إن مالك كان يختار رجاله وهو يعلم أن البصيرة والوعي والفهم أهم شرط في الشخص المقاتل وكثيراً ما سيشكوا مالك من ضعيفي البصائر وخفيفي العقول حتى وإن كانوا مع أهل الحق كما سنرى في أواخر معركة صفين حين انشق الخوارج عن جيش الإمام وانخدعوا بخدعة التحكيم.
وأول وقعة في معركة صفين التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر كانت وقعة الأشتر مع أبي الأعور السلمي وكان الغلب فيها للأشتر وعندما منع معاوية قوم الإمام من ورود الماء جهز الإمام كتائبه وجعل الأشتر وجنوده على تبة وعندما هجمت تلك الكتائب أشار الإمام للأشتر أن ينزل مع جنوده لحسم معركة الماء وفعلا نزل الأشتر وأورد خيله ماء الفرات.
قال الراوي ثم أقبل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء وأجلى جند الشام عن الماء فجاء أمر الإمام علي أن اسمحوا لأهل الشام بالشرب ولا تمنعوهم كما منعوكم ليسجل الإمام سلام الله عليه أن النصر هو انتصار الأخلاق لا انتصار السيف فقط.
وكان من عادة العرب قبل المعارك أن تتبارز بعض الشجعان من الجيشين فارساً لفارس فتقدم الأشتر فبرز إليه خمسة من شجعان جيش الشام إلا أن الأشتر قتلهم واحداً بعد آخر.
وقد كانت معركة صفين ذات أحداث كثيرة وأيامها متطاولة فقد كان في بعض الأحيان يلتقي الجيشان بجميع الكتائب، وفي بعض الأحيان الأخرى تلتقي كتيبة مقابل كتيبة فكان الإمام مرة يخرج الأشتر مع كتيبته ومرة يخرج عمار مع كتيبته، ومرة قيس بن سعد الأرحبي وغيرهم، ولكن قال الراوي: (وكان أكثر القوم حرباً الأشتر) فلماذا كان يقدم الإمام الأشتر على كثير من القواد أظن والله أعلم أن ذلك يعود إلى كفائته العسكرية وخبرته الحربية ونفسيته الرزينة في وقت اشتداد الأهوال.
مبارزة صفين (نار صادفها إعصار):
حدث للأشتر في صفين موقفاً أشبه ما يكون بموقف علي يوم الخندق، فقد خرج فارس من جند الشام لم ير الناس مثله، فنُصِحَ الأشترُ أن لا يخرج وأشفقوا عليه، قال الراوي: (فخرج علينا رجل لقلَّ والله ما رأيت رجلاً قط هو أطول ولا أعظم منه فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه إنسان وخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين وضربه الأشتر فقتله وأيم الله لقد كنا أشفقنا عليه وسألنا أن لا يخرج إليه، وقال بعض من شاهد هذه المبارزة (كان هذا ناراً فصادفت إعصاراً).
رجل المهام الصعبة:
في إحدى جولات صفين انهزمت ميمنة جيش الإمام فإذا بالإمام ينطلق مسرعاً ليرد الناس فدعا مالك فقال له مالك لبيك يا أمير المؤمنين، فقال له الإمام: (إئتِ هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم) فانطلق الأشتر كالليث الهصور فأخبر الناس بمقالة الإمام ووعظهم موعظة بليغة بعد أن نادى فيهم: (أيها الناس أنا الأشتر إلي أيها الناس) فاجتمعت حوله جماعة فوعظهم بكلام يخرج من شخص خبير بالنفوس يعلم كيف يعالج الخوف داخل هذا الإنسان، ثم جمع الأشتر قبيلته (مذحج) وعاد بهم نحو المقدمة وفي طريقه لقي قبيلة همدان وتعاهدوا على (ألا نرجع أبداً حتى نظهر أو نهلك) ثم زحف الأشتر ومن معه نحو الميمنة وثاب إليه الناس فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ولا لجمع إلا حازه وفي يده سيف يماني إذا طأطأه خلت فيه ماءً منصباً، وإذا رفعه كاد يغشى البصر شعاعه، واسمه (اللج) ولما عادت الميمنة إليه وعظهم الأشتر وعلمهم من فنون القتال بكلام نابع من منبع باب مدينة العلم علي عليه السلام.
ليلة الهرير:
رتب الأشتر الصفوف والرايات وجاء أمر الإمام لجميع الكتائب بالتحرك نحو العدو، قال الراوي: فزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت، ثم مشى القوم بعضهم إلى بعضٍ بالسيوف وعمد الحديد فلم يسمع السامع إلا وقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضاً، والأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها.
قال فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل لم يصلوا لله صلاة فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة (الهرير) وقد كان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة وعلي عليه السلام في القلب والناس يقتتلون ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى والأشتر يحرض الناس على القتال، ثم دعا بفرسه وركز رايته وخرج يسير في الكتائب ويقول: (ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله) ثم قال الأشتر: (شدوا فدى لكم عمي وخالي شدة ترضون بها الله وتعزون بها الدين فإذا شددت فشدوا) ثم ناول أحد أصحابه رايته وتقدم حتى انتهى إلى صفوف أهل العمائم حول معاوية، وكانت خمسة صفوف؛ فقاتل هو ومن معه قتالاً شديداً حتى قتل صاحب رايته فجعل الإمام علي يمده بالرجال عندما رأى الظفر يأتي من جهة الأشتر.
التحكيم:
واستمر الأشتر بالقتال حتى قضى على أربعة صفوف من صفوف أهل العمائم، فلما دنا الأشتر من خيمة معاوية استشار معاوية عمرو بن العاص فقال له: ارفع المصاحف على رؤوس الرماح وقل للقوم حكمنا كتاب الله، فلما رفعت المصاحف قال الإمام علي لأصحابه: (أنا خير من أجاب إلى كتاب الله ولكن هؤلاء القوم أهل خديعة لما رأوا الهزيمة قالوا حكمنا كتاب الله فما الكتاب أرادوا ولكن الخديعة).
وهنا انخدع كثير من أصحاب الإمام وانصرف إليه من أصحابه قرابة عشرون ألف وأحاطوا به وقالوا له: أجب كتاب الله وإلا ألحقناك بابن عفان، ومر الأشتر فليكف عن القتال، نصحهم الإمام لكن لم تفلح نصائحه فأمر الأشتر بوقف القتال وقد كان على شفا الانتصار، فرجع الأشتر مغضباً ودار حديثٌ طويل بين الأشتر وزعماء الخوارج وانتهت بخديعة التحكيم.
ثم قال الخوارج للإمام بعد كتابة صحيفة الصلح: إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم، فقال علي عليه السلام: (بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت ولا يصلح الرجوع بعد الرضا إلا أن يعصى الله ويتعدى ما في كتابه، وأما ما ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك وليس أتخوفه على ذلك وليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحداً، يرى في عدوه مثل رأيه إذن لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم.
الأشتر إلى مصر:
اضطربت أمور مصر فمعاوية وعمرو بن العاص طمعا فيها لمالها من الأهمية فأرسل الإمام إلى الأشتر (أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به الثغر المخوف … الخ) فدخل الأشتر على الإمام فحدثه بحديث مصر وقال له: (ليس لها غيرك، فاخرج إليها رحمك الله، فإني لا أوصيك اكتفاءً برأيك، واستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق ابلغ، واعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة).
ولنا أن نقف عند قول الإمام (فإني لا أوصيك اكتفاءً برأيك) فهو يعلم رجاحة عقل مالك، ويثق بحكمته، ثم إن الإمام عهد إلى مالك بعهد طويل هو من أحسن العهود في سياسة الدولة، وفيه من الأفكار العظيمة ما لو طبق اليوم لكانت أفضل دولة في سياستها الداخلية والخارجية، وكأن الإمام وجد في مالك بغيته لحمل العلم عنه، فكثيراً ما كان يقول: (آه إن هاهنا لعلماً جماً لو أصبت له حمله) فمالك من أولئك الحملة لذا أطال الإمام في عهده له، ولو لم يكن من تأريخ مالك إلا هذا العهد لكفاه شرفاً مدى الأزمان.
استشهاد مالك:
بلغ معاوية عن طريق عيونه أن الإمام علي ولى مالك الأشتر على مصر فاغتم لذلك وعلم أن اليمانية فيها أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد فاحتال في ذلك وأرسل من يدس إليه السم في شربة عسل، واستشهد الأشتر مسموماً، فلما وصل خبر مقتله إلى الشام فرح معاوية وابن العاص فرحاً كبيراً وقام معاوية خطيباً قائلاً: لقد كان لعلي يدان يمينان قطعت أحدهما في صفين وهو عمار بن ياسر والأخرى قطعت اليوم وهو الأشتر).
ولما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقتل مالك رثاه كثيراً وعرف تغير وجهه عليه السلام أياماً، فقد روى ابن أبي الحديد وغيره: لما بلغ علياً موت الأشتر قال : (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر) ثم قال: (رحم الله مالكاً فلقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها من أعظم المصائب).
وروي عن جماعة من أشياخ النخعي قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: (لله در مالك وما مالك لو كان حديداً لكان فنداً ولو كان حجراً لكان صلداً، أما والله ليهن موتك عَالَماً وليفرحن عالماً على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل مرجو كمالك ، وهل موجود كمالك)، قال الراوي: فما زال علي يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياماً.
وقال عليه السلام: (رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
بهذه الكلمات الخالدة يرثي الإمام علي عليه السلام مالك الأشتر ذلك الرجل العظيم الذي أخلص لمبدئه ومعتقده وإمامه إلى أن قضى نحبه في سبيل رفعة هذا الدين ومقارعة الظالمين، وحسبك أن علياً عليه السلام يتمنى مثله رجلاً واحدا، فهو الشخصية الفذة التي جمعت بين رجاحة العقل وقوة الإيمان والخبرة العسكرية، وبين الشجاعة الأسطورية حتى قيل إن الأشتر أشجع العرب بعد عليٍّ عليه السلام، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.