتعش أجساد الملائكة ويبكي الوجود موقفه الحزين وتحجب شمس النهار ضوءها البهيج , ترفض الشروق من جديد .. وتجتمع رحمة الأرواح الطيبة لتنثر طيبها السرمدي حول جرح الأم في قلبها الرحيم وتسجد الطبيعة راجية منها السماح والدعاء..!!
هذا تعريف بسيط لاستجابة الحياة حين يتوجع قلب الأم من فلذة كبدها ..¿ تابعوا الحكاية واعتبروا..
انطلقت نور إلى مبنى إدارة الأمن تحمل قلبها النازف بين يديها وعلى جسدها تراكمت (47) عاما بكل ما تحويه من أفراح وأتراح ورغم أنها مازالت في منتصف العمر إلا أن الزمن قد ترك آثاره الشنيعة على ملامح وجهها فبدت وكأنها في عقدها السبعين..
وصلت الأم نور إلى بوابة إدارة الأمن وهناك سألت عن مدير المنطقة فأوصلها احد أفراد الأمن إلى مكتب المدير..
توقفت الأم على بعد خطوات من باب مكتب مدير المنطقة لبرهة من الزمن تراود نفسها في التراجع وعدم الإبلاغ عن ابنها .. بعد حيرة الأم بين قلبها الجريح وفؤادها الجارح دلفت قدماها داخل مكتب مدير المنطقة..
نظر مدير الأمن إلى هذه المرأة وسألها ماذا تريدين يا أماه..¿
لكنها لم ترد واكتفت بدموعها الثقال تسيل على وجهها المرتعش..
طلب منها الضابط أن تجلس على المقعد وان تحاول تهدئة نفسها وتشرح له الأمر الذي جاءت من أجله..
بعد لحظة هدوء وسكينة قالت نور : بعد وفاة المرحوم زوجي لم أفكر في الزواج مرة ثانية رغم أني كنت في عمر يسمح لي بذلك ورغم تقدم الكثير من الرجال لطلب خطبتي لكنني رفضت وأحكمت إغلاق باب الرغبة في زوج يقيني حر الصيف وبرد الشتاء ونذرت بقية حياتي لرعاية وتربية أبنائي..وسار قطار الحياة على أحسن مايرام وحسب ما خططت له فتزوج الابن الأكبر وانفرد بزوجته في شقة مفروشة وتلاه الابن الثاني على نفس الطريقة.. ولم يتبق من الأولاد غير منير وفتاتين وبدأت في التجهيز لزواج منير – آخر الأبناء الذكور- ورغم الظروف الصعبة التي كنا نمر بها إلا إنني استطعت أن أساويه بإخوانه الكبار في كل شيء فاخترت له عروسا جميلة طيبة وجهزت له شقة الزواج بكل متطلباتها وجاء اليوم السعيد ا لذي تزوج فيه منير وأقام مع زوجته في شقته وبقيت أنا والبنات في المنزل القديم يؤنس بعضنا بعضا وقد أحسست بجبل من الهم ينزاح من على ظهري بعد الاطمئنان على الأولاد الثالثة وكاد قلبي يطير فرحا عندما رأيت السعادة تملا وجوههم.
وبحسب الأم فبعد أشهر قليلة من زواج منير حتى بدأت تصرفاته تتغير تجاه والدته وأخواته وحتى زوجته وأصبح أثاث بيته يتناقص يوما بعد آخر بسبب قيامه ببيع قطع من الأثاث تدريجيا حتى قضى على كل شيء يحتويه منزله وحين وجد نفسه هو وزوجته على البلاط انتقلوا للسكن مع والدته في البيت القديم..
تضيف الأم قائلة : بعد أن انتقل منير وزوجته إلى العيش معنا في المنزل القديم قام بتأجير شقته السابقة ليستفيد من ثمنها وفكرت انا في ذلك الأمر فوجدته جيدا بعض الشيء كون إيجار الشقة يساعد في دعم الحياة المعيشية وبذلك تصطلح أحوال الولد منير فيعيش شبه مرتاح..
تتوقف الحاجة نور عن الحديث برهة وتنزل جزءا من اللثمة عن وجهها لتلقي بنصف كوب من الماء إلى جوفها الظامئ وتحمد الله ثم تواصل الحديث :منذ ثماني سنوات وأنا وبناتي نتعرض للتهديد والسب من قبل أخيهن منير بشكل يومي فكان يأتي إلينا كل يوم يطلب مني أن أعطيه فلوسا وإلا يهدد بتفجير قنبلة داخل المنزل وهدمه على من فيه .. وتجنبا مني لتنفيذه تهديداته وأيضا رحمة لحالته العصبية كنت اعطيه الفلوس حتى انتهى ما لدي من مال مخزون عندها لم أجد شيئا لأعطية فقام ببيع قطع من أثاث المنزل يأخذ القطعة ويذهب بها خارجا ويعود بعد ذلك وقد هدأت حالته قليلا وكان آخر شيء باعه هو باب المنزل غير آبه بما يمثله هذا الباب من حفاظ وستر لعورة البيت..!!
ظل ضابط الأمن يستمع إلى هذه الأم بصمت دون أن يقاطعها وهي تسرد له مأساتها في فلذة كبدها وقد وجدت الضابط بسكوته وهدوئه الابن الحنون الذي تعشمت فيه إنقاذها مما هي فيه.
وتواصل الحجة نور سرد الكلمات الأخيرة من تراجيديا حياتها مع ابنها منير فتقول: كان منير في السنوات الأخيرة يشغلنا طوال الليل بدخوله الى المنزل وخروجه منه أكثر من مرة في الليلة الواحدة إضافة إلى ذلك سبب لنا المشاكل مع كثير من الجيران واستدان من بعضهم أموالا بدعوى تقديم مصلحة لهم وكانوا يأتون إلي كي أرد لهم المبالغ المالية .. وآخر شيء كنت أتوقعه من ابني هو أن يقوم باهانتي والتلفظ علي بالشتائم والكلمات الجارحة وتهديده لي بطردي من المنزل والقذف بي في الشارع مع الكلاب..
وأضافت الأم : ابني عاق يا حضرة الضابط لم اعد احتمل مواجهته واطلب منكم القبض عليه وحبسه حتى يرجع إلى رشده..
مباشرة سجل ضابط الأمن بلاغ هذه الأم وأرسل عددا من أفراد الأمن للقبض على الابن العاق ليس فقط في الشكوى التي تقدمت بها أمه عليه وإنما لشكاوى أخرى قَدمت ضده في نفس اليوم من أشخاص آخرين بتهم النصب والاحتيال وخيانة الأمانة ..
ليتم القبض على هذا الابن العاق والتحقيق معه وإرساله إلى السجن ..
هذه واحدة من حالات عقوق الوالدين والاعتداء على مكانتهما الرفيعة بالسب والاهانة أحيانا وبالضرب أحيانا أخرى من قبل بعض الأبناء الذين يتنكرون لأفضال الوالدين عليهم منذ ان كانوا أطفالا رَضع وحتى أصبحوا رجالا ولولا الوالدان لما وجد الأولاد وخصوصا الأم الفاضلة من جعل الله الجنة تحت قدميها..
Prev Post
قد يعجبك ايضا