بلقيس علي السلطان
كانت البشرية تسبح في بحر من الظلمات تتلاطم بين أمواج الجهل ، وتعصف بها زوابع الظلال وتغوص في لجة من الشرك والوثنية الطاغية ، كل ذلك كان يتطلب سفينة نجاة لتنقذ من يمكن إنقاذه من بحر الظلمات ممن يأمل بالرشاد والبعد عن الغي ممن اُستضعف وبات يتمنى القوة والمنعة ممن ذَل وأصبح ينتظر العزة والكرامة ؛ لكن هذه السفينة تتطلب ربانًا ماهراً لا تعيقه صخور الطغاة والمشركين ، وعواصف الجهلة والمرجفين ، وهذا ماحدث بطلوع شمس النور المحمدي والرحمة المهداة في يوم
الإثنين الـ12 من ربيع الأول ، بل الربيع المحمدي الذي أضاء الكون بمولده وفرحت السماء بقدومه وتعلقت القلوب بحبه صلوات ربي عليه وعلى آله الأطهار .
جاء مولد الرسول الأعظم في وقت حالك الظلمة من الجهل والشرك وعبادة الأوثان وانتشار الفتن وصور لا تحصى من الانحلال والتفسخ الأخلاقي والقيمي ، فإذا خافوا الفقر والعار وأدوا البنات ، وإذا أرادوا التقرب إلى الله لجأوا لأصنامهم وأوثانهم ومن فاض عليه التمر صنع به ربا في أول النهار وأشبع به بطنه في آخره !
وإذا أرادوا اللهو والعبث أتوا في ناديهم المنكر والفحشاء ، وإذا أرادوا عرض عضلاتهم أستقووا على الضعيف وأوقدوا حروباً هوجاء سببها هزيل ويدعون إلى السخرية كحرب داحس والغبراء وحرب البسوس التي دامت أربعين عاما .
كل تلك الصور وغيرها كان لا بد لها من ثورة كبيرة تعيد مسار الحق إلى نصابه الصحيح فتنتقل بالبشرية من الظلم إلى العدل ومن الغي إلى الرشد ومن الضلال إلى الهدى ومن قتل الأولاد غشية الإملاق إلى الإيمان بأن من خلق الأولاد والآباء لن يضيعهم أبدا ، وبأن الحروب يجب أن تكون لها غاية سامية تتمثل في جهاد الكفار من أجل إظهار الحق ودرأ الباطل .
عندما تم ميقات الاصطفاء جاء الأمر بالإنقاذ للبشرية من التيه وإخراجها إلى الطريق المستقيم ، وبالإيذان ببداية الرسالة الأبدية والرحمة العالمية والتي تمثلت في خيرة شباب مكة أخلاقاً وشجاعة وحكمة وعلما وخيرها أمانةً وصدقاً وحياءً وعدلاً ، جميعها تمثلت في محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين والرحمة المهداة للعالمين .
لقد استحقت الرسالة المحمدية أن تمنح صفة العالمية بجدارة واقتدار ؛ لما تحويه في طياتها من منهج قويم ومبادئ سامية تمثل خارطة الطريق لمن يبتغي العزة والمنعة والتي أساسها التمسك بكتاب الله وبرسوله الكريم وبالعترة الطاهرة من بعده ، ولذلك جاءت المحاولات العديدة وبشتى الوسائل من أعداء الإسلام لإبعاد الناس عنهما وخرق سفينة النجاة لإغراق البشرية مجدداً في ظلمات الجهل والبغي والظلال ، وهذا ما يجب على البشرية جمعاء الإحاطة بعلمه وبضرورة الرجوع إلى مصادر الهداية والرشاد المتمثلة في القرآن الكريم والرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعرفة أن إحياء ذكرى مولده يمثل محطة إيمانية نتذكر من خلالها مراحل الدعوة المحمدية وأهميتها وغيايتها التي جاءت لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومعرفة تلك الظلمات التي أخرجنا منها لكي لا نعود إليها ومعرفة الأعمال التي تمكننا من الابتعاد عنها وكذلك أخذ الأسوة الحسنة من الخلق المحمدي الذي عظمه الله بقوله :{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم } والذي كان من ضمنه جهاده وإحسانه ورأفته ورحمته وحرصه على المؤمنين .
سنحتفل بذكرى مولد الرسول الأعظم بالاقتداء بإحسانه ونحسن إلى الفقراء والمساكين ، سنقتدي برحمته ونكون رحماء بيننا ، سنقتدي بجهاده ونسطر البطولات والانتصارات ضد الطغاة والمستكبرين ، وسنرسل برسالة للعالم أجمع فحواها بأن محمداً ما زال حيا بيننا ونصرخ له ملبين بلبيك يا رسول الله لبيك يا رسول الله لبيك يا رسول الله .