الصـالة الكبرى.. 3 أعـوام علـى المذبحـة … فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا

 

الذكرى الثالثة لمجزرة الصالة الكبرى .. ذكرى فاجعة الموت
جرحى المجزرة يصفون يوم الفاجعة ولحظات استهدافهم بصواريخ العدوان
تحل علينا اليوم الذكرى الثالثة لمجزرة الصالة الكبرى التي ارتكبها العدوان السعودي الأمريكي يوم الثامن من أكتوبر 2016م، بصواريخ طائراته مستهدفا عزاء آل الرويشان
التأكيد على حق الضحـايا فــي تطبيق نصوص القانون الدولـــي الإنســـاني ومعاقبــة كل شخص سـاهــم فــي ارتكـــاب هذه الجريمة
تلك الفاجعة الكبيرة التي حلت باليمن واليمنيين لم تمح من ذاكرة الجميع، وستظل تلك المشاهد المؤلمة والتي تدمي القلوب حاضرة وشاهدة على قبح الفعل ووحشية الفاعل
أكثر من 700 شهيد وجريح كانت حصيلة تلك المجزرة التي اعترف بتنفيذها العدو على استحياء ناقلا الثقل إلى حكومة المرتزقة وهيئة أركانها

الثورة 

في الثامن من أكتوبر عام 2016، بين الثالثة والرابعة عصراً بتوقيت العاصمة الصامدة المقاومة صنعاء، وبينما كانت القاعة الكبرى تكتظ بالآلاف من المُعزين، الذين حضروا لتقديم واجب العزاء بوفاة والد الأخ اللواء جلال الرويشان ، شنت طائرات تحالف العدوان غارتين متتابعتين على الصالة المكتظة بالناس كبارا وصغارا ، متسببة في استشهاد وجرح أكثر من 700 شخص ممن حضروا العزاء ، اليوم تمر الذكرى الثالثة للمجزرة ، ما تزال الدماء طرية ، صور الشهداء لا تزال معلقة على جدران العاصمة وشوارعها ، مشاهد الجثث المتفحمة والأشلاء المتناثرة ما تزال ماثلة في أذهان أسر الضحايا وذويهم وكل يمني ينتمي لهذه الأرض ولأهلها الطيبين.
في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2016 كانت الصالة الكبرى مكانا لتجمع آلاف اليمنيين، بينهم قيادات ومسؤولون ومشائخ قبائل ومدنيون وعسكريون، حضروا لتقديم العزاء في وفاة الشيخ علي الرويشان ، المناسبة إنسانية اجتماعية لم يكن هناك توقع باستهدافها من قبل تحالف العدوان السعودي الأمريكي ، إذ كان العزاء معلناً ووجهت إليه دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي ، بين الثالثة والرابعة عصراً بتوقيت صنعاء، هو «وقت الذروة»، كما هو معتاد في مجالس العزاء والمناسبات الاجتماعية المختلفة في اليمن ، وبينما كانت الصالة الكبرى تكتظ بالمئات إلى الآلاف من المُعزين، فوجئ الحاضرون ومعهم سكان المناطق القريبة، بسقوط صاروخ أطلقته طائرة حربية تابعة لتحالف العدوان السعودي الأمريكي ، في حدود الثالثة عصراً وعشرين دقيقة، قتل من قتل وجرح من جرح ونجا من نجا ، وبعد نحو سبع دقائق جاء الصاروخ الآخر، مستهدفاً المسعفين والجرحى والعالقين بين الركام، مخلفاً مشهداً دامياً من القتلى والأشلاء والجرحى والحرائق.
اليوم بعد مرور ثلاثة أعوام من الجريمة ورغم اعتراف تحالف العدوان بارتكابها ، ما يزال العالم متواطئا يغض الطرف عن جرائم السعودية وحلفائها المعتدين على اليمن ، فيما يستذكر اليمنيون مشاهد أكبر مجازر العصر ، ويعدون الأيام للثأر من المجرمين وثأر اليمني ما يبات كما يقال في المثل.

“الثورة” وفي الذكرى الثالثة لمجزرة الصالة الكبرى استطلعت آراء عدداً من الجرحى، ليستعيدوا لنا تلك المشاهد واللحظات التي عاشوها بين النيران ووسط الركام والأشلاء المتناثرة.. إلى التفاصيل:

الثورة / : محمد الفائق

اشتعال النيران

البداية مع الشيخ عبدالناصر شايف الرعيني أحد جرحى مجزرة الصالة الكبرى حيث يقول : ذلك اليوم الذي لن ننساه ماحيينا وهو يوم السبت 8-10-2016م، حينها كنت مستلماً في عملي وذهبت أنا ومجموعة من الزملاء لمواساة آل الرويشان عزائهم وكنت أنا والعميد/ أمين الجائفي والعقيد/ محمد سريع وصلنا إلى باب الصالة والتقينا باللواء/ عبدالله الجريزع والعميد/ عبدالفتاح الديلمي ودخلنا سوياً سلمنا على اصحاب العزاء وجلسنا في مكان واحد خلف المستقبلين استمرينا حدود نصف ساعة واتفقنا بالخروج لنكمل المقيل خارج.
واضاف: “حينها وصل اللواء عبدالرزاق المروني ومعه عدد كثير من المرافقين انتشروا داخل الصالة وكان في الجهة المقابلة لنا بعدها وقفت أنا واللواء الجائفي واللواء الجريزع واللواء محمد الحاوري والعقيد سريع ونحن واقفون في طريقنا للخروج تفاجأنا بسقوط الصاروخ الأول، وأنا على بعد 10 أو 15 متراً شعرت بحر النار في جسدي وتحت أقدامي ووشيش في آذاني حتى انفجرت طبلة الأذن، ولم أر الا الظلام الدامس والدخان القاتل واشتعال بعض النيران”.
وتابع الشيخ الرعيني قائلاً: “حاولت الخروج جاهداً وتوقعت أن يعاود العدوان القصف على الصالة، لم أستطع الخروج لتراكم الجثث والمساند و”الطوب” متطايرة أمامي واشتعال النار والظلام الدامس الذي لم أستطع أن أرى شيئاً إلا ضوء قليل من أمام باب الدخول وفتحة الصاروخ في أرض الصالة كوني اقتربت منها مع ضغط الانفجار، عزمت على الخروج من بوابة الدخول فكانت الأرض مليئة بالجثث وتراكم فراش الصالة والبلك “الطوب” بعد شق الأنفس وصلت إلى البوابة وخرجت بعد أن أخرجوا اللواء جلال الرويشان لازدحامنا في بوابة الدخول البعض يريد الدخول لإنقاذ ذويهم، ونحن نريد الخروج وبعد أن خرجت من الصالة سقط الصاروخ الثاني انبطحنا من قوة الضغط وقوة سقوط جدار الصالة، قلت: يا الله احفظ من تبقى داخل الصالة بعدها كان الدخان فوق الصالة كثيفاً جدا حجب عنا أشعة الشمس، استطعت أن أخرج إلى الشارع الرئيسي المقابل للصالة وحالتي يرثى لها، وثيابي ممزقة، سألني أحد الواقفين خارج الصالة سلامات أنت بخير قلت الحمد لله وثيابي مقطعة وعليها دم ودخان وتراب وحروق في أيديَّ وقدماي ورأسي، سألته كم الساعة؟! قال الثلاثة والنصف أخذت تلفونه واتصلت بوالدي اطمئن عليه لأنه أبلغني أنه سيحضر واجب العزاء في الصالة، رد على اتصالي وسألته أين هو؟! قال انه في الطريق متوجه إلى صالة العزاء، اخبرته بما حدث في الصالة وطلبت منه الرجوع ، حينها شعر والدي انه أصابني مكروه فطلب مني الانتظار وسيأتي ليأخذني.
أخبرته أن أحد الخيرين قام بإسعافي ونحن في الطريق إلى المستشفى ومشينا من ميدان السبعين بسيارة ذلك فاعل الخير، وشاهدت حينها سيارات الاسعاف من كل شارع واعداد كبيرة تتجه نحو الصالة الكبرى، كنت أفكر حينها في من تبقى داخل الصالة ومن ذهبت معهم سلّم الله عليهم وجرحنا جميعاً جروح طفيفة وبعضها بليغة ماعدا الشهيد صادق عبدالله الجريزع رحمه الله.
ووصلت إلى مستشفى الثورة وكنت أول جريح يصل إلى هناك، ووصلت الجثث والجرحى من بعدي، ووصل والدي إلى المستشفى، وكان المستشفى في حالة إرباك لم يستطع أن يعمل لنا شيئاً أخذني والدي وإخواني إلى مستشفى الشرطة ، وهناك تم معالجة جروحي والحروق التي أصبت بها.
واعتبر الشيخ الرعيني هذه الجريمة أنها من أبشع الجرائم على مر التاريخ، مؤكدا أن آل سعود ومن معهم في تحالف الشيطان لن يجنوا سوى الخزي والعار ولا بد أن نأخذ بثارنا مهما تقادمت السنين.
أطباء بلا رحمة
ماجد المظفر أحد جرحى الصالة الكبرى يقول أيضا: خرجت من البيت يوم السبت 8 أكتوبر 2016م، وذهبت أنا وأصحابي كنا سبعة أشخاص لتقديم العزاء وصلنا باب الصالة الكبرى وكانت مكتظة بالناس والسيارات تملأ الشوارع والمواقف المحيطة بالصالة، دخلنا وقمنا بواجبنا وجلسنا في أحد مجالس الصالة وبدأنا نتناول القات وكنت وسط الصالة، حينها سمعت صوت صاروخ نهضت من مكاني، وقلت: صاروخ، ما هي إلا ثانية واحدة فقط ولم أشعر بنفسي إلا وأناساً في الأرض، بلا حراك، بالكاد فتحت عيوني وشاهدت الناس يدخلون إلى الصالة وأنا يخرجون والصالة ظلام وشاهدت شخصاً وقد قطع جسده إلى نصفين ، نهضت من جديد وبصعوبة جدا وتفاجأت أنني عند البوابة الرئيسية لقد قذف بي صاروخ طائرة آل سعود إلى بوابة الصالة، خرجت بصعوبة أيضا نتيجة الازدحام ولم يتبق من ملابسي سوى الفانلة الداخلية والشورت والعسيب “الجنبية” فقط، الكوت والثوب والشال لم أدر ما حل بهم.
توقعت أن يأتي الصاروخ الثاني فأسرعت بالخروج إلى الشارع الرئيسي واخذت سيارة وطلبت منه سرعة الاسعاف إلى مستشفى الدكتور يحيى الموشكي.
المفاجأة أنني وجدت بعض الأطباء والممرضين فاقدين للرحمة والإنسانية، فأحدهم طلب مني فلوساً من أجل إعطائي الإسعافات العاجلة، وهو يشاهدني لم يتبق من ملابسي سوى ملابسي الداخلية.


عموما لن ندخل في تلك التفاصيل، حينها اتصل والدي يطمئن إلّي وقلت له أنا لم أذهب إلى الصالة الكبرى، حتى لا أفجعه.
الجثث بدأت بالوصول امتلأ المستشفى والدرج وكل مكان بالجرحى والجثث، لم اتمالك نفسي من مشاعر الغضب تجاهي حيث لم نحصل على شيء من الإسعافات فاضطريت للخروج وأخذت مرة أخرى سيارة أجرة وطلبت منه أخذي إلى المستشفى الألماني بجولة المصباحي، وكنت بدأت أفقد الوعي وطلبت من السائق أن يتصل بأحد الأرقام الظاهرة في تلفوني الذي علق في العسيب “الجنبية”، بعدها تم إدخالي المستشفى وجاء أصدقائي ثم والدي الذي شاهدني وأغمي عليه نتيجة الحروق التي غطت جسدي.
وتم نقلي إلى المستشفى الجمهوري إلى قسم الحروق، وهناك تم إعطائي كل العلاجات الخاصة بالحروق.
وفي الذكرى الثالثة لهذه المجزرة، أتوجه بالشكر والتقدير والثناء لكل من وقف بجانبي وساندوني في هذه المحنة الصعيبة ولن أنسى لهم هذا الجميل أبداً.
الطفل الجريح
قصة أخرى من أحد أقارب، آل الرويشان وهو الطفل مازن شايف القانصي، الذي يحكي لنا قصته يوم المجزرة الكبرى، حيث يقول: “ها نحن في الذكرى الثالثة سنقف في نفس المكان متحدين شامخين رافعين رؤوسنا”.
وأضاف: ” قصتي المختصرة التي كتبتها عن اليوم المشؤوم يوم قصف الصالة الكبرى التي كنت متواجداً فيها أثناء عزاء، جدي المرحوم /علي بن علي الرويشان:
وتابع مازن قصته من البداية قائلاً: مات جدي علي .. يا للهول .. كنت أعتقد أن هذا الرجل لن يموت .. بطوله الفارع وعصاته الخيزران يمر من أمامنا فنتوقف عن اللعب وكأنه قائد عسكري يمر من أمام جنوده .. يلتفت إليَّ مبتسماً ويقول وهو مستمر في السير :
• والله وانعم يا مازن .
رفض أبي أن يأخذني معه إلى قاعة العزاء .. قال إنني صغير والقاعة ستكون مزدحمة..
لست طفلاً .. سأذهب مع خالي أمين إن لم تأخذن معك .. قلت له ذلك وأنا أتراجع إلى الخلف خائفاً من ردة فعله على إصراري .. فوافق .. وصلنا إلى القاعة وهي ممتلئة عن آخرها .. أناس يدخلون وأناس يخرجون .. والقليل فقط يجدون أماكن للجلوس .. حرصت على أن أبقى بالقرب من خالي أمين .. أبي هناك بالقرب من بوابة القاعة أمام صف المستقبلين .. وفجأة صم آذاننا انفجار قوي ودفعتنا قوة ضغط هائلة وشاهدت كتلة كبيرة من النار واللهب وقطعاً كبيرة من الحديد والأخشاب والطوب تتطاير وصراخ وصيحات وأنين من كل اتجاه .. انتشر دخان أسود كثيف فلم أعد أميز ما حولي .. صرخت مرعوباً :
• يا خال أمين ..
وكأن صرختي ذهبت أدراج الرياح بين هذا الركام الأسود من الدخان والنار .. أحسست بمن يمسكني من وسطي ويجري بي .. تعثرنا وسقطنا معاً على أجساد تئن وأجساد لم يعد بها حراك .. قمنا من جديد أنا ومن يمسك بي ورأيت بصيصاً من الضوء يسير منقذي نحوه .. هوة كبيرة نحو الأرض .. لم يتردد .. أمسك بي وسقطنا معاً فوق قطع من الركام .. أصبت بخدوش .. وصاح بي :
• انهض انهض بسرعة .
عرفت حينها شخصية منقذي .. إنه خالي أمين .. أمسك بيدي وجرني خلفه مسرعاً نحو البوابة الخارجية للقاعة .. وقبل عبورنا البوابة بعد الضربة الأولى
قال لي خالي أمين: انتظرني هنا أو أذهب بعيداً عن محيط الصالة
فقلت لخالي أمين سوف أدخل معك إلى الصالة لكي أبحث عن والدي فوالدي لا زال بالداخل
ونهرني خالي أمين ولوّح لي بيده أبقى هنا وأنا سوف أبحث عن والدك كما أني سأذهب لإسعاف الجرحى الذين لا زالوا في القاعة .
.. وعاد خالي أمين إلى القاعة بعد أن لف الشال على رأسه ووجهه لاتقاء الدخان والغبار .. وحين غاب عن ناظري بين كتلة الغبار جاء الصاروخ الثاني من السماء وارتفعت كتلة ثانية من اللهب والنار والغبار في الهواء ..
وأنا في البوابة الخارجية للصالة منتظر لعودة خالي أمين مع والدي فعندما سمعت الضربة الثانية صرخت
– يا خال أمين ..
-يا باباه
واندفعت نحو القاعة وأنا أصيح .. أمسكت بي يد قوية لأحد المسعفين ومنعتني من التقدم نحو القاعة .. وحاولت الإفلات من يده .. فصاح بي :
• أين ستذهب !؟
• خالي أمين !!
• أبي أبي !!
• ممنوع الدخول .. نحن سنبحث عنهم .
عدت إلى الساحة أمام البوابة الخارجية للقاعة أنتحب وأبكي بصوت غير مسموع وأطرافي ترتعش ..
بعد ضربة الصاروخ الثاني بأربع أو خمس دقائق تقريباً
لم أصدق ما ذا رأيت
تمعنت بنظري وأنا أقول هل هذا صحيح
يا إلهي !!
وإذا بأبي ملقى على الأرض يصيح ويمسك بقدمه المقطوعة وهي ممزقة من تحت الركبة ..
يا إلهي ..
أفلت يدي من قبضة من كان ماسكٌ ومانع لي من الدخول إلى الصالة واحتضنت أبي وعدد من الرجال يحاولون إسعافه ..
بعد أن حمل الرجال أبي وقدمه معلقة وعظامها بارزة..
اختتم مازن قصته قائلاً: ” لم أعرف أين ذهبوا بأبي .. ولا أعرف أين خالي أمين .. رفضت كل الأيدي التي امتدت لإخراجي من الساحة .. كانت ثيابي ممزقة وخدوش ودماء في أنحاء جسدي .. قررت المكوث حتى يخرج خالي أمين من القاعة .. قاومت طلبات إخراجي من الساحة بالبكاء والتشبث بمكاني الذي أنا فيه .. أكثر من حاولوا معي كانوا يقتنعون ويتركوني .. انتظرت وانتظرت أكثر من ساعة .. ساعتين .. ثلاث ساعات .. ولم يخرج خالي أمين .. ومضت الأيام والسنوات وحتى اليوم ولم يخرج خالي أمين من القاعة” .

آخر نصائح أبي


من جانبه يقول الجريح ناجي بن يحيى بن حسن الرويشان: “انه في صباح ذلك اليوم ذهبت إلى مقر عمل والدي كالعادة وعند دخولي إلا مكتبه اجد جميع الموظفين وبعض الضباط ووكلاء المحافظة متواجدين عنده ويقدمون له التعازي والمواساة في وفاة عمه المرحوم/علي بن علي الرويشان
ولكنه كان الاجتماع الأخير وكأنهم يودعونه وعند خروجه من المكتب يؤكدون عليه فين سيكون العزاء ، فرد عليهم: في الصالة الكبرى فتوجهنا الى البيت لتناول وجبة الغداء، ولكن خروجنا من البيت سيكون بصعوبة، فأخي محمد الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره لا يقدر يفارق أبي ولكنه ذلك اليوم كان مختلفاً كغير عادته وخاطب أبي قائلاً: ” يا به لا تسير الصالة، مريم با تقصفكم”، في إشارة إلى الطيارة الإماراتية مريم، فتعجب أبي من قوله ورد عليه لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا.
فتوجهتا إلى الصالة وخلال مسافة الطريق اتلقى النصائح من أبي كما جرت العادة، ولكنها كانت النصائح الأخيرة وكان الكلام الأخير بيني وبينه، ولم أكن أعلم أنها نصائح الفراق .. لحظات موجعة تدمي القلب.
وعند وصولنا إلى أمام الصالة ودخولنا وجدنا بعض الأقارب في صالة الاستقبال منهم من يستقبل والآخر من يتفقد الضيوف
فأراد أبي الجلوس في أحد المقاعد، ولم أتركه حتى حضر العقيد عادل نجاد وجلس بجواره وتوافدوا باقي رفاقهم وزملائهم، الذين لم يلتقوا منذ فترات طويلة، فازدحمت الصالة ، ولاحظت أبي منشغلا مع أصدقائه، وتأكدت انه ليس بحاجتي، فذهبت لأتفقد بعض الضيوف والتقي بالأقارب والأصدقاء، وفي هذه اللحظات كان العدو الأشر يعد خطته ويتحين الفرصة ليرتكب أكبر مجزرة على مر التاريخ.
فتم استهداف الصالة بالصاروخ الأول حينها توقفت أمامي الحياة ودخلت في غيبوبة لدقائق، فتحت عيناي من جديد وأدركت أنني على قيد الحياة، وشاهدت إلى أعلى فوجدت سحباً سوداء، وتأكدت انه استهداف صاروخي من أعداء الدين والأمة آل سلول، فنهضت مسرعا للخروج ورغم إصابتي إلاّ أني استطعت الخروج والقفز إلى الجهة الشرقية للصالة، وكان جسدي متفحماً كليا والحروق أصابت جسدي كاملاً.
خرجت إلى الشارع الرئيسي المقابل للصالة الكبرى وتم نقلي إلى مستشفى القدس ونظرا لحالتي الصعبة وعجز المستشفى عن تقديم أي إسعافات لإنقاذ حالتي، تم نقلي إلى مستشفى آخر وأغمي عليّ وتم نقلي على طقم تابع لشرطة النجدة وكان على الطقم عدد من الجثث وكان العسكر يعتقدون أنني فارقت الحياة، ولكني نهضت وقفزت من الطقم فأرعبت المتواجدين.. وصرخ البعض إنه حيّ لا يزال حياً، وتم نقلي مع بعض الجرحى إلى المستشفى العسكري، كان البصر لديّ مفقوداً تماما والحركة ايضا ولم يبق لي سوى حاسة السمع وجزء من التنفس.
الغريب في الامر، أن شخصا لا أعرف اسمه كان برفقتي ولم يفارقن في كل لحظة وكان سنداً لي في كل حركة، منذ خروجي من باب الصالة حتى دخولي العناية المركزة في الخامسة فجراً، وغادرني عندما علم أن حالتي استقرت إلى اليوم ولا أعلم من هو ولا كيف أصل اليه من أجل أن أردّ إليه هذا المعروف.
وأقول سلام الله عليه وعلى الكادر الطبي في المستشفى العسكري وجميع طواقمه.
ولم أعلم أن أبي قد استشهد إلا بعد أسابيع وأنا لا أزال في المستشفى، فتضاعفت حالتي ألماً ووجعاً على فراق والدي.
واختتم ناجي حديثه قائلا بعد مرور 4 أعوام من تلك الجريمة، ومرور خمسه أعوام من العدوان ، فإن النصر أصبح قريبا، وثقتي بالله كبيرة أن النصر يلوح في الأفق ولا يبعدنا عنه سوى أيام أو أشهر قليلة، والله على كل شيء قدير.
سنأخذ بالثار
الجريح عبدالله ثعبان بدوره يسرد لنا تفاصيل تلك الواقعة المؤلمة حيث يقول: ” تحركنا أنا ووالدي العميد علي صالح ثعبان مستشار وزير الداخلية، من منزلنا الكائن في بيت بوس لنكون من أول الواصلين إلى صالة العزاء في فقيد الوطن الشيخ علي بن علي الرويشان لما تربطنا به من علاقات اخوة وصداقة وزمالة، هو وأبناؤه وبعد وصولنا وأدائنا واجب العزاء جلسنا من ضمن المعزين في منتصف الصالة من الجهة اليمنى ،وحولنا جموع كبيرة من المعزين وبعد تقريبا ساعة من وصولنا كانت الصالة ممتلئة وينادى للمعزين أن يفسحوا المجال للواصلين نحن لم نستطع المغادرة لأننا نعتبر من المضيفين
وإذا بنا نفاجأ بضربة الطائرة الصاروخ الأول الذي استهدف منتصف الصالة من اليسار توقف الزمن وانهارت الصالة فوق رؤوسنا وعند توقف ذلك نهضت مسرعا للبحث عن والدي كنت أبحث بين الركام فإذا بي أشاهد رؤوساً مقطوعة وجثثاً متفحمة
وأشلاءً متناثرة وأصوات الصراخ والنار تلتهب من جهة باب الصالة، لقيت والدي مصاباً لكنه يتحرك توجهنا نبحث عن مخرج وهناك مئات الأشخاص بين جريح وشهيد رأيت أقداماً مبتورة وأيادٍ مقطوعة وأشلاٍء متناثرة.
وبعد تجريب المخرج الأول والثاني وصلنا للمخرج الثالث والناس تتدافع كل يبحث عن قريبه هذا يحمل أخاه وهذا والده إنها جريمة مروعة، أخرجت والدي وعند وصولنا الباب الرسمي الحوش فإذا بالغارة الثانية تضرب الصالة التي قد امتلأت بالباحثين عن أقاربهم والمسعفين والتي لم يتسن لأحد الخروج الا القليل
لقد رأيت ما يشيب له الرأس رأيت جريمة لم يحصل لها مثيل لقد كان في الصالة أكثر من ألفي شخص، لقد كانت الغارة الثانية من أجل تصفية من تبقى داخل الصالة وخارجها، لم تكن إلى جريمة عن سابق إصرار وترصد ،لقتل اكبر عدد من أبناء شعبنا اليمني.
وأضاف: “عندما نتحدث عن هذه الجريمة لا يمكن أن نعبر عن حقائق جريمة تحالف العدوان السعودي، لكننا سنظل نناضل ونقاتل لأخذ ثار وطن وشعب قتلوه بكل وحشية بكل الطرق والوسائل الدونية التي لم يستخدمها أي محتل قط غير هؤلاء المجرمين .
أمُّ الجرائم
من جانبه، يقول الجريح أحمد عبدالرحمن عبدالله الكهالي: ” ها نحن اليوم في الذكرى الثالثة لجريمة قصف الصالة الكبرى تلك الجريمة التي نالت لقب أمّ الجرائم ،تلك الضربة الجوية التي استهدفت صالة عزاء مزدحمة بالمعزين الذين يعتبرون ضحايا مدنيين حسب القانون الدولي الإنساني ، الضربة الجوية التي أنكرها تحالف العدوان بقيادة السعودية ،و لكنه تم الاعتراف بها بعد ذلك ، الجريمة التي قتلت و جرحت حوالي ألف شخص ،و لا زال هناك من يعاني من جروحه الجسدية و المعنوية حتى اليوم .
وأضاف: “اليوم نحن أسر الضحايا لازلنا نطالب بما يلي و هو تمسكنا بحقنا في تطبيق نصوص و قوانين القانون الدولي المختصة بالحرب و المتمثلة في القانون الدولي الإنساني، ومعاقبة كل شخص ساهم في ارتكاب هذه الجريمة.
وتابع قائلاً: “ما يجعلنا متفائلين بتطبيق ذلك هو أنه تم البدء بخطوات قانونية هي الأولى من نوعها ،حيث تم رفع شكوى تجاه مرتكبي هذه الجريمة في كلٍ من المحاكم الدولية في أمريكا و بريطانيا للتحقيق في هذه الجريمة و محاكمة مجرمي الحرب”.
صمتٌ دولي
سامي عبدان صحافي وناشط إعلامي وأحد جرحى الصالة الكبرى يقول: “مهما مرت الأيام ستظل مجزرة قصف قاعة العزاء بصنعاء حية في الذاكرة اليمنية لأجيال مقبلة وستظل شاهداً على إحدى أكبر المجازر الدموية خلفت أكبر عدد من الضحايا في يوم وحد وعلى مستوى مناطق اليمن , لن تنسى أحياء العاصمة صنعاء الضحايا من الشهداء والجرحى فصورهم لا تزال معلقة على الجدران المتصدعة وفي شوارعها المنهكة التي احتضنت الجثث المتفحمة، وتلطخت بالدماء والأشلاء المتناثرة، وتنشقت الدخان الأسود المتصاعد، واحترقت بكتل النيران الملتهبة في ذلك اليوم.. ورغم مرور ثلاثة أعوام على مجزرة وجريمة قصف قاعة العزاء التي ارتكبها ما يسمى التحالف العربي لاتزال العدالة غائبة و مازالت بلا عقاب وبلا محاسبة فالقتلة لايزالون يعيثون في الأرض فساداً وما يسمى (المجتمع الدولي ) يقف موقف المتفرج ولا يحرك ساكناً ويسعى الى تقديم الغطاء السياسي للقتلة ويمنحهم كل يوم المزيد من الأسلحة المتطورة وتقديم الدعم لسد العجز والحيلولة دون تقديم الجناة للعدالة والمحاسبة والمساءلة القانونية والعمل الجاد على إيقاف العدوان ورفع الحصار والعمل على جبر الضرر وتقديم التعويضات المناسبة للضحايا بل على العكس من ذلك يسعى المجتمع الدولي لمساعدة الجناة للإفلات من العقاب والسعي لطمس معالم مجزرة قصف قاعة العزاء وغيرها من الجرائم التي أقرّ و اعترف مرتكبو تلك الجرائم بفعلتهم وهي جرائم لا يمكن طمسها على الاطلاق ولا تسقط بتقادم الأزمان.
وأضاف: “جريمة ومجزرة قصف قاعة العزاء تم التخطيط لها جيداً ونفذت عن سبق الإصرار والترصد الأمر الذي دفع ببعض المنظمات الحقوقية الدولية أمثال المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومنظمة “هيومن رايتس ووتش”و لجنة خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة وغيرها إلى إصدار تقارير تكشف أن أغنى الدول تقود حرباً غير متكافئة ضد اليمن واستخدامها للأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا في هجمات غير قانونية ورغم التقارير الواضحة والصريحة والقلق الدائم لتلك المنظمات الحقوقية والإشارة بأصابع الاتهام والإدانة وتحمل تحالف العدوان على اليمن المسؤولية الأخلاقية والقانونية لقتل الأبرياء من المدنيين بما فيهم ضحايا قصف قاعة العزاء بصنعاء وغيرها من الجرائم إلا أن دماء الضحايا لاتزال تبحث عن العدالة في ظل محاولات حثيثة تمارس لطمس معالم الجريمة والعمل على افلات الجناة من العقاب الأمر الذي يجعل المنظمات الحقوقية تبعث برسائل سلبية لليمنيين بأن دماء وأرواح ضحايا المجزرة لقاعة العزاء وغيرها ليست على الأجندة الدولية لحقوق الإنسان .
وتابع قائلاً: ” اليوم ونحن نستعيد الذكرى الاليمة السنوية الثانية لمجزرة قاعة العزاء التي لن تسقط بالتقادم مهما حاول الجناة التسويف وممارسة أساليب الترغيب والإغراء ومحاولة شراء الصمت العالمي بالمال إزاء الجرائم في اليمن وإظهار أنفسهم بمظهر الذئب الوديع وهنا يكون التساؤل ألم تعجز دول التحالف ضد اليمن عن التبرير لعدوانها الوحشي على قاعة العزاء ؟؟ وأين هي محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية في إنصاف الضحايا ؟؟؟ .
وقال: “اليوم مع اكتمال العام الرابع للجريمة وللمجزرة الفظيعة الشائنة التي راح ضحيتها المئات من الشهداء والجرحى في جريمة يندى لها الجبين والتي حفرت في الحنايا والوجدان جريمة مكتملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد وتفوق في وحشيتها وبربريتها كل التوقعات جريمة وحدوية في حصيلتها اختطفت دماء اليمنيين من جميع محافظات الوطن ومن مختلف المشارب والاتجاهات والثقافات فمن رتب لهذه المجزرة قد عقد وعمد وقرر قتل كل من يؤم صالة العزاء مما يعني انه استهدف اليمن الموجود حينها في صنعاء.
واستطرد قائلاً: ” نعم مجزرة بكل المقاييس وسيبقى الثار قائما في نفوس أبناء اليمن سواء طال الزمن أمو قصر ولن يتوقف الحزن ولن يندمل الجرح وليس هناك كلمات أستطيع من خلالها أن أصف بشاعة الجرائم التي تزيد القلوب ألماً وتشحن الناس بخليط ثائر من المشاعر الانتقامية ضد مرتكبي تلك الجرائم …فقد كان ذلك اليوم وقبل ساعات من ارتكاب الجريمة بالنسبة لي يوماً عادياً إلا أن ذاكرتي ومعي عدد من الزملاء كنا نستحضر حضور مراسيم عزاء آل الرويشان .. لن انسى ما حصل من كارثة وما شاهدت ذلك اليوم لن أنسى أن قدمي بترت في ذلك اليوم لن انسى آهات الجرحى والأشلاء الممزقة وأخرى ممددة موشومة بالجراح وبعضها مفقودة الأطراف في حزن ومعاناة بلغت الحلقوم والألم الذي يملأ الأفق دون أن يلتفت لهم أحد أو يحس بهم ضمير عالمي …لكنني سأعلّم أبنائي وأحفادي في يوم ما شيئاً وحداً بأن المقاومة هي الحياة والثأر هو الحياة لعل الجراح يرممها الثار والثار نار بغير انتهاء .. وأنا على ثقة بأن حق الثار مكفول والقصاص ممن اعتدوا علينا محتوماً فلنكن الأشد بأساً والأقوى ردعاً وثاراً والحازمين في مقاضاة مرتكبي المجازر والجرائم بحق الأبرياء والعازمين على أن لا تضيع دماء الشهداء والجرحى وحقوقهم المكفولة شرعاً وقانوناً هدراً ولنكن من أولئك المترفعين عن الصغائر والمتضافرين وقت المحن والشدائد ولنكن كما يجب أن نكون فنحن أهل الإيمان والحكمة”.

قد يعجبك ايضا