أحمد الأغبري
قد يكون مُحَمّد صُوفان (1960م)، هو أول يمنيّ تعامل تشكيلياً مع عالم «المطر» أو ما يطلق عليه (لوحة المطر)، لتنطلق تجربته الخاصة مستندة إلى جزئيتين في علاقة الفن التشكيلي بالمطر؛ فتعامل بمهارة في الجُزئية الأولى مع (البُعد المادي) لتأثير المطر على المنظور الواقعي للمكان والانسان في المدينة التقليدية؛ فنسج سطوحه بدقة وعناية وفق ميزان وإحساس دقيق مستوعباً القيم والمعايير الجديدة لأدواته وتقنياته مع لوحة تتعامل مع الغيم والبلل بدرجات ومعانٍ مختلفة يُعيد بها اكتشاف سحر المطر في علاقته بهذا المكان …
كما استطاع صُوفان أن ينفذ في الجُزئية الثانية ذات العلاقة بـ(البُعد الحسي) إلى متون المناظر (المغسولة) مُستنطِقاً أثر المطر في الإحساس الإنساني مؤنسناً بذلك المحمولات الشكلية والسطوح اللونية وانعكاساتها الضوئية والظلّية، وصولاً إلى انفتاح اللوحة أمام المشاهد؛ فيتماهى معها حداً قد يشعر بوقع رذاذ المطر ويتنسم رائحته ، لدرجة قد يشعر كأن الطقس ماطر بينما المطر لم يتجاوز اللوحة.
من البحر الى السماء
مما لا شك فيه إن صُوفان، وهو ضابط في الجيش لكنه درس الفنون التشكيلية، قد استفاد، في هذه اللوحة مما اكتسبه سابقاً من علاقته الشغوفة بلوحة البحر من ناحية واشتغاله كثيراً من ناحية ثانية على مناظر المدينة القديمة وتراثها المعماري؛ فجاءت (لوحة المطر) تطوراً تقنياً لعلاقة فرشاته ببريق السطوح المائية من جانب وبهاء المنظور التقليدي للمدينة من جانب آخر.
ارتبط صُوفان بالرسم طفلاً وتعلّق به شاباً، وعلى الرغم من دراسته لهذا الفن إلا أن التحاقه بالجيش آخّر تفرغه للوحة حتى العام 2011م؛ ففي ذلك العام أطلّ هذا الفنان على المشهد من خلال تجربته الواقعية ذات العلاقة المفتوحة مع البيئة المحلية؛ فاشتهر بنشاطه ودأبه وغزارة انتاجه، مواصلاً العمل يومياً لساعات طويلة في مرسمه ومكتبه الخاص الذي افتتحه بصنعاء؛ فقدّم الكثير من الأعمال، مُلتزماً فيها المدرسة الواقعية والبيئة المحلية بتنويعاتها البحرية والريفية والمدينية، مُتميزاً بمهارة تقنية في تعامله مع أدواته وتقنياته؛ وهي المهارة التي اكتسبها من تنويع اشتغالاته الموضوعية والتنقل بين تجارب تقنية مختلفة، والتي تأخر معها استقراره في رؤية وأسلوب يخصه.
اللوحة الهوية
لم يستهدف هذا الفنان لوحة المطر انطلاقاً من وعي مسبق؛ ففي غمرة تنوعه الموضوعي وتنقله التقني قادته المُصادفة لرسم منظر للمطر في صنعاء؛ لتنال اللوحة إعجاب زملائه بمستوى أثار دهشته ليُعيد قراءة اللوحة وينتقل منها إلى رسم منظر آخر للمطر بوعي مختلف؛ لتنال اعجاباً أكبر فتح شهيته لمواصلة الاشتغال والاستغراق في هذه اللوحة تجريباً وبحثاً وقراءة في تاريخها وموضوعاتها وتقنياتها؛ ليجد نفسهُ في كل عمل يخطو خطوة للأمام حتى تعززت علاقته بها كتجربة خاصة استقرت فيها رؤيته وأسلوبه على الأقل في هذه المرحلة.
ومع أعماله الأولى استطاع الفنان أن يُنضِج وعيه التشكيلي بها ورؤيته الفنية تجاهها بما يمكنه من التعبير عن خصوصية الاختلاف الذي يُفضى به المطر سحراً على المكان في مدينة تقليدية معظم مناظرها باتت مألوفة تشكيلياً…وهو ما يتطلب من الفنان وعياً جديداً ليُقدّم مناظر ونصوصاً جديدة تُعيد الاعتبار لسحر هذا المكان مبلولاً بالمطر بالقدر الذي تُعيد فيه الاعتبار لسحر المطر في هذا المكان مختلفاً عما هو عليه في أي مكان آخر؛ وهو ما كان ليتحقق لولا إدراك الفنان لخصوصية الاشتغال بوعي جديد على مفاهيم ومعايير وقيم مختلفة وبخاصة في اشتغاله على الألوان ودرجات بريقها ومستويات تأثيرها وانعكاساتها أضواءً وظلالاً؛ وهو ما استوعبه الفنان ليتجاوز سريعاً عيوب الأعمال الأولى مُحققاً تطوراً جعله يتمسك بهذه اللوحة كهُوية خاصة قدّم من خلالها تجربته ؛حيث خصص لها معرضه الشخصي الأول الذي أقيم في فبراير من العام 2016م بصنعاء تحت عنوان «صنعاء بلون المطر».
بين السطح والمتن
ظهر صُوفان في الأعمال الأولى من هذه اللوحة مُهتماً كثيراً بالسطوح المائية على حساب بقية العناصر لدرجة أن بعض لوحاته كانت تخلو من الناس تماماً؛ وهو ما تداركه وتجاوزه لاحقاً في سياق محاولة فرض توازن ينطلق من واقعها ويُعبر، في ذات الوقت، عن وعي الفنان بما يجب أن يكون عليه واقع المنظر، أي أن الفنان لا يلتزم بالاشتغال الفوتوغرافي على المنظر بل كان يتعامل معه وفق رؤية موقفه لما يجب أن يكون عليه، وهو ما بدأت تعبّر عنه الأعمال التالية.
وعلى الرغم من التقدم الذي قطعه إلا أنه لم يتجاوز (البُعد المادي) للمنظر، وعلى الرغم مما صار يتمتع به من مهارة في استخدام تقنياته في التصوير والتعبير عن تأثير المطر في المكان إلا أن المنظر بقي صامتاً مقفلاً؛ فأدرك الفنان – حينئذ- أهمية الاشتغال على باطن المنظر و(البُعد الحسي) واستنطاق أثر المطر في الإحساس الإنساني؛ لا ترتدي معه اللوحة رداء المطر فقط بل تكون مفعمة بأحاسيسه بما يمنح اللوحة نبض الحياة ويفتحها على المشاهد شعوراً بأجواء المطر، وهو ما تمكن منه الفنان فيما بعد… وأصبحت لوحته تنز وتلمع وكل شيء فيها يشع سحراً وجمالاً تتعدد معهما قراءات اللوحة.
مهرجان المطر
نخلصُ إلى أن خصوصية تجربة هذا الفنان مع هذه اللوحة تتجلى كثيراً في تعامله مع المطر والمكان انطلاقاً من إمعانه الواعي في قراءة التأثير المادي مُفعماً بالإحساس الإنساني الناجم عن المطر؛ ولهذا نجد الفنان لم يتعامل مع منظر هطول المطر إلا بشكل خفيف لا يُرى معه الهطول؛ لأنه يستهدف المطر ليس في هطوله وإنما في تأثيره المكاني وأثره الإنساني؛ وهو ما يتجلى كثيراً في اللحظات الأخيرة لهطول المطر قُبيل توقفه تماماً؛ وهو الوقت الذي تكون فيه المناظر مُنتشية بالبلل، معطرة برائحة ونسيم المطر، مستمتعة بالرذاذ الأخير، مغسولة بماء، مفعمة بضوء وظلال وغيرها من عناصر الخصوصية التي أجاد الفنان الاشتغال عليها بدقة وإحساس عال مُستنطقاً سحر المطر في بهجة جدران المعمار وتموجات الشوارع المرصوفة وفرحة هيئات وتحركات الناس؛ وهي الفرحة التي تنعكس، أيضاً، على سياراتهم ودكاكينهم المزدانة بالبلل والبريق…فكل شيء مصقول لدرجة لا تشعر بما يوحي أنك أمام عمل تشكيلي؛ بل امام مهرجان حي للمطر أجاد فيه الفنان تصوير كرنفاله الإنساني في أزقة صنعاء القديمة .