القاضي أكرم أحمد الرقيحي
القضاء وأهميته
القضاء رسالة سامية ومهمة عظيمة وواجب مقدس عهد الحق سبحانه وتعالى به إلى أفضل خلقه وأكرمهم عنده رسله وأنبيائه فأناط بهم إقامة الحق وتحقيق الإنصاف والقسط بين الناس فقال جل شأنه ( يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ..) الآية سورة ص ، كما أمر الله تعالى به خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال عز من قائل (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ.. ) الآية [سورة المائدة] ، ووجه القائمين على القضاء بين الناس بقوله سبحانه ?وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..? الآية سورة النساء ومن المعلوم أن الحكم بالعدل لن يكون عن جهل أو عدم علم ومعرفة كما لا يكون ممن انحرفت نفسه وغاب عن قلبه وفؤاده الخوف والخشية من الله، كما لا يوجد ممن لا يفقه كيفية التقاضي وإجراءات الترافع وقواعد فصل الخصومات إذ فاقد الشيء لا يعطيه ، وإنما يكون العدل أو الحكم بالعدل عن علم ومعرفة واستقامة وورع وخشية وفهم وخبرة ودراية تجتمع في من يتولى القضاء يتمكن بها ومن خلالها من فهم الدعاوى والمنازعات المرفوعة إليه وتكييفها تكييفاً سليماً وتبين وجه الحق فيها ومن ثم إنزال الحكم الشرعي المناسب دونما حيف أو جهل أو انحراف، ليأمن أن يكون من القاضيين الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما في النار والعياذ بالله، ومن ثم نجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن ” كما جاء في الخبر المشهور ” أوضح له المنهج أو الأساس الذي ينبغي أن يلتزمه في فصله للخصومات التي قد تعرض عليه حتى لا يكون حكمه عن جهل أو هوى فقال له بم تقضي ؟ قال بكتاب الله قال إن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو ” إلا أن المنهج أو الأساس قد لا يكون كافياً فالقضاء علم وإجراء ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أرسل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وكرم الله وجهه قاضياً إلى اليمن بين له خصوصية القضاء وأنه يقوم على إجراءات وقواعد خاصة بها يتبين وجه الحق فقال له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ” إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقض حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك وجه القضاء ” ثم دعا له قائلاً اللهم اهد قلبه وثبت لسانه ، وفي ضوء هذا الإرشاد والتعليم النبوي وجه الإمام علي عليه السلام عهده إلى الاشتر النخعي وكتب عمر بن الخطاب رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ، فكانتا نبراسين يستضيء بأنوارها من يؤهلون للقضاء على امتداد التاريخ وهذا يؤكد على ضرورة أن يعد من يؤهلون للقضاء إعداداً خاصاً يتوافق مع جسامة المهمة والأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقهم في فصل الخصومات بالإنصاف وإقامة العدل والحق فيما يعرض بين أيديهم من نزاعات تتعلق بدماء الناس وأموالهم وحقوقهم وفروجهم وأعراضهم .
وإذا كان أعداد وتأهيل القضاة فيما مضى كان يتم عبر حلقات المساجد وزوايا الأربطة وعلى أيدي العلماء والمدارس العلمية فإن الواقع الآن قد تغير ومن ثم دعت الحاجة إلى ضرورة البحث عن وسيلة اخرى يتم بها وفيها إعداد وتأهيل من سيتولون مهمة القضاء فكان التوجه إلى إنشاء المراكز والمعاهد القضائية التي تُعنى بتأهيل القضاة وبناء عقولهم ومعارفهم وصقل خبراتهم ومداركهم وتدريب مهاراتهم فكان إنشاء المعهد العالي للقضاء في اليمن في مستهل ثمانينات القرن الماضي وتحديدأً عام 1980م فصدر القانون رقم (16) لسنة 1980م بإنشاء المعهد العالي للقضاء وعليه أصبح المعهد هو المنشأة المختصة دون غيرها بإعداد وتأهيل القضاة ومنذ ذلك التاريخ اضطلع المعهد بدوره إلى حد ما ـ وفي عام 2008م صدر القانون الجديد رقم (34) لسنة 2008م بشأن المعهد العالي للقضاء تم فيه إجراء تعديلات وتحديثات للقانون السابق ونص القانون الجديد على أن من أولوياته وأهدافه :
إعداد وتأهيل وتدريب الملتحقين بالمعهد تأهيلاً قضائياً علمياً وعملياً .
التأهيل المستمر لأعضاء السلطة القضائية أثناء الخدمة .
تأهيل وتدريب أعوان القضاء
الاسهام في نشر الثقافة وتعميق الفهم الشرعي والقانوني
إجراء الدراسات والأبحاث العلمية النظرية والميدانية الهادفة إلى تطوير القضاء .
وفي ظل ذلك القانون أقرت العديد من اللوائح والأنظمة الداخلية للمعهد والخاصة بنظام القبول في المعهد وإجراءاته ونظام الدراسة والحضور والسلوك والاختبارات والبحوث وغيرها من اللوائح .
التأهيل
يقصد بالتأهيل التعليم والتفهيم والتثقيف والتدريب والتمرين ، والتهيئة ، وإذا كان التأهيل في حد ذاته يشكل صعوبة في أي مجال من المجالات فإنه يغدو أكثر صعوبة وأشد مشقة وإرهاقاً وحساسية وخطورة حينما يكون المستهدف بالتأهيل من سيعتلون أو يعتلون منصة الحكم والقضاء ، ذلك أن القاضي هو الملاذ أو المرجع الذي سيؤوب إليه الناس عند احتدام منازعاتهم وخصوماتهم في أعز ما يملكونه أو يختصون به من دماء وأموال وأعراض، ومن ثم سيبذل كل طرف منهم قصارى جهده في إظهار أنه المحق وأن خصمه هو المبطل، وسيشتد في خصومته ولدده وسيأتي بما يستطيع من الأدلة والبراهين على صدق دعواه سواء أكان محقاً فيها أم مبطلاً، وحينها لن تكون مهمة القاضي سهلة أبداً ، ولا شك أن مهمة من سيقوم بتأهيل هذا القاضي ستكون أصعب وأصعب ، لأنه يحتاج إلى أن يؤهل القاضي للفصل في مختلف النزاعات الجنائية والمدنية والتجارية والشخصية والإدارية وبين مختلف الأطراف أكانوا أفراداً أم جماعات أم شركات بل حتى بين الدول فيما قد ينشأ بينها من نزاعات ولذا فإن مهمة تأهيل القضاة تحتاج إلى الكثير والكثير من الجهود والإمكانيات والعلوم والمعارف والخبرات والمهارات والأساليب والوسائل كما تختلف طبيعة أو منهجية التأهيل في المعهد باختلاف الفئة المقصودة بالتأهيل ويمكن تقسيم تلك الفئات إلى ثلاث مجموعات :
مجموعة الملتحقين بالدراسة في المعهد ،وتعني الدارسين أو الطلاب الجدد الذين يتم إلحاقهم بالمعهد
مجموعة أعضاء السلطة القضائية أثناء الخدمة، وتعني القضاة وأعضاء النيابة العاملين في المحاكم والنيابات
مجموعة أعوان القضاة، وتعني مساعدي القضاة من الكتبة والمحضرين وأمناء السر والموثقين والأمناء الشرعيين ومأموري الضبط القضائي والمحامين وغيرهم .
ولكون الموضوع هو عن دور المعهد في تأهيل القضاة فسنقتصر على بيان تأهيل المجموعتين الأولى والثانية فقط .
أولاً: الملتحقون بالدراسة في المعهد:
الدراسة في المعهد دراسة تخصصية عليا فهي تخصصية لأنها دراسة متعمقة في موضوعات شرعية وقانونية وتعتبر دراسة عليا لأنها دراسة أكاديمية تأتي كمرحلة لاحقة على الدراسة الجامعية ومن ثم تخضع الدراسة في المعهد لضوابط ومعايير وأنظمة أكاديمية خاصة ، بداية بالقبول وشروطه وإجراءاته ومروراً بنظام الدراسة ومدتها ومنهج التأهيل والمقررات والمواد والمناهج الدراسية والمدرسين ونظام الامتحانات والبحوث والتطبيق والتدريب العملي والميداني والامتيازات الممنوحة للدارسين وانتهاء بالتخرج والدرجة العلمية الممنوحة .
القبول
لست بصدد التعرض لمسألة جواز طلب القضاء ، فمن المعلوم أن جماهير العلماء قد أجمعوا على عدم جواز طلب القضاء تبعاً للأدلة الواردة في ذلك ومن ثم سأقتصر على بيان الواقع ، فالقبول في المعهد قاصر على حملة الشهادة الجامعية أي على من حصل على الشهادة الأساسية ثم الثانوية ثم الجامعية وليس كل شهادة جامعية يتم قبول حاملها للالتحاق بالمعهد إذ لا بد أن تكون الشهادة الجامعية في العلوم الشرعية والقانونية معاً ، فمثلاً الشهادات الجامعية الصادرة من كليات التربية أو الطب أو الهندسة أو غيرها من المجالات لا يتم قبولها في المعهد، بل إن الشهادات الصادرة من الجامعات أو الكليات الشرعية فقط أو القانونية فقط غير مقبولة ، إذ لا بد أن تكون الشهادة في العلوم الشرعية والقانونية معاً ، والجدير بالذكر أن القبول في المعهد كان يقتصر على المتخرجين من الجامعات الحكومية فقط دون الجامعات الخاصة إلا أنه بعد صدور القانون الجديد تم قبول المتخرجين من الجامعات الخاصة أيضاً فأثر ذلك إلى حد ما في كفاءة المتخرجين من المعهد .
شروط القبول
ينبغي أن تتوفر في المتقدم للالتحاق بالمعهد شروط خاصة لعل من أهمها أن يكون المتقدم حاصلاً على الشهادة الجامعية من كلية معترف بها في مجال الشريعة الإسلامية والقانون أو الحقوق على أن تكون الشريعة الإسلامية مادة أساسية فيها وأن لا يقل التقدير عن جيد جداً ويجوز عند الضرورة إنقاص تقدير القبول في المعهد إلى جيد بقرار يصدر من مجلس القضاء الأعلى كما يشترط في المتقدم أن يكون يمنياً حسن السيرة والسلوك لم يصدر بحقه حكم قضائي مخل بالشرف أو الأمانة وغيرها من الشروط الأخرى .
إجراءات القبول
ينبغي أن يجتاز المتقدم للدراسة بالمعهد إجراءات ومراحل القبول بنجاح وتتمثل إجراءات أو مراحل القبول إضافة إلى الفحص الطبي للتأكد من خلو المتقدم من الأمراض المعيقة عن العمل القضائي وكذا فحص الحالة الجنائية بامتحانات القبول فيخضع المتقدم لامتحانات تحريرية وشفوية في المواد التي يتم تحديدها وعند نجاحه في الامتحانات التحريرية والشفوية يتم عقد مقابلة شخصية أمام مجلس المعهد لكل متقدم على انفراد ومن ثم يصدر القرار بقبول العدد المحدد وفق قرار مجلس القضاء الأعلى والإمكانيات والطاقة الاستيعابية للمعهد ويعتبر قرار قبول المتقدمين قراراً بتعيينهم في الوظيفة الإدارية العامة وإلحاقهم بالدراسة في المعهد ، وتجدر الإشارة إلى أنه كان في ظل القانون السابق للمعهد يتم منح الدرجة القضائية للمقبولين فور التحاقهم بالدراسة بالمعهد إلا أن بعضهم كان يتعثر في دراسته أو يرسب فيتم إحالته للعمل الإداري بدرجته القضائية أما في ظل قانون المعهد الحالي لا يتم منح الدرجة القضائية للمقبولين إلا بعد تخرجهم وإنهاء دراستهم في المعهد ، ومن رسب منهم يتم إحالته للعمل الإداري وفي اعتقادي أنه ينبغي أن تتضمن إجراءات القبول آلية محددة للبحث عن سلوك المتقدمين والتحري عن سيرتهم وسمعتهم وبيئاتهم التي نشأوا وتربوا فيها لما لذلك من دور كبير في حسن الاختيار من بين المتقدمين فالبيئة أو المحيط كما يقول المتخصصون لها أثر كبير في تكوين شخصية الفرد وتحديد صفاته وسلوكه وقد جاء في الحديث .. كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .
نظام الدراسة
الدراسة في المعهد إلزامية بمعنى أنه يتوجب على الدارسين حضور جميع المحاضرات النظرية والعلمية ومن تغيب منهم بنسبة تتجاوز 30 % بعذر أو 15 % بدون عذر فإنه يحرم من دخول الامتحانات ، وتتحدد مدة الدراسة بالمعهد بثلاث سنوات يتم فيها إعداد الطلاب والدارسين عبر التأهيل النظري والتأهيل التطبيقي والعملي على النحو الآتي :
التأهيل النظري
يتم التأهيل النظري عبر المحاضرات والدروس النظرية التي يلقيها الأساتذة والعلماء والقضاة على الدارسين في العلوم والمعارف الشرعية والقانونية وتماشياً مع متطلبات الدراسة الأكاديمية ورغبة في انتظام وانضباط الدراسة وعدم اختلاطها أو تدخلها فقد تم توزيع مواد الدراسة على السنوات الثلاث وفقاً لما يلي :
السنة الأولى – مواد الشريعة الإسلامية
فيتم تخصيص الدراسة والتأهيل في السنة الأولى في مواد وموضوعات متعمقة في الشريعة الإسلامية كالقرآن الكريم وأحكام التجويد وآيات الأحكام وأحاديث الأحكام وأصول الفقه والأحوال الشخصية والمواريث الشرعية والمعاملات الشرعية واللغة العربية (النحو) .
وهذه مواد أساسية إضافة إلى مواد وموضوعات أخرى يتم تدريسها كمتطلبات أو مواد ثقافية كتاريخ القضاء في الإسلام ومدونة السلوك القضائي ومناهج البحث العلمي وغيرها وتجدر الإشارة إلى أنه بالنسبة للقرآن الكريم لا يتم إلزام الدارسين بحفظه أو حفظ أجزاء منه وذلك تقصير ينبغي تلافيه بأن يلزم الدارسون بحفظ القرآن أو حفظ أجزاء معينة منه.
السنة الثانية – مواد القانون العام
وفي هذه المرحلة يتم تأهيل الطلاب والدارسين في مواد وموضوعات متعمقة في القانون العام ـ قانون العقوبات، وقانون الإجراءات الجزائية، والقانون الإداري، والقانون الدستوري ، والإدارة القضائية، واللغة العربية (النحو)، وهذه مواد أساسية قد يضاف إليها مواد متطلبة أو ثقافية بحسب الاحتياج كالطب الشرعي وغيره .
السنة الثالثة – مواد القانون الخاص
في هذه السنة يتم تأهيل الدارسين في موضوعات القانون الخاص والقانون المدني وقانون الإثبات وقانون المرافعات المدنية وقانون التنفيذ والقانون التجاري والقانون الدولي الخاص وقواعد إصدار وصياغة وتسبيب الأحكام واللغة العربية (نحو-صرف) ، إلى جانب هذه المواد الأساسية هناك مواد متطلبة أو ثقافية مثل علم المنطق القضائي وعلم النفس القضائي وغيرها.
ومن المعلوم أن أغلب القوانين في اليمن هي قوانين مستمدة ومقننة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية باستثناء بعض المواد أو القوانين التي ينبغي إعادة تقنينها بما يوافق أحكام الشريعة الإسلامية وللعلم أنه يتم اعتماد موضوعات ومقررات المناهج الدراسية للسنوات الثلاث من قبل المجلس العلمي للمعهد وتقرر من مجلس المعهد وتعتمد من مجلس القضاء الأعلى في بداية كل عام دراسي .