سوق الحصبة.. “بئر معطلة◌َ وقصر مشيد”


– كان على مدار العام فتحاٍ من الرزق والتجارة الرائجة لكنه الآن خارج الاهتمام
* نقابة البساطين والتجار:
– (5400) متضرر والخسائر (4) مليارات و(75) مليون ريال
– (7) شهداء و(27) جريحاٍ من تجار وبساطي السوق لم يحظوا بالعلاج والرعاية
– (300) أسرة نازحة وإغلاق المحلات لم يعف التجار من فواتير الماء والكهرباء والإيجارات

تحقيق / محمد محمد إبراهيم
mibrahim734777818@gmail.com

لمحياه الباسم والمغتسل بالأمل والتفاؤل وقليل من شروخ الكفاح وتجاعيد العمر الستيني كان أبو عمار يستقبل زبائنه في كل لحظة ولم يتوقف إن غاب لهنيهة قام أخوه أو بعض من أولادهما بالعمل المستمر في توفير كل طلبات الزبائن الذين يتقاطرون إلى سوق الحصبة من كل حدبُ وصوب.. كانت بسطته العامرة بكل طري وندي من الخضروات المختلفة تتوسط المحيط الغربي للسوق المركزي الكبير الذي يعج بكافة أنواع الخضروات والفواكه واللحوم.. ذلك هو قلب السوق.. كان أي عابر يلاحظ تقاطر المركبات من دبابات- جمع دباب- صغيرة والمتوسطة ودينات وقاطرات – كانت تدخل ليلاٍ- كل تلك المركبات كانت في حركة مستدامة- توفر فرص عمل لا تنقطع- فهي تنقل البضائع ولوجاٍ من وإلى مائدة السوق المستديرة من كل منافذ وموانئ ومصانع ومزارع ومجمعات الاستهلاك الغذائي في اليمن ومنه تخرج إمدادات الأسواق الفرعية والبقالات المركزية ومحلات المواد الغذائية المتوسطة والكبيرة والصغيرة داخل وخارج العاصمة صنعاء..
وكالة سبأ ومدرسة الرماح- شرقاٍ- وملتقى جولة الساعة شمالاٍ ومبنى منزل الشيخ عبدالله الأحمر وشارع اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي –غرباٍ – وشارع الجامعة العربية جنوباٍ.. بين هذه الاتجاهات يتربع سوق الحصبة الكبير الذي تتداخل خريطة أسواقه ومحاله التجارية بأحياء الحصبة ومنازلها الشاهقة والعتيقة والمملوكة لشخصيات اجتماعية كانت محور الصراع الذي أحرق مائدة رحمانية جمعت أكثر من 10 آلاف مستفيد جمعهم قدر الرزق من كل محافظات الجمهورية.. كيف كان السوق .¿ وما هو حاله اليوم .. ¿ هذا ما ستنقله الحلقة الثانية من تحقيق آثار حرب 2011م وجهود المعالجة والتعويضات…. إلى التحقيق:

أبو عمار – الذي أشرنا إليه آنفاٍ- قضى عمراٍ في هذا السوق في كفاحُ منقطع النظير معطر بالصدق والوفاء مع التجار ومع الناس الأمر الذي أهله أن يتربع على عرش الاحترام عند الناس وعند زملائه في السوق من التجار الكبار والمتوسطين والصغار الذين يحظون بتشجيعه وحل خلافاتهم وصاحب كلمة مقبولة لدى الجميع لما فيه مصلحة السوق.. لقد كان عاقل سوق الحصبة المركزي الذي التهمته الحرب ليبقى حكاية من عروش الماضي الخصب وأعجاز بسطات صادرت النار معالمها.. ليصبح أبا عمار عاقلاٍ بلا سوق ومعيل أسرُ بلا مصدر رزق ومدمناٍ للعمل الحثيث والنزيه متنقلاٍ من سوق إلى آخر بحثاٍ عن موطئ عمل يوفر العيش الكريم.. أبو عمار أنموذجاٍ لما يقرب من 300 تاجر وبساط خسروا أعمالهم بخراب ودمار سوق الحصبة المركزي للخضار واللحوام والفواكه ونزحوا إلى أسواق أخرى.. حين اتصلت به لأسأل عن السوق وعودته إلى وضعه التجاري خصوصا والتسوية السياسية قد أخذت مجراها وحققت الكثير مما لم يكن متوقعا أكد لي أن السوق سيظل خاويا على عروشه وشاهدا على الدمار الشامل الذي طاله ولا حديث عن عودته مشيراٍ إلى أن اللجان المختصة لم تصل إلى النتيجة تجاه استعادة السوق وتعويض الذين فقدوا مصادر رزقهم لذا تشتت معظم التجار الذين يأسوا وبدأوا يبحثو عن فرص عمل في أسواق أخرى ومعظمهم أصبح بلا فرصة عمل.. وحين سألناه عن حجم خسائر السوق المركزي للخضار يقول: لا أستطيع أن أفتيك في تفاصيل وحجم الخسائر المتفاوتة من تاجر إلى آخر فالحديث في هذا الاتجاه مؤلم لأن توقف الحرب لا تعني توقف الخسائر.. وأكبر خسارة لا تقدر بالمليارات هي دمار سوق وتوقفه وفقدان المئات بل الآلاف من فرص العمل فمعنى هذا أن عداد الخسارة مستمرة بعدد الثواني واللحظات التي كانت هي مساحة العمل وفرص الدخل المعيشي المستمر لمئات الأسر من هذا السوق..
خراب موحش
في استطلاع ميداني أو جولة ميدانية قررت أن أدخل السوق لكني لم استطع تحمل الولوج إلى جوفه الخالي من أي مؤشر للحياة فما أن وجدت نفسي على أبواب السوق المركزي للخضار – من الناحية الجنوبية – إلا صدمني بابه الصافر بالوحشة وكأنه مشهد هوليودي لمداخل متاهات تحكي أشباح الحروب.. صرفت النظر عن دخول السوق وحاولت أن أغالط نفسي بزيارة أخرى.. وكانت الزيارة المؤلمة والموجعة هي زيارتي له بعد سقوط الطائرة الانتنوف وسط السوق الخالي من البشر والتي حاول قائدها البارع الشهيد العميد طيار/ علي صالح عبيد الخواجة بعد إيقانه بدنو لحظة الموت أن يخفف من الضحايا والخسائر فانطلق بطائرته الجريحة ورفاقه التسعة –رحمهم الله- إلى السوق الذي صار فراغه ملجأ للموت بعد أن كان عامراٍ بالحياة.. ومن منطق التفكير بالقدر يتحدث الكثير أن الخير في هجرة الناس من السوق كانت تخفيفاٍ لهول كارثة تفوق الخيال في حال سقطت والسوق بنفس ذلك الزحام الذي كان يشهده قبل 2011م وكأن أقدار الحرب كانت تعده لهذه الحادثة التي أرعبت صنعاء..
قبل الانتهاء من سطور هذا التحقيق حاولت زيارة سوق الحصبة -أيضاٍ- ولكن هذه المرة دخولاٍ من بين سوري وزارة الصناعة وهيئة الأراضي ولم أقطع عشرين متراٍ حتى لاحظت مجموعة كلاب تستبق في الشارع الذي كان مزدحماٍ بالبسطات والمؤدي إلى الفرزة العامة (الحصبة – المطار).. فقرِرت العودة حتى لا أكون ضحية لكلاب ضالة استوطنت دهاليز السوق بعد أن أضحى خراباٍ تسكنه الوحشة..
المؤسف –الذي يزيد من ألمي- أن ذاكرتي عامرة بزحام ذلك السوق فقد كان زحامه قضية تستدعي الكتابة عنه لضرورة لفت انتباه الجهات الأمنية والمرورية إلى مزيد من الحيطة والتنظيم لحفظ أمن هذا السوق وتنظيم الحركة المرورية في شوارعه الرئيسة والشوارع الكبيرة التي كانت تعبر من قرب مشارفه والتي كانت تتأثر بزحامه ومن أهمها شارع جامعة الدول العربية جنوباٍ والشارع الممتد بين جولة الحباري وجولة الساعة وشارع المطار مروراٍ من أمام برج اليمنية وصولاٍ إلى جولة الغرفة التجارية واللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام.. من هذا المنطلق كنت قد نشرت أكثر من تحقيق عن زحام الاسواق ومن أهمها سوق الحصبة وأتذكر أن سيولاٍ من البشر والمركبات كانت تتدفق من وإلى هذا السوق إلى درجة الاختناق.. كان عامراٍ بالحياة والتجارة والأمان.. بسطات صغيرة ومتوسطة وكبيرة ترتص على شوارع السوق وأزقته وتجتاح مساحة الأرصفة وواجهات الجدران.. عربيات ثابتة ومتحركة تملأ السوق وبين زحامها بالكاد تتسلل مركبات(دبابات) صغيرة لنقل البضائع والبشر.. باعة متجولون لا تسكت أصواتهم الحية والمسجلة عبر مكبرات صوت على مدى النهار وأطراف من الليل.. وخلف هذه الحياة تعيش مئات الأسر بمصادر دخل مستدامة ولقمة عيش كريمة..
قصص لا تنتهي
هكذا تتطاير شرور الحروب وتبعاتها إذ لم تكن أضراره محصورة في من خسروا معيل أسرهم أو تحملوا تبعات ونفقات جريح من ذويهم فالضرر أكبر مما يتصوره الناظر بسطحية إلى حرب اشتعلت ولم تطفئها سوى المبادرة الخليجية والتسوية السياسية فالحرب تلتهم كل شيء والسيناريو الأكثر إيلاماٍ أن تجد نفسك بلا مصدر رزق ولا عمل وهنا تتثبت المقولة التي يتداولها الناس “الفقر ابن الحروب والصراعات البشرية”.. وبالتالي فقد خلف دمار سوق الحصبة قصصاٍ موجعة ومؤلمة لا يتسع المجال في هذا التحقيق أو في هذه المساحة لسرد بضع حالاته فما بالك بمئات بل آلاف المتضررين جراء خسارة هذا السوق.. ومن الصعب الوصول إلى القصص الأكثر مأساوية بعد أن غادر معظمها صنعاء.. وهو النزوح الذي برغمه هذا تصادفك الكثير من الحالات وحكاياتها.. فمن ملفات القضاء والمحاماة عرفت عبر محامي الحصبة أن أكثر حالة مأساوية رصدت – على صعيد خسارة باب الرزق – هي امرأة تدعى آمنة العباهي- تعول (5) بنات حالة مأساوية وإنسانية..
قصة معاناتها تتمثل في فقدانها لمصدر الرزق وللسكن أيضاٍ تمتلك بيتاٍ من دورين– البيت يقع أمام السوق- تسكن وبناتها في الدور الثاني فيما الدور الأول كان أربعة محلات تجارية مؤجرة مع تجار وبساطين وكان إيجار هذه المحلات يغطي تكاليف الحياة بالكاد من إعاشة وتعليم للبنات ونفقات أخرى.. البيت بدوريه انتهى بالكامل وحتى الآن لم يلتفت إليها أحد بتاتاٍ فاضطرت إلى النزوح إلى خارج صنعاء إذ لا مأوى لها فيها..
يقول المحامي علوي الشاطر محامي أهالي منطقة الحصبة: كانت- آمنة العباهي- تعتمد في معيشتها على إيجار أربعة دكاكين لإعالة أسرتها وكلما أتذكرها أتألم لأني لم أستطع أن أعمل لها أي شيء أمام تقاعس وخذلان الجهات الرسمية التي تِعدْنا بالتعويضات..
أرقام مخيفة
الناشط الحقوقي محمد فارع الفرق – رئيس النقابة العامة للبساطين والباعة المتجولين والأسواق أكد في بوحه المْوجِعú إن (10) آلاف مستفيد من سوق الحصبة تقريباٍ فقدوا مصالحهم.. منهم(5400) متضرر من التجار والبساطين والعاملين في المحلات التجارية والبسطات بسوق الحصبة العام و(2700) متضرر من التجار والعاملين في سوق المركزي للخضار واللحوم والفواكه ضررهم توزع بين الأرواح حيث استشهد (7) منهم وبين الجرحى حيث جرحى (27) جريحاٍ من تجار وبساطي السوق لم يعالجوا على نفقة الدولة رغم المتابعة المستمرة فيما الضرر الكبير والخسائر لحقت من طالتهم الحرب فاحترقت محلاتهم وبسطاتهم ودمرت منازلهم حتى الآن.. ناهيك عن فقدان كم وفير من فرص العمل متنوعة بين “حْمالة” و”نْفالة” ونقل بالجواري (عربيات صغيرة) وخدمات مختلفة.. مْقِدراٍ حجم الخسائر بــ(4 مليارات و75 مليون ريال).
وقال الغرق : المأساة الحقيقية هي الأضرار التي لحقت بالتجار والبساطين الذين كانوا قد خسر بعضهم كل ما لديه ليؤهل نفسه في الحصبة وما جاورها. مشيراٍ إلى أن (300) أسرة نازحة من تجار وبساطي السوق ولم تنته الخسائر بانتهاء الحرب فكثير من التجار لقوا حتفهم بعد الحرب وهم يحاولون استعادة محالهم التجارية خصوصاٍ في الفترة الفاصلة بين الجولتين الأولى والثانية من حرب الحصبة وأكبر مأساة سجلت هي مقتل ميثاق عبده محمد المخرفي الذي استشهد قنصا إلى داخل محله الكائن في جولة الساعة.. المأساة الثانية مقتل عبد الحميد الوصابي الذي قتل على يد مجموعة ترتدي لباس شرطة النجدة ونهبوا وسلبوا كل ما معه!!
وأضاف : كما أن مسلسل المعاناة مستمر حتى الآن حيث نواجه الآن بكسر أقفال المحلات وتأجيرها.. وأصبح التجار في النيابات التي أصدرت أوامر بإخلاء المحلات التجارية ومن حاول يفتح محله يحيلونه إلى نيابة المخالفات بسبب الإيجارات المطالبين بها خلال فترة الإغلاق بسبب الحرب ناهيك عن فواتير الماء والكهرباء التي رغم وعود الإعفاء من القيادة السياسية وحكومة الوفاق إلا أنها لا زالت تْحسب حتى الآن..

قد يعجبك ايضا