حرب الافكار في عالم متغير
عبدالرحمن مراد
برز في الخطاب الفكري والثقافي الغربي قبل عقود موضوع صراع الحضارات ولم يكن هذا الموضوع حالة ذهنية وفكرية ترفية , بل كان حالة من حالات التجدد للجدلية التاريخية – صراع الطبقات والمصالح الاقتصادية – لكنه أخذ بعدا حضاريا جديدا , ولذلك لا يمكن القفز على حقيقة الثنائية التاريخية الحضارية بين الروم / والفرس , وهي الصورة النمطية التاريخية التي بدأت حالتها تتجدد في المشروع الرأسمالي منذ منتصف السبعينات في القرن العشرين وصولا الى مطالع الألفية الجديدة , ففكرة الأصوليات التي قال بها برجنسكي في السبيعينات من القرن العشرين ورأت فيها الإدارة الأمريكية قارب نجاة للرأسمالية من الهزيمة المحتملة أمام الشيوعية والاشتراكية لم تغفل الحضارة الفارسية بل كان من نتاجها ثورة ايران الاسلامية التي قادها الامام الخميني نهاية السبعينات من القرن العشرين , وكذلك استراتيجية مؤسسة راند لعام 2007م التي كان من نتاجها ثورات الربيع العربي في عام 2011م.
كانت ايران تحضر في ثنائيات الانقسام وبالتالي لا يمكن إغفال البعد الحضاري في الصراع القائم بين الشرق والغرب.
فايران في تداخلها مع الملفات العربية الشائكة كما هو معلوم تفرض أجندتها بطريقة استخبارية بالغة الحذر وقد كان اشتغالها على العرب منذ وقت مبكر عن طريق مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب وتكوين الجماعات , أو عن طريق اشتغالها على ملف القضايا كقضية القدس ,وكان حضورها في اليمن في قضية صعدة حيث استغلت المساحة التي تركتها حركة الحروب بين النظام – يومذاك – وجماعة الحوثيين (أنصار الله ) وهو الأمر الذي عمل العدوان السعودي على توسيع دائرته ودائرة الاشتغال فيه الى الحد الذي وصل اليه الحال اليوم.
فالعدوان عمل على تكثيف الحضور الايراني وبطريقة مرنة وأصبح المشهد السياسي اليمني والعربي بشكل كلي تتنازعه ايران وأذرعها , والسعودية وأذرعها, ومن هنا تأتي أهمية اليقظة والتنبه لهذه الظواهر حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد المستقبل , فالصمت أمام مثل هذه الظواهر يعزز من عوامل الارتهان للخارج تحت أي ظلال أو مسميات ,كما أن معالجة الظواهر وقت نشوئها وبروزها يجعل طرق ووسائل المعالجة أيسر وأبسط من حال التمدد والتوسع والتمكن.
ولعل الرؤية الوطنية لبناء الدولة التي أقرها المجلس السياسي وبدأت الحكومة في تنفيذها اليوم قد أكدت على أهمية الهويات الوطنية والثقافية ورأت أهدافها ضرورة ترسيخ الهوية الوطنية الواحدة الشاملة والجامعة لكافة مكونات المجتمع كأساس لبناء الدولة اليمنية الحديثة ومثل هكذا أهداف تجعلنا على قدر من اليقظة التي نأمل أن نراها واقعا في المستقبل.
فإذا ما ترسخت في أذهاننا ثقافة المشروع حينها سنكون قادرين على التغيير وفق محددات ثلاثة هي:
– الوقوف أمام الماضي ومساءلة مصادره المعرفية والثقافية ذلك أن الماضي يعيق نظام الطاقة على الحياة والقدرة على التجديد.
– مساءلة الحاضر البشري الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفقد أثره وانتاجه وطبيعته الاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل الخلق والابتكار ضمن حدوده النسبية لا المطلقة ومن خلال مكونه ومنظومته لا من خارجه بمعنى التغلغل في نسيجه العام وإعادة ترتيبه وصياغته وتأهيله..
– الوقوف أمام أسئلة المستقبل وخلق امكانية التحكم به عبر أدوات ومناهج العلم والتخطيط، لا الفوضى والارتجالية وسوء التخطيط التي نعاني منها في مظاهر حياتنا سواءً الفردي منها أو الجمعي.
وهذه المحددات تقودنا إلى موضوع الحرية، ذلك أن المثقف الملتزم يجب أن يكون عنصراً فاعلاً ومتسائلاً ومشاركاً في التغيير الاجتماعي وقادراً على قول منجزه بعيداً عن الأطر الأيديولوجية والاحتواءات السياسية والإملاءات التي قد تشكل ضاغطاً عليه وعنصراً مصادراً لحريته في التعبير.
وهذه الحرية لا تتناقض مع القول بأهمية المثقف العضوي أو الحزبي بالمعنى الجمعي الذي يحمل مشروعاً نهضوياً، إذا كان يؤمن بقيم الحوار ويستوعب الآخر ولا يلغيه، ولا يتحيز فكرياً باعتبار أن مشروعه هو الأهدى والأصلح وفكرته هي الأصوب، وعليه أن يدرك أن مشروعه يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب وأن الآخر قد يكون على صواب كما قد يكون على خطأ ومعياره في ذلك هو المنهج والمنطق ومؤشرات النتائج وفق قياسات علمية.
المثقف العضوي اليمني عموماً يعيش في مجتمع تقليدي تقوم فيه أنظمة تقليدية قمعية وثابتة تحارب الثقافة والتحديث، وتطارد الوعي، وكل الحركات والتموجات التي حدثت في تاريخنا المعاصر لا تعدو كونها اتجاهاً إصلاحياً توفيقياً استند إلى التراث حيناً، وإلى الثقافة الأوروبية حيناً وإلى الاثنتين معاً في بعض الأحيان وقد أفرز ذلك واقعاً ثقافياً مهزوزاً وانتج مدارس فكرية وسياسية مقلدة.
وحتى أكون أقرب إلى التوضيح أتساءل: كم حزباً سياسياً في حاضرنا يحمل فكراً نهضوياً نابعاً من المقومات الوطنية الاجتماعية والثقافية للعرب ؟ وأين مظاهر تلك الأيديولوجيات الحزبية على المستوى الاجتماعي العربي ؟ وماهي قيم التغيير الاجتماعي التي أحدثتها؟ وهل نلمس وجوداً لدوائر الفكر والثقافة والإعلام ؟ وأين أنشطة هذه الدوائر؟
هذه الأسئلة يجب أن تطرح، ويجب أن تناقش مع قيادات الأحزاب الفاعلة، نريد أن يكون لهم وجود ومناشط متعددة، باعتبار الأحزاب مؤسسات مجتمعية قائمة على مشاريع ثقافية نهضوية تخدم المجتمع وتحاول بلوغ غاياتها وباعتبار الفاعلين فيها نخباً ثقافية.
فالمثقف العضوي (أو الحزب بالمعنى الجمعي) هو الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المشكلة من العمال والفلاحين والفقراء.
فالحرب التي تدار اليوم هي حرب أفكار وصراع حضارات وتلك هي مؤشراتها في واقعنا العربي , وتفاعلاتها وتداعياتها وهي الصورة المثلى لها , وعلينا أن ندرك ذلك وحتى نتحكم في مقاليد المستقبل لا بد لنا من الاشتغال على الاستراتيجيات وثقافة المشروع.