الحوار طوق نجاة اليمنيين على مر العصور



,الوحدة اليمنية أتت بالحوار.. وتترسخ اليوم بالحوار

,الحكمة تاج اليمنيين في كل الظروف الصعبة

,حركات النضال في الشمال والجنوب تأسست على مبدأ الحوار

,لجوء اليمنيين دوماٍ إلى الحوار.. تأصيل لثقافية التسامح والقبول بالآخر

“الحوار” لغة وثقافة وأسلوب تعامل لا تحضر في المجتمعات كما تحضر في المجتمع اليمني لأنها قضية جْبل عليها اليمنيون عبر التاريخ فمع كل سوء تفاهم أو خلاف ــ مهما بلغت حدته ــ يحصل بين أعضاء الجسد اليمني تضميد الجراح في النهاية بالحوار لا لشيء سوى أن “الطبع غلب التطبع” فطبع الإنسان اليمني ــ دائماٍ ــ تجاه أخيه يلخصه البيت الشعري “ولا أحمل الحقد القديم عليهم” … والمتابع لتاريخ اليمن الحديث ــ وبالتحديد من قبيل انطلاق ثورتي سبتمبر وأكتوبر ببضع سنوات وحتى 18 مارس 2013م موعد انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل ــ يجد الكثير من محطات الصراع تنهيها جلسات نقاش حوارية تسودها أخوة الدين واللغة والعرق والعرف والنسب … ومن خلال الأسطر القادمة سنستعرض “ثقافة التسامح” هذه لدى اليمنيين والتي كانت سببا في تجاوزهم لأزماتهم وصراعاتهم عن طريق لغتهم السائدة “الحوار” … هذه الجولة ستكون بمعية شاهد العيان ومدون الأحداث وصاحب الذاكرة الحية والمتجددة إنه “التاريخ” بالإضافة إلى بعض شهود العصر ممن عاشوا هذه الفترة وبعض المهتمين بالشأن الداخلي اليمني … نتابع:

قبيل الثورتين
بعد أن انقض الاحتلال البريطاني على الجزء الذي يهمه من اليمن وهو الجنوب وبدأ يمارس سياسته المعروفة “فرق تسد” ومع مرور الزمن استطاع من خلال هذه المفارقة أن يصنع الفرقة بين المواطنين هناك حتى وصل عدد الأمارات والسلطنات إلى 22 دولة مصغرة خاضعة للنفوذ البريطاني أهمها سلطنة لحج وسلطنة قشن ويافع وسلطنة الضالع وسلطنة بيحان وغيرها من الدول المصغرة آنذاك .
ولم تتوقف هذه السياسة الهمجية عند هذا الحد فقد عملت بريطانيا على زرع العداء بين القبائل والسلطنات وأقامت العديد من الحروب الأهلية التي راح ضحيتها أعداد هائلة من القتلى .
هذه المعاناة التي تجرعها المواطن في الجنوب اليمني تجرعها أيضا المواطنون في شمال اليمن وإن اختلفت طرق الاستعباد والقهر والتخلف ففي الوقت الذي استخدمت فيه بريطانيا سياسة “فرق تسد” استخدم النظام الملكي في الشمال طريقة “وحد تسد” حيث وحد القبائل وحكمهم بنفس طريقة الحكم في الجنوب مع اختلاف في الشكل وقسم الحكم الإمامي المجتمع في الشمال إلى طبقات وفقا لسيادة العلاقات الإقطاعية والقبلية فكانت طبقة السادة أعلى هرم المجتمع وتتحكم في مفاصل الدولة وتلت هذه الفئة فئة القبائل وكان نفوذ كل قبيلة يعتمد على ” جسادتها ” وتبقى الطبقة الثالثة في المجتمع هي الضحية وهم عامة الشعب المكافح هذا التقسيم خلق العداء بين الطبقات وحصل بسببه الكثير من الحروب الدامية.
وكان نظام الاحتلال في الجنوب والإمام في الشمال يهدفان من خلال هذه السياسية إلى تمزيق المجتمع اليمني وإضعافه حتى لا يفكر يوما ما بالتخلص من قبضتهما إلا أن الشعب اليمني في الجنوب والشمال قلب هذه المعادلة على رأس صانعها وانقلب السحر على الساحر حيث القلوب الأبية تحركت وأبت الضيم على نفسها ووحدت القلوب ونهج أحرار اليمن أسلوبهم المعروف بالحوار فأقاموا العديد من جلسات الحوار هنا وهناك وكونوا العديد من الحركات النضالية وقد شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين ميلاد أول هذه الحركات في الجنوب وكانت تسمى بحركة التحرير الوطني التي دعت إلى التحرر من الاستعمار البغيض فما أن أطلقوا هذه الدعوة حتى تعاطف معها كل جموع الشعب في الجنوب التواق للحرية فكانت هذه الدعوات بمثابة وميض الثورة وانطلقت على إثرها العديد من الانتفاضات.
مدن انطلاقة الحوار
لقد كانت العاصمة عدن في الجنوب وتعز وصنعاء في الشمال نقاط انطلاقة الحوارات بين كل طبقات المجتمع بعد أن تخلى كل فرد منهم عن المصالح الشخصية لمصلحة الوطن فتعددت اللقاءات خصوصا في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات تمهيدا لإطلاق حركات المقاومة والمناهضة للاستعمار وكان من أبرز هذه الحركات والمنظمات في الجنوب حركة القوميين العرب منظمة القبائل وجبهة الناصريين والتنظيم السري للضباط الأحرار وجبهة يافع والتنظيم الثوري لتحرير الجنوب اليمني والجبهة الوطنية ومنظمة فرق الطلائع العدنية ومنظمة شبيبة المهرة والمنظمة الثورية للجنوب اليمني المحتل أما في الشمال فتكاتفت كل جهود الأحرار وأجروا حوارات عدة وأنشأوا أول منظمة سياسية وكان مقرها عدن وهي “الأحرار اليمنيين” عام 1944م وأصدروا بعد ذلك صحيفة صوت اليمن وكان لها دور بارز في نشر الوعي الثوري آنذاك وحركة القوميين العرب وغيرها من الحركات المصغرة التي كان لها الدور الأكبر في المساعدة للتخلص من الإمام ولأن الهدف العام لكل هذه الحركات في الشمال والجنوب هو تحرير الأرض والإنسان أجريت الحوارات بين الأخوة قادة وأعضاء الحركات النضالية الثورية لتوحيد القيادة فكان لهم ما أرادوا حيث تبلورت الحركات في الجنوب إلى حركة واحدة تحت قيادة الجبهة القومية التي تأسست في مطلع الستينيات وذلك بدعم ومساندة الثوار في الشمال أيضا ساعد ثوار اليمن في الجنوب الثوار في الشمال على رسم خططهم وتنفيذها بغية التخلص من الأمام.
لم يكن الحوار اليمني الجنوبي الجنوبي قد توقف عند هذا الحد فقد اتحدت جهود الجبهة القومية مع جهود حركة التحرير الوطني لتحقيق الهدف السامي ” الحرية والحياة الكريمة” وهذا الهدف هو ذاته الذي يبحث عنه أبناء شمال الوطن فكانت ثورتي 26سبتمبر و14أكتوبر أول المحطات النضالية لتحقيق مقومات الحياة للإنسان اليمني .
بعيد الثورتين
كان أهم أهداف الثورتين هو إعادة تحقيق الوحدة اليمنية إلا أن هذا المشروع تأخر عند موعد ميلاده المحدد الأمر الذي أدى إلى نشوب خلافات بين الشمال والجنوب من جهة وبين القوى السياسية في كلا الشطرين من جهة ثانية والجدير بالذكر أن الصراعات التي حصلت بين اليمنيين كانت في الأصل محطات نضالية لتحقيق أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر إلا أن اختلاف وجهات النظر في الآلية التي يمكن من خلالها تحقيق الأهداف أدى إلى حدوث الكثير من الحروب الأهلية في الشمال والجنوب منها الحرب التي دارت في الشمال بين الجمهوريين والملكيين بعد الثورة ولكنهم في الأخير غلبوا الحوار تحت قاعدة أن اليمن للجميع تحت سيادة النظام الجمهوري في الجنوب أيضا نشبت حروب منها حرب العقد الأول من الثورة وحرب 86م كما نشبت ثلاثة حروب بين الشمال والجنوب إلا أن اليمنيين كانوا يلتقون بعد كل صراع للتفاوض واللافت في الأمر أنهم عندما يلتقون لحل مشاكلهم ينسون هذه المشاكل ويفتحون أمر الوحدة .
شاهد على العصر
الدكتور حمود العودي شاهد على العصر فقد حصل على الثانوية العامة في العام 1963م وعاش فترة ما قبل الوحدة وما بعدها الدكتور العودي في هذه النقطة حول تغليب اليمنيين للحوار في محطاتهم النضالية يقول ” إن الشعب اليمني بطبعه سموح وطيب ولديه صفاء ولا يحمل الحقد الدفين على أخيه مهما بلغ أوج الصراع لذا كان من الطبيعي أن يكون الحوار هو السائد مع أي سوء تفاهم يحصل بين اليمنيين ” فهم عندما يلتقون ينسون أحقادهم ويبحثون عن المشترك وقد حصل هذا أكثر من مرة فمثلا عندما التقوا في حواراتهم بالخارج لبحث التوتر بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي نسوا القضية التي ذهبوا لأجلها وبحثوا قضية الوحدة. وأضاف: أيضا لوحظ على العديد من الوفود التي تذهب حينها لتمثيل الجمهورية العربية اليمنية ” الشمال “والجمهورية الديمقراطية الشعبية “الجنوب” في المحافل الدولية على رأسها الجامعة العربية تقوم هذه الوفود بشقيها الشمالي والجنوبي بتشكيل وفد موحد وتمثيل اليمن بدون تفريق ثقافة التسامح هذه لم تكن في الوفود فقط فاتحاد والأدباء والكتاب توحد منذ فترة كبيرة قبل الوحدة ولو رجعنا إلى ما قبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر فإننا سنرى اليمنيون لا يفرقون بين معركة كانت تدار في الشمال ضد الإمامة أو معركة ضد الاحتلال في الجنوب والدليل على ذلك أن غالب راجح لبوزة كان يقاتل في مسور حجة ضد الإمامة قبل أسبوع واحد من ثورة أكتوبر في الجنوب وانتقل إلى إخوانه في الجنوب لمساعدتهم في التخلص من الاستعمار البريطاني وكأنه انتقل فقط في مهمة عسكرية. والدليل الآخر أن ثورة 26 سبتمبر لم يقم بها أبناء الشمال فقط فأبناء الجنوب هم عنصر فاعل في نجاح الثورة السبتمبرية وذلك من خلال استضافتهم لثوار الشمال وإمدادهم بالمال والسلاح والرجال قبل الثورة وبعدها للحفاظ على الجمهورية يقول: بالمقابل قامت ثورة 14 أكتوبر بسواعد أبناء الجنوب وبمساعدة إخوانهم في الشمال وجسدوا موقفهم الأخوي عند استحداث منصب وزير لشؤون الجنوب في حكومة 1964م في الشمال لمساعدتهم لإكمال مشوار الثورة الوليدة ضد الاستعمار وهكذا استمر التعاون رغم الصراعات حتى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة ولا تزال روح الحوار تتجسد في نفوس اليمنيين حتى اليوم وهو ما نشاهده في مؤتمر الحوار الوطني الشامل”.
ويرجع الدكتور العودي أسباب الصراع بين القوى في المجتمع اليمني إلى مأسسة الفساد وقبيلة الدولة الأمر الذي أدى إلى نشوب صراعات منذ انطلاق الثورتين سبتمبر وأكتوبر وحتى الوقت الحالي ولكنهم في النهاية عادوا وأطلقوا مؤتمر حوار وطني شامل.
ويرى أن جنوح هذه القوى إلى الحوار يعود لأسباب موضوعية جعلتهم يقبلون ببعضهم البعض كان الحوار مبدúاٍ ضرورياٍ لليمنيين والحوار لا يجري بين منتصر ومهزوم بل بين متكافئين جمعتهم ثقافة التسامح وغلبوا عليهم مصلحة الوطن .
فيما يرى الدكتور قائد عقلان جامعة صنعاء أن الحكمة اليمانية حاضرة في اليمنيين كلما نشب خلاف يلجأون إلى الحوار والحوار في الأول والأخير مبدأ راق وحضاري تلجأ إليه المجتمعات لأن البديل سيكون الصراع .
ويقول عقلان: إن الصراعات في اليمن لا تعني أن الشعب اليمني لا يقبل ببعضه البعض بل لأن اليمن تمتلك موقعا استرتيجيا هاما يجعل من القوى الخارجية لاعبا أساسيا في اللعبة السياسية اليمنية الأمر الذي أدى إلى غياب روح القانون وعدل الدولة مما أدى إلى نشوب الصراعات. ويضيف ” إن الحوارات التي تجري بين الفرقاء اليمنيين هي نقطة إيجابية وتحسب لهم وما مؤتمر الحوار الوطني الشامل إلا خير دليل على أن ثقافة التسامح لا غيرها هي منوال الشعب اليمني” .
العقيد عبدالله أحمد بشير من الكلية الحربية ممن عاش الصراعات والحوارات في المجتمع اليمني والمحيط الإقليمي والدولي يقول : إن ميزة الحوار في الشعب اليمني ليست في الجانب السياسي فقط فالقبائل هي الأخرى تنتهج مبدأ الحوار عند حصول أي خلاف بينها كذلك الأحزاب ليست ببعيد عن هذه الثقافة السائدة ” ثقافة التسامح” ولا غرو في هذا فنحن شعب الإيمان والحكمة.
عبر العصور
محسن صالح.. طالب أكاديمي وباحث في الشئون الداخلية لليمن يقول: ” إن المتأمل في التاريخ اليمني عبر العصور يرى الحكمة التي أشاد بها النبي صلى الله عليه وسلم في أهل اليمن والتي غالباٍ ما تظهر عند نشوب الخلافات أو النزاعات بين الفرقاء اليمنيين فيغلبون مبدأ المنطق والعقل ولا ينظرون إلى حجم الأضرار الناجمة عن تلك النزاعات وهذه بحد ذاتها ميزة لأنها تسد الخلل في الجسم اليمني وعلى كل فإن الحل الوحيد لإنهاء الصراعات هو ” الحوار”.
الأرضية المشتركة
أما حسن اليمني.. طالب يمني دراسات عليا ويعمل في قناة الاقتصادية السعودية فيترجم أحاسيسه ووجهة نظره بالكلمات التالية فيقول: “رغم التكتلات الحزبية والميول المسيطر في الانتماء والهوية لدى غالبية اليمنيين إلا أن ثقافة الحوار مترسخة ومتجذرة لديهم منذ القدم وساهم ذلك في خلق نوع من التقارب الفكري والقبول بتعدد الآراء وسعة الصدر للاختلاف بحيث لايفسد للود قضية مما اوجد أرضية مشتركة ونقاط تقاطع لدى الجميع كقوة الوازع الديني والانتماء الاجتماعي والثوابت الوطنية.. ونضيف بالقول: ومن أبرز تلك العوامل التي ساهمت في خلق ذلك الوعي ميزة خاصة باليمنيين تكاد تكون نادرة دون غيرهم وهو “مبدأ الشورى” واليمنيون هم من ارسوا هذا المبدأ كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم, إضافة إلى “الحكمة اليمانية” والتي أشاد بها الرسول الأعظم عن أبناء اليمن.. ولاننسى بعض العادات والتقاليد اليمنية التي ساهمت في خلق ثقافة الحوار كالرابط الاجتماعي القوي وأواصر القرابة والتجمعات وهي ثقافة اجتماعية تجذرها أواصر القبيلة والعشيرة وهوية الانتماء ويظهر ذلك جلياٍ من خلال التجمع في العديد من المناسبات كالأعراس والعزاء والأعياد وتبادل الزيارات وجلسات القات….
وعن الحوار الوطني الشامل يقول: ” ثورة 2011م نتجت عنها أزمة سياسة عصفت باليمن سياسيا واقتصاديا وخلقت جوا من الصراعات والتكتلات كادت أن تدخل اليمن في نفق مظلم وسادت أجواء من الترقب الحذر والخوف من الانزلاق إلى حرب أهلية وطائفية تكون عواقبها وخيمة ونتائجها كارثية لولا تدخل العناية الإلهية التي ظهرت جليا لدى اليمنيين والمتمثلة في سياسة الصبر وضبط النفس وتغليب المصلحة العامة وإدراكهم جميعاٍ أن جميع الاختلافات والصراعات لن تحل إلا عبر الحوار الشفاف لاحتواء الأزمة ..
وما تشهده اليمن اليوم من محطة سياسية هامة ونقطة تحول في تاريخه وهو “الحوار الوطني” يعكس اهتمام الناس لأن الجميع يعول عليه حلحلة العديد من المشاكل المستعصية والمعقدة والخروج باتفاق مرضي يضمن أمن الوطن والمواطن ويعزز استقراره ورفاهية أبنائه .. بعون الله تعالى
ختاماٍ
إن ثقافة التسامح هي التاج الذي وضع على رؤوس اليمنيين منذ القدم فبها قامت الحوارات بين الفرقاء وتوصلوا إلى حلول لمشاكلهم. وهاهو مؤتمر الحوار الوطني الشامل اليوم يضرب للعالم أروع الأمثلة ويظهر المجتمع اليمني بصورته الراقية ومبادئه السامية التي ليست بالغريبة عليه.

قد يعجبك ايضا