جميل مفرِّح
* أيتها اللغة.. اتَّسعي قليلاً.. كوني إناءً لائقاً باللحظة، نافراً على الحدود.. أفسحي لتسرُّبي إلى بواطنك ولو شقوقاً ضيقة لا ينفذ منها ضوء سوى ضوء القلوب المنشغلة بكِ.. ورائحة الحبر الذي لا يجيدُ سواه قراءة هواجسك المتراكمة فينا.
* أيها الكلام.. افتح نوافذك على المعاني، وانتظرني على حوافِّ النصِّ المُرتقَب.. افرك يديكَ جيداً، وارتشفِ اليباسَ من شفتيكَ.. اغمض عينيكَ لوهلاتٍ، ورتِّب أناملكَ على مشطي لساني وشفتيَّ.. أشعرُ برغبةٍ يافعةٍ في قول شيءٍ ما، عن ذرَّات هذا المساء المُتكسِّر في أحضان الذكريات.. أحتاجُ إلى أن أترامى كما يجب في أصقاعكَ المفتوحة، في صوتكَ الخافتِ، وفي انهمارك المتكاسل حدّ الجمود..
* أيها الكلام.. أسعفني بقليلٍ من يقظةٍ.. الأحلامُ في حالة انتشاء، والمناماتُ لم تعد ممكنةً بما يكفي لمجابهة الاحتياج إلى واقعٍ خالٍ من المرارات.. والوقتُ كعادتهِ لا يحتملُ الإقامةَ لأكثر من حاجته إلى المضيِّ المعتاد.
* أيتها اللغة.. ربما لم أعد شاعراً بما يسدُّ غروركِ، ولا كاتباً بما يفي خيلاءكِ.. ولكن أؤكِّدُ لكِ على أنني ما أزالُ أستطيعُ أن أحتويكِ كلما ألَّحتِ الحاجة.. أستطيعُ أن أجمعَ كواكبَكِ، وأعدَّها، وأملأَ بها حيِّزاً مناسباً من فراغ الكون حولي، وأن أتلقَّى انهمارات هواجسكِ، وأعبئها في قناني العطر الفارغة، وفي ما تبقَّى من مساحاتٍ في صدور العُشَّاق..
* أيتها اللغة.. ما أزالُ أستطيعُ معكِ أن أحوِّلَ رُزم الورق إلى أجنحةٍ شفَّافةٍ لطيورٍ لم تُحلِّق من قبل، وأن أداخل اللحظات الحزينة بابتسامات ذلك الطفلِ الكامنِ في مخيلتي، وأعيدَ إطلاقَ فراشات المواعيد.. أستطيعُ أن أنظمَ أسرابَكِ، وأُشكِّلَها في هيئاتٍ لم تبتكرها طيورُكِ من قبل، ولم تعتد عليها أصابعُ الطبيعة.. وأن أُهيِّئَ للرَّحيلِ في سماواتكِ كلَّ ما يحتاجُ إليه ويستطيعهُ عاشقٌ بحجم الشَّاعر.