أم حسين تروي معاناتها لـ”الثورة ” :”زهراء السقاف”مريضة بالسرطان سافرت للعلاج وخلال العودة خطف المرتزقة زوجها من نقطة الفلج بمارب
لم تكن زهراء السقاف (أربعينية)، تعلم أن رحلة علاجها من الورم ستنتهي بها إلى معاناة من نوع آخر، تفقد معها زوجها ومعيلها الوحيد أمام ناظريها، وتتجه مكسورة الجناحين في رحلة كفاح مريرة لمحاربة خلايا الموت السرطانية، بينما يكتنف الغموض مصير زوجها الذي غيّب منذ شهر في دهاليز سجون مارب الموحشة، وتنتظر هي لحظة عودته.
الثورة / مها موسى
في الـ 12 من فبراير الماضي، وصلت “أم حسين” وزوجها أحمد صباح، نقطة الفلج في محافظة مارب المحتلة، عائدين من رحلة علاجية مرّا خلالها بمسقط عمان ودوحة قطر وإسطنبول تركيا وانتهاءً بمشهد الإيرانية، ومن ثم العودة حيث تقول في حديث لـ”الثورة”: “في “نقطة الفلج” رأينا العذاب أطيافاً وأشكالاً، بداية من أسلوب التعامل وصولاً للطرد”، وتضيف إن “رحلة العودة من إيران إلى صلالة الحدودية بين اليمن وعمان، مرت دون عقبات، غير أن الوضع بدأ في التغيّر بمجرد دخول الأراضي اليمنية، حينما بدأت قصة نقاط التفتيش التي لا تكاد تنتهي بامتداد الطريق”.
تحملت زهراء عناء الرحلة على أمل العودة لحياتها الطبيعية مع زوجها وأولادها، لكن أيادي العدوان ومرتزقته أرادت البطش بها، كما تفعل مع كثير من المواطنين، بذريعة جواز سفر أو ختم أو حتى لقب، متجاوزة كل القيم الإنسانية والأعراف المجتمعية، وتقول أيضاً: “تعاملوا معنا بطريقة لا إنسانية، فتشوا أغراضنا بطريقة همجية، حتى دوائي الخاص بالسرطان لم يتبق منه إلا فتات كبسولات وبقايا أنبولات اختلطت ببعضها ولم يعد لها أي قيمة أو فائدة مرجوة”.
زهراء وآخرون
مطلع العام الماضي أصيبت أم حسين بسرطان في ثديها الأيمن، تطلبت حالتها الصحية إجراء عملية استئصال مستعجلة في الخارج، وتضيف قائلةً: “أخبرني الأطباء في صنعاء بأنني مصابة بالسرطان نتيجة الغازات السامة التي لوّثها طيران العدوان طيلة الفترة الماضية، وأن عليَّ استئصال جزءً يمثلني كأنثى على الأقل”، وقتها “بدأت الأسئلة تدور في مخيلتي واحداً تلو الآخر، واستوقفني سؤال واحد: إن لم أتغلب على الورم فمن لأصغر أولادي (حسين) ذي الثمان سنوات من بعدي وهو الأكثر تعلقاً بي من بين إخوته؟”.
ليست زهراء وحدها من تعاني تبعات السرطان، بل هي واحدة من بين 40 ألف حالة إصابة بالسرطان تسجلها وزارة الصحة كل عام، كما أشار إلى ذلك وزير الصحة العامة والسكان الدكتور طه المتوكل، في مؤتمر صحافي منتصف العام الماضي، مؤكدا أن القصف الذي تعرضت له البلاد أحد أهم الأسباب الكبرى في ارتفاع نسبة الإصابة بالأورام، وكانت منظمة الصحة العالمية قد سجلت 30 ألف حالة إصابة في العام، بينها ستة آلاف بسرطان الثدي، ما يعني أن العدوان ساهم في إضافة 10 آلاف حالة سنوية إلى العدد الطبيعي، وبحسب الدكتور المتوكل فإن “20 ألف نسمة يتوفون كل عام من المصابين بالأورام السرطانية بسبب نقص الخدمات الصحية وعدم توفر العلاج نتيجة حصار”.
عناء السفر
في أغسطس 2016م، فرضت دول العدوان بقيادة السعودية والإمارات حصاراً جوياً على اليمن، منعت على إثره خروج أو دخول أي رحلة مدنية عبر مطار صنعاء الدولي، وكان ذلك بمثابة الحكم بالإعدام على كافة المرضى الذين هم بحاجة لتلقي العلاج في الخارج، والبالغ عددهم “250 ألف مريض” بحسب إحصائيات الصحة، وفي ذات الوقت كان يجب على المرضى أن يعبروا عدة محافظات حتى يصلون إلى مناطق سيطرة مرتزقة العدوان، ليتمكنوا من السفر بعد الحصول على جوازات جديدة من ذات المناطق غير الجوازات التي يمتلكونها، وهي رحلة معاناة كانت تنتهي في كثير من الأوقات بوفاة “أربعة من أصل 10 مرضى؛ نتيجة عرقلتهم في نقاط المرتزقة” كما أكد الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة يوسف الحاضري في حديث سابق لـ”الثورة”.
من بين من تجرعوا معاناة السفر، زهراء وزوجها، حيث لجأ الزوجان إلى السفر نحو مسقط تجنبا للعرقلة في محافظات سيطرة المرتزقة، إذ استأجرا سيارة من إحدى شركات النقل البري للذهاب عبر طريق مارب إلى مدينة شحن وصولا إلى الحدود اليمنية العمانية ثم صلالة فمسقط، كل ذلك براً، حيث تقول زهراء: “سافرنا إلى الدوحة وكان يفترض أن ننزل هناك “ترانزيت” لمدة ساعة بعدها ننطلق مباشرة إلى مقر العلاج، في مشهد الإيرانية، لكن تأخر الرحلة في الدوحة اضطرنا للسفر نحو تركيا ومنها إلى إيران”.
آلام العلاج
في إيران بدأت زهراء رحلة علاج صعبة مع الكيماوي، ليس ثمة من يقف معها سوى زوجها البسيط، بتنهيدة وجع خرجت من أعماق قلبها المكلوم اضافت قائلةً: “بدأت ألحظ أنني خسرت شعري ورموش عيني، وضعف جسمي واهتد حالي وأصبح شريط حياتي يمر أمام عيني”، لكن ما خفف عنِّي عناء ذلك هو “استذكاري لإخوتي، وكيف كانت لهم نفوس قوية عصيّة على كل الظروف بالإضافة إلى أن دعم زوجي لي، فالكيماوي يحتاج إلى نفسية قوية وعزيمة فولاذية، هو ما أشعرني بسيل من الاطمئنان”.
بعد المعاناة مع الكيماوي، كانت رحلة أخرى بانتظار زهراء، تتمثل بإجراء العملية الجراحية لاستئصال الثدي الأيمن، انتهت هي الأخرى بانتصار أم حسين، التي ما أن خرجت من العملية حتى تاقت إلى صنعاء مستعجلة زوحها للعودة، ووصف لها الأطباء مجموعة من الأدوية، تستخدم لعشر سنوات متواصلة كحماية من عودة الخلايا السرطانية.
سرطان الاحتلال
بانطلاق رحلة العودة إلى الوطن، بدأت قصة زهراء تأخذ زاوية وبعداً جديدين، وقوبلت لهفة الحنين إلى الأرض ببؤس الواقع في المحافظات المحتلة، حيث تعرضت للتفتيش مع وزوجها في كافة النقاط الموزعة على الطريق الممتدة من المهرة إلى مارب. هنا، وبالتحديد في نقطة الفلج، كان بانتظارها وزوجها، مصير آخر لم يكن في حسبان أي منهما مواجهته.
تقول الزوجة بحرقة شديدة: “كل ما تعرضت له وعانيته من ساعات عصيبة كان هينًا عليّ، فقط زوجي ومصيره هو ما كان يشغلني حينها، فقد استمروا في التحقيق معه منذ الفجر حتى بزوغ الشمس بأسلوب العصابات وقطّاع الطرق”، وتضيف: إن زوجها كان “يقول لهم: “زوجتي مريضة ونحن مجرد عابري سبيل، دعونا واخلوا سبيلنا؛ فليس على أحد منّا أيّ شيء”، لكنهم استمروا في التهكم بحجة أنه قادم من إيران”!.
تتابع “أم حسين” سرد حكاية زوجها وهي تكفكف دموعها، قائلة: “تمام الساعة التاسعة صباحاً تضاعف عدد مفتشي النقطة من أربعة إلى 30 شخصًا، جميعهم يقتادون زوجي للتحقيق دون رحمة أو شفقة بنا، ومن ثم قرروا اعتقاله دون مبرر، وأقسموا أن لا عودة له معنا، حينها ترجّلت عن السيارة وأمسكت بزوجي بكل قوتي وأصبحت كغريبة في أرض غربة، فحاولوا سحبه لأنفصل عنه”.
إهانة وابتزاز
تتذكر زهراء لحظات اعتقال زوجها بألم وهي تضيف: “أصبحنا نُسحب كالقطيع دون شفقة أي واحد منهم”، وتردف: “قالوا بالحرف “مش علينا هذه الحركات والله لو تموتي الآن باناخذه “، لم يرحموا ضعف قوتي وقلة حيلتي، فصاح زوجي “أرجوك لا تذليني أكثر فلا أحتمل أن أراهم يؤذوك، أرجوك عودي للسيارة وارحلي، أولادي في الانتظار”.
لم يكن أمام الزوجة إلا أن تودِّع زوجها بقلب يحرقه مصير أحمد، “فتارة ألعنهم وتارة ألعن المرض الذي اضطرنا لكل هذا وتارة ألعن العالم الذي نعيش فيه، فيوم اعتقال زوجي شعرت أنني في غابة ضباع وثعالب ماكرة، لكن الحقيقة هي أن العدوان السعودي الصهيوني الأمريكي يقتلنا حتى بالهواء الذي نتنفسه، وبعد أن ودَّعته ووصلت لبيتي وأولادي هممت بنشر الخبر أحاول أن أعمل أي شيء” كما تضيف زهراء.
تعذيب متوقع
وفي سياق مصير الزوج، كانت “الثورة” قد نشرت في نوفمبر الماضي تحقيقا استقصائيا عن سجون الإصلاح وحكومة الفار هادي في مارب، جاء فيه إن “الكثير من المدنيين المسافرين يتم اعتقالهم في نقاط العبور في محافظة مارب على أساس مناطقي وعنصري وسلالي، ويتعرضون أيضا لأبشع أنواع التعذيب دون ذنب”، وهو ما قد يكون المصير نفسه الذي يلاقيه أحمد صباح.
ذلك المصير جعل الكثير من المرضى اليمنيين الذين هم بحاجة للسفر إلى الخارج يفضلون البقاء في صنعاء متنقّلين بين المستشفيات التي لم تستطع تخفيف ولو جزء يسير من معاناتهم لعدم توفر الإمكانيات المناسبة واللازمة لذلك، بدلاً من السفر عن طريق مناطق سيطرة المرتزقة خوفاً من أن يلقوا مصيراً شبيهاً بمصير من سبقهم، كما أن آلاف اليمنيين الذين خرجوا لتلقي العلاج قبل إعلان العدوان على اليمن فضّلوا البقاء عالقين في الدول التي ضاقت بهم ذرعاً بدلاً من عبور مناطق المرتزقة على رغم استياء حالاتهم المادية والصحية والنفسية بحسب تقرير حقوق الإنسان.
استغاثة وأمل
تقول زهراء إن “الكثير من مشائخ ووجهاء خولان ومنهم الشيخ محمد بن محمد الزيادي والشيخ عبدالله الغادر، حاولوا التواصل مع نقطة “الفلج” في مارب ليعرفوا سبب الاعتقال، إلا أنهم حتى اللحظة لم يصلوا لسبب واحد يبرِّر اعتقال زوجي”، مطالبة كل ذي شأن بالتحرك والنفير لإخراج زوجها من مكان إيداع المفتشين له، باعتباره عابر سبيل لا يحمل السلاح حتى بأبسط أشكاله وأنواعه”.
وفيما لا يزال مصير أحمد صباح مجهولاً، يستمر مرتزقة العدوان في اختطاف المارين عبر المناطق التي تحت سيطرتهم، لإيداعهم في السجون من أجل الاستفادة منهم في صفقات تبادل كما كشف ذلك الدكتور أمير الدين جحاف في كتاب عن واقع عاشه في تلك السجون يحمل اسم “رحلة خلف القضبان” أصدره أواخر العام الماضي، أو بيعهم للسعودية كما جرى مع البروفيسور مصطفى المتوكل في الـ 27 من أبريل 2017م، وهي تصرفات لا أخلاقية يمارسها اتباع العدوان على الأرض اليمنية، وفي مارب الحضارة والتاريخ، تتطلب التحرك الجاد لتلبية نداء زهراء في تحرير زوجها من خلال التواصل أو بأي طريقة كانت، وإلى جانب ذلك تلبية نداء أسر كافة المختطفين من نقاط العبور في تلك المناطق.