حسن سعيد الدبعي
يقول الله سبحانه وتعالى “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ” صدق الله العظيم.
هل صحيح أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ؟.. وهل صحيح أن انتصار الرأسمالية كما يؤكد المفكر الأمريكي فوجوياما الذي ينتمي إلى أصول يابانية قد حسم الصراع إلى الأبد؟ في رأيي المتواضع أن هذا التبسيط الذي تروج له أجهزة الإعلام الغربية لا يجب أن ينظر إليه بجدية إلا إذا رافقه تغير نوعي وجذري على المستوى الثقافي يذكرنا على الأقل بما حدث في العقد الثالث من القرن العشرين.. لماذا اخترت هذا التاريخ بالذات؟ السبب هو أن ما حدث في هذا التاريخ على وجه التحديد كان خارقاً وفق جميع المعايير، ويحسن بنا نجن العرب الذين يشهدون زلزال الثمانينيات والتسعينيات على المستوى الأيديولوجي الذي يشمل السياسي والاقتصاد معاً أن نلاحظ أنه ليس ثمة من تغيير جذري على الصعيد الثقافي يوازي ما يحدث على الصعيد الأيديولوجي أو حتى يقترب منه كما هو الشأن عشية أفوال الحرب العالمية الثانية التي تمثل ما يشبه القطيعة المعرفية مع الماضي.. تعالوا نراقب المشهد معاً..
في العقد الثالث من القرن العشرين انهارت السمة الارستقراطية للمجتمع الأوروبي فجأة وقبل أن تنتهي الحرب تماماً بدأت الحركات الأدبية والفنية بالظهور كالمستقبلية في إيطاليا التي جعلت الآلة إلهاً تسجد له كما كان الزراد شيتون يعبدون النار.. ومع صمود واستقرار الثورة البلشفية الذي رافقه انهيار امبراطوريات أوروبا الوسطى، ظهرت التعبيرية الألمانية وأعلن الدادايئون في زيوريخ عن حركتهم ووصلت الثورة حدودها القصوى مع كتاب “ الثورة السوريالية” للشاعر الفرنسي بريتون، وفي مجال الرسم برزت التكعيبية والوحشية في باريس واشتهر بيكاسو وبراك.
وفي ألمانيا ظهر بول كلي وكذلك كاندينسكي الروسي الذي كتب في مطلع العشرينات “ الفن لا يعكس المرئي بل يقدم رؤيا” كما تألق ربلكه ولمع كافكا.. إلا أن برلين هي التي أصبحت عاصمة أوروبا الجمالية ذات الطابع العالمي في العشرينات وفي روسيا الثورية التي لم يكن ستالين قد باع روحها إلى الشيطان بعد صنع إيزتشتاين فيلمه الشهير “ المدرعة بوتمكين”.
وفي ميونخ المدينة الألمانية الثانية بعد برلين كتب توماس مان رائعته “ الجبل السحري” في وقت تزامن مع ظهور مكسيم غوركي في الأدب وسترافيسكي في الموسيقى، أما إيطاليا فقد أفرزت الفاشية فيها الروائي لويجي بيراند وبتدتو كروتشه الفيلسوف وعالم الجمال.
وفي الثلاثينيات تسلم هتلر السلطة وقام رجال الصاعقة النازيون بإحراق الكتب.. إلا أن الموسيقي ريتشاد شتراوس مؤلف كتاب “ هكذا تكلم زرادشت” والفيلسوف الوجودي مارتن هيدغر الذي استمد منه سارتر كتابه “ الوجود والعدم” كانا في رافعي الأعلام النازية السوداء وفي عام 1992 نشر الأرلندي جويس روايته الشهيرة “يوليسيس” وبرز جورج أورويل البريطاني وهمينغواى الأمريكي.. فأين هم أعلام القطيعة المعرفية والجمالية والتي يفترض أن نشهدها في مرحلة البيروسترويكا أو مرحلة نهاية التاريخ كما يدعوها فوجوياما؟..
أغلب الظن أن هذا الانقلاب الأيديولوجي ليس له ما يوازيه بعد على الصعيدين الأدبي والفني فهو ما يزال أشبه بالحمل الكاذب في عالم البورصة المعصوبة العينين.. فبعد أن أصبحت الحداثية أو “الموديرنيزم” قديمة وظهرت “ ما بعد الحداثة” كما يدعوها إيهاب حسن الناقد الأمريكي والمصري الأصل، وازدهرت المدارس النقدية لمرحلة ما بعد البنيوية لم يظهر إبداع حقيقي مغاير، على المستوى الجمالي بل إن التعددية السياسية التي تتفتح أزهارها في حدائق العالم في هذه الأيام أصبحت تحتضن باسم الديمقراطية او التظاهر بها على الأقل مدارس تتعايش وتتمايز أكثر مما تتصارع ولمحو إحداهما الأخرى.. فهل هذه نهاية التاريخ حقاً..؟ وهل للمتفرجين العرب رأي فيما يجري على مسرح الدمى؟ وهل لديهم رأي يتجاوز المستوى السياسي التكتيكي؟ سؤال يفترض ان يستحق بعض التأمل ونحن نتجاوز العقد الثاني من القرن الواحد والشعرين.. أم سيظل المثقفون العرب على سجيتهم “ صم بكم عمي فهم لا يعقلون”.