
, منذ بدايات نشوئها شكلت التجمعات والتشكلات السياسية والاجتماعية المعارضة عاصفة هزت عرش الإمامة وأقلقت المحتل
, ثورة سبتمبر وأكتوبر كانت حدث تغيير حقيقيا وهادفا لذا التف حوله الشعب مؤيدا ومريدا وطامحا
, كان التثقيف والارتقاء بوعي العامة من أهم مهام المنظمات والنخب والجمعيات للاتجاه نحو الثورة
, مثل العمل الاجتماعي والثقافي رافدا مغذيا رئيسيا ومحركا أساسيا لوجود فعل احتجاجي ثوري
, كانت مجلة الحكمة اليمانية مشعل نور وموقد ثورة وكان لها الأثر الكبير في التوعية الثقافية والاجتماعية والثورية
في حين أن لكل حدث أو متغير بداية فإنه لا بد لكل بداية من هيئة أو شكل أو طريقة قد تختلف وقد تتشابه مع سواها في بعض الأوجه وربما في كل الأوجه.. ولعل التحركات والتبدلات السياسية والاجتماعية الجمعية أو الشعبية هي أبرز ما ينطبق عليها ذلك فما من ثورة أو انقلاب أو محأولة خلاص أو تغيير إلا ولها مبرراتها وأسبابها المنطقية التي مثلت وتمثل بالنسبة لها شرارة الإيقاد أو عود ثقابه.
وعلى تعدد واختلاف الثورات البشرية الاجتماعية والسياسية في مختلف بقاع الأرض ومتعدد المجتمعات
الموجودة شرقا وغربا إلا أنها تكاد تكون متشابهة ومتطابقة في الأسباب والجواهر في الغالب فالرفض وعدم القبول بالواقع الكائن يكاد يكون الجامع الشامل أو نقطة التقاء أي تحرك أو عمل ثوري تغييري فالثورة هي في أساسها رفض للممكن المتمكن طمعا في الممكن المتخيل أو المستهدف والذي يقرأ أو يطلع على مختلف الثورات في الشرق والغرب سيجد أنها محأولة انعتاق وانفلات من كائن جائر أو متخلف أو متسلط إلى كائن مفترض يقف في الجانب الآخر المخالف لتلك الصفات التي تواجه وتجابه عادة بالرفض وعدم القبول .
وبذلك واعتمادا على هذا المعنى شكلت الثورات في معناها الجوهري حدثا استثنائيا طامحا مقترنا بمعانُ إنسانية راقية ومثالية تتصف بالعدالة والحرية والإنصاف والمسأواة بين أفراد المجتمع المعني بالثورة أو بالتحرك التغييري المقصود لتغدو الثورة معنى مطلق السمو عالي الشأن والغايات.. ذلك حين تكون الثورة مكتملة في صفاتها وشروطها ومعتمدة على المثل السامية التي وجدت أو قامت من أجلها وهادفة إلى قيمة من تلك القيم الراقية والمثالية التي تداعب أحلام وتخيلات البشر وتبتغي الارتقاء بالوضع المعيشي والقيمي للإنسان في الوجود.. وذلك أيضا حين تكتمل الصورة الطبيعية أو الهيئة المفترضة للثورة وتؤدي أو تهدف إلى أداء التغيير الحقيقي ليس في نظام حكم معين أو ما شابه ولكن أن يحدث ذلك التغيير وتنطبق صفاته وشروطه على العمل الثوري الشامل الهادف وأن ينتج عن ذلك الحدث التغييري في أصله تغيير حقيقي في كامل بنى المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فإن تغييرا في شكل الحكم أو في شخص الحاكم أو مقر حكمه ليس بالضرورة معنى كاملا يصف أو يسأوي ما يمكن تسميته طبيعيا ثورة.
إنها ثورة حقيقية
تلك لمحة موجزة عن ما يمكن أن يذهب بأي حدث تغييري ليكون صالحا ومطابقا لتسمية الثورة أما وسائل وطرائق ذلك الحدث فتتوقف على طبيعة بنية المجتمع المستهدف بالثورة أو بالأصح الهادف إليه من جانب والنظام أو السلطة التي عادة ما تكون هدفا يتوجب أو يفترض إقصاؤه من وراء هذا التحرك الثوري أو التغييري.. ومن الطبيعي فعلا أن تقوم الثورات باعتبارها فعلا رافضا للواقع ضد حاكم متسلط ظالم أناني غير مناسب لعصره ولأهل عصره ولم يكن -إن حدث- فعلا ثوريا أو رفضيا ضد نظام أو حاكم عادل منصف مؤثر يشخص شعبه أمام اهتمامه وفعله ليكون ذلك الشعب على الدوام غاية مقصودة بالاهتمام والرعاية وإن الفعل الثوري بالتالي حين يحدث تجاه نظام عادل صالح طامح يتحول في وصفه وهيئته وحتى تسميته لذلك وجد مسمى الانقلاب ليغدو معادلا موضوعيا موازيا لفعل الثورة بل يكاد يكون مخالفا له في معناه وحقيقته غير أن صفة الانقلاب قد تتحول أحيانا من الضد إلى الضد حتى تحولت في معناها وكأنها جزء من العمل الثوري فمثلا حين ينهار نظام الحكم من داخله ومن بناه السلطوية الأساسية أو من جزء من مكوناته وأفراده يعد انقلابا ثوريا أبيض كما يحلو للبعض الوصف بينما يوصف على الجانب الآخر بكونه انقلابا خائنا وهكذا تتباين الصفات والوصف حسب موقف الواصف أو مطلق الوصف من ذلك الحدث الثوري أو التغييري.
إرادة شعبية
ولأن الثورة كما أسلفنا حدث شعبي جماعي فإنه من غير الممكن أن نصف حدثا معينا سواء أكان تغييرا إيجابيا أو انقلابيا سلبيا بصفات الثورة مادام مقتصرا على جماعة بسيطة بعينها من عموم الشعب أو الأمة أو مرتبطة بغاية ذات خصوصية فردية مستقلة عن سواها فالثورة لا تكون ثورة إلا حين ترتبط بفعل الشأن الجمعي الغالب لا بفعل إرادة القلة القليلة فمثلا حين يتبنى فرد أو جماعة معينة أي فعل ثوري ربما لأسباب تتعلق به أو بهم فقط دون سواهم فإن ذلك لا يمكن إطلاقا عده عملا ثوريا شعبيا جمعيا فإن الأغلبية التي لم يعنها أو لا يعنيها ذلك التحرك الثوري هي من قد تحدث عملا ثوريا حقيقيا مثلا برفضها ذلك التحرك أو التصرف الفردي المرتبط بمصلحة أو شأن فردي أو مصالح ضيقة ترتبط بجماعة أو مجموعة محدودة بعينها.. لذلك فإن من الطبيعي أن يرتبط الفعل الثوري الحقيقي بإرادة شعبية غالبة ليكون حقا فعلا ثوريا كاملا مكتملا لا تشوبه الشوائب ولا يشكك فيه المشككون بل ولا ينقسم حوله الرأي وتتواجد إزاءه الإرادات لأنه إذا لم يكن كذلك فقد يكون مدعاة لفساد ومفسدة وسفك دم واحتراب واقتتال.
تأييد شعبي
ومن هنا يأتي الإجماع شبه الكلي والتأكيد على كون ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر حدثا ثوريا فعليا لا خلاف عليه.. وذلك لارتباطه المباشر وشبه المباشر بالإرادة الجمعية الغالبة إن لم تكن الكلية المطلقة.. ولأن هذا الحدث كان حدثا ثوريا حقيقيا فقد التف حوله الشعب اليمني مؤيدا ومريدا وطامحا في تحققه تحققا مثاليا حدث بعدها وإن شابه شيء من قصور أو تقصير إلا أنه يظل فعلا ثوريا مكتملا اعتمادا على تكونه على أساس متين تمثل في رغبة شعبية شبه مطلقة سواء في جنوب الوطن أو في شماله.. ومن المهم الإشارة إلى أنه لو لم يلق ذلك القبول والتأييد الشعبي الواسع من أبناء اليمن شمالا وجنوبا لما كان تحقق ما تحقق له من نجاح ونفاذ ولما ظل يتمتع بمطلق التأييد وكامل الإرادة والحب والشغف والتغني به كحدث ميلاد جديد لوطن كبير وشعب أكبر ولما ظل فيما وصل إليه من مرتبة حب وتقديس وإعزاز لزمن وصل إلى نصف قرن. لو كان حدثا غير ثوري أو كان انقلابيا -كما يزعم البعض- ممن في قلوبهم مرض لما دام واستمر كل هذا العمر فعلا مقدسا مسلحا بغاياته وأهدافه النبيلة ولانكشف لو كان سوى ذلك في عمر أو جزء واقصد من هذا بكثير جدا لان الفعل التغييري الفردي أو الانقلابي أو الناتج عن رغبة محدودة ورؤية قاصرة مقتصرة سرعان ما يعرى وينكشف ما وراء أستاره ومن غير الممكن أن يظل لكل هذه العقود من الزمن واقفا بعزته وشموخه في وجه كل التحديات والمتغيرات!!
جهود وثمار
وعودا على ذي بدء فإنه لمن المهم والجدير جدا الإشارة إلى أن الفعل الثوري في صفته فعل جمعي غالب وأنه من الممكن أن تكون جماعة أو أفراد ما وراء انطلاق شرارته نعم يحدث ذلك ولكن حين يكون تحرك تلك الجماعة والأفراد فعلا قياديا تقف وراءه غايات شعبية جمعية خصوصا حين يضيق الظلم والجور بأهله ممن يتولون القيادة والسلطة وهو بالفعل ما حدث في ثورة اليمن الخالدة السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر.
ومن الطبيعي فعلا أن يكون لكل فعل ثوري بداية ربما يتولاها أو يتزعمها جماعة بقصد الفعل الثوري الجمعي الهادف للانعتاق والانفلات من قبضات الظلم والقهر والجوع والتشرذم التي تمثل آفات ليس وراءها سوى الفناء أو التقهقر بواقع وعيش بني البشر على أقل تقدير.
وفي ثورة اليمن الكبرى سبتمبر وأكتوبر كان هناك قيادات وجماعات وتشكيلات اجتماعية وسياسية وثقافية كان لها الدور الهام في تجسيد وقيادة وتوجيه العمل الثوري ومن أهم ما كان له فعل مؤثر في السياق الثوري وإنجاحه الجمعيات والمنظمات والحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتي كانت بمثابة مشاعل نور وهداية للثورة والثوار.. والمتابع لثورات العالم أجمع سيجد أن الثورات لها من يوجهها ويقودها بعد أن تكون قد وصلت أوج ذروتها الحاجاتية لدى الشعب فمثلا لم تأت الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا عام 1917م نتيجة تذمر الفلاحين من سوء معاملة الكبار كبار ملوك الأرض لهم أو لغضب عمال الصناعة من تدني أجورهم فقط وإنما جاءت بعد حركة توعية جماهيرية تعرفت الجماهير الروسية على قوانين ومظاهر التطور الاجتماعي فاندفعت بحماس لترسي أسس الثورة الاشتراكية بعد إسقاط حكم القياصرة.
وكذلك هو الحال بالنسبة لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر اليمنيتين فلم تأتيا لمجرد أن فلانا أو جماعة أو عددا من الضباط مثلا في صنعاء تمردوا على حكم الإمام ورفضوا الملكية وأعلنوا النظام الجمهوري كما يصف البعض الثورة السبتمبرية أو لأن عددا من المقاتلين في عدن ساءتهم أوضاع البلاد في ظل حكم الاحتلال فحملوا السلاح من أجل الحرية والاستقلال فحسب بل جاءت هذه الثورة في جزئيتها شمالا وجنوبا كثمرتين من ثمار جهود منظمات وهيئات شعبية لها أدوارها الدؤوبة في النضال من أجل الإصلاح والكفاح المتواصل من أجل التغيير والتوعية المستمرة كما يشير الدكتور علوي عبدالله طاهر في كتابه “المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية ودورها في الحياة الثقافية ونشر الوعي الوحدوي” والذي يشير أيضا إلى أن الثورة اليمنية جاءت تتويجا لنضالات الشعب اليمني المتواصلة من خلال هيئاته الشعبية لتأكيد إرادته وإثبات وجوده وإصراره على التغيير في واقعة العمل على تحقيق ثورته ثم وحدته.
ويشير المؤلف في هذا الكتاب إلى أن المقصود بمنظمات المجتمع المدني في اليمن أو الهيئات الشعبية هي تلك التجمعات الجماهيرية الطوعية التي أنشأها اليمنيون في الداخل والخارج قبل الثورة للمطالبة بإصلاح الفساد في الحكم والإدارة والحث على تطوير البلاد وحل مشكلات المواطنين أو النضال من أجل وحدة الأرض والإنسان ومحاربة التجزئة والفرقة وأيضا للدعوة لرعاية مصالح اليمنيين في الداخل والخارج في وقت كانت اليمن فيه ترزح تحت نير حكم استبدادي متخلف في الشمال واحتلال أجنبي في الجنوبي.
الإصلاحات أولاٍ
إن من يروم تتبع نشوء وأدوار ما هدفنا تناوله وهو المنظمات الاجتماعية والتشكيلات الثقافية في قيام الثورة شمالا وجنوبا سيلزمه لا شك أن يجري بحث مطولا وسيكون عليه أن يتوقف كثيرا في محطات كثيرة وأمثلة لا يكاد يدرك عدها ولكن حسبنا أن نتوقف عند الأبرز والأكثر فعلا وظهورا من تلك الروافد المغذية والمحكمة لوجود فعل ثوري انتقل باليمن واليمنيين من عصر كان أبرز سماته أو صفاته الظلام الدامس الحالك جهلا وظلمات وتخلفا ورجعية ضد عجلة التاريخ الطبيعي والتي يظل سيرها قدما ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يثبطها متأخر أو يدركها نسيان..
وبالتتبع والإمعان فإننا سنجد أن الحكم الإمامي كان قد عمل عامداٍ قاصداٍ على محق العلم وفسخ المعرفة وسعى لتثبيت دعائم ليل الجهل والخرافات خوفاٍ من بزوغ نور المعرفة الذي يتيح للناس رؤية فساد الحكم وظلم الحكم كما يقول الدكتور علوي طاهر مؤلف الكتاب سالف الذكر والذي توقف ملياٍ عند ما أسماه الهيئات الإصلاحية في شمال الوطن متناولاٍ أثرها في الحياة الثقافية ونشر الوعي الوحدوي.. إذ يقول المؤلف مضيفاٍ:
“…وتحمل بعض الشبان المستنيرين مسؤولية إزالة الجهل والتخلف من المجتمع فخاضوا غمار معركة طاحنة مع الحكام ودخلوا معهم في صراع عنيف ومرير إذ أعلنت صيحات بعضهم تطالب بالعلم ونشر التعليم وناضلوا من أجل تبديد ظلام الجهل.
لقد كانت ثورتهم في أشد عنفوانها فانطلقت ألسنتهم من عقالها لنقد جهاز الحكم المتردي فطالبوا بالإصلاح في المجالات المختلفة ودعوا لنشر العلم والثقافة في ربوع البلاد وإرسال البعثات التعليمية وفتح المدارس والمعاهد وجاهروا بآرائهم وطالبوا بإدخال عناصر قيادية كفؤة إلى جهاز الحكم لتسير باليمن إلى طريق التقدم والرخاء والنهوض بمستواها العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وطالبوا بإقامة المشاريع الحيوية التي تعود على اليمن واليمنيين بالنفع والخير مثل شق الطرقات وبناء المدارس والمستشفيات والمصحات وإعادة بناء السدود والاهتمام بالزراعة”.
بالطبع حديث مؤلف الكتاب هذا يصف البدايات الأولى لأي تشكلات أو منظمات اجتماعية وذلك في تقديرنا في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي أي في عهد الإمام يحيى الذي لم يجد بداٍ من الانصياع لتلك الضغوط وإبداء رغبته الكبيرة في إجراء إصلاحات عندما بدأ يشعر بخطورة مثل تلك المواقف والتحركات وفي ذات السياق بدأ ظهور الكثير من الشباب على واجهة الحياة السياسية والاجتماعية والذين كانوا يكيلون الكثير من الانتقادات للإمام وحكمه وهو ما بدأ يعطي مجالا للناس أوسع للتأمل والتدبر وحتى التجرؤ على انتقاد هيئة وشكل وطريقة الحكم ويخلف لديهم وعياٍ ثورياٍ رافضاٍ أخذ يتنامى ويشب ويشكل رأياٍ لشريحة كبيرة من أبناء الوطن وخصوصاٍ منهم الشباب المستنير والطامح إلى حاضر آمن مستقر ومستقبل أفضل وأحدث مما كانوا وكان الوطن عليه حينها.
الحكمة يمانية
ومن نتائج تلك التحركات والتطورات نشأت هيئة النضال في صنعاء في العام 1936م بزعامة أحمد المطاع وتأسست لها فروع في كثير من مناطق اليمن ومحاولة كثير من أعضائها التسرب إلى نظام الحكم والإضرار به من الداخل وكان من أبرز تحركات أو أنشطة هذه الهيئة إصدار مجلة الحكمة اليمانية بعد اتفاق بين زعيم هذه الهيئة والأديب الكبير أحمد عبدالوهاب الوريث الذي ترأس تحرير المجلة وصدر العدد الأول منها في ديسمبر 1938م معرفاٍ عنها كونها “مجلة علمية جامعة شهرية” وكان شعارها “الإيمان يمان والحكمة يمانية” وكانت هذه المجلة تطبع في مطبعة المعارف بصنعاء بالرغم من ذلك فقد مثلت مشعل نور وموقد ثورة وقد حملت صفحاتها كتابات كان لها أثر كبير في التوعية الثقافية والاجتماعية والثورية وكان من أبرز من كتب وأثر ووعى على صفحاتها مثلا عبدالله العزب وأحمد الحورش وأحمد البراق وأحمد المروني إلى جانب المؤسسين الرئيسين المطاع والوريث..
منظمات وحركات
ثم ظهر بعد ذلك وفي نفس العام تقريبا 1938 حزب الأحرار اليمني في صنعاء نتيجة كم كبير من الكبت السياسي والقهر الاجتماعي وفي ظروف شهدت ملاحقات للشباب المستفيدين والمطالبين بإصلاحات في نظام الحكم وتطوير البلاد والاهتمام بقضايا الناس في ظل تلك الظروف الصعبة وقد أسسه مجموعة من الشباب وأقروا بعد اجتماعهم برنامجا إصلاحيا أسموه برنامج حزب الأحرار اليمني وظل سريا هذا البرنامج نظرا بالطبع لسرية التشكيل الذي أسسوه ولسرية نشاطهم وكان مما يتضمنه هذا البرنامج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنزول عند أوامر القرآن والمحافظة على الشريعة الإصلاحية والتفاني في حب الوطن والسعي في إعلاء كلمته بالوسائل المختلفة والمحافظة على استقلاله وإيقاظ الأمة ونشر الثقافة والاتصال والتواصل بالممالك العربية وعرض قضايا وأوضاع اليمن عليها والتواصل أيضا بأبناء الوطن المهاجرين في الخارج إلى جانب المطالبة بإخراج أموال الأوقاف وصرفها في العلم والتعليم وإلغاء الجمارك ومحاربة الرشوة وتوفير المرتبات الشهرية المناسبة للموظفين والسماح للعلماء بالوعظ والإرشاد وغير ذلك من المطالب أو الأهداف التي تضمنها البرنامج.
ثم ظهرت بعد ذلك تشكيلات وجماعات ومنظمات أخرى عملت كثيرا على تغيير وعي العامة والخاصة من أبناء الوطن ورفع مستوى التفكير في وسائل وسبل العيش الحديث كرست مبدأ الرفض للظلم والتجبر والطغيان ومن مثل تلك المنظمات والتشكلات هيئة شباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العام 1941م الأدباء والمثقفون والشعراء الذين استدعاهم الأمير أحمد (الإمام أحمد لاحقا) إلى مجلسه وندواته في تعز وذلك لتعزيز ودعم موقفه في إرادة الخلافة وولاية العهد فقد تحول أولئك الشباب من المثقفين والأدباء والكتاب والشعراء إلى طاقات إبداعية شابة وثائرة بعد اكتشاف ما يتصف به الإمام أحمد الذي كانوا يعقدون عليه آمالا كبيرة من جبروت وظلم ففرروا وانضموا إلى من سبقهم بالفرار إلى عدن..
ثم ظهرت جمعية الإصلاح في إب عام 1943م وقد أسسها مجموعة من الشباب الأدباء والمثقفين ورجال الدين المصلحين الذين أدركوا مناورات الأمير أحمد بن يحيى حميد الدين سابقاٍ ورفضوا الانضمام إلى من استمالهم إلى مجلسه يائسين من تغيير عقلية أبيه الإمام يحيى وهو الأمر الذي كان مأمولاٍ ممن تجاوبوا له وانضموا إلى مجلسه وحضروا ندواته وفعاليته التي كان يهدف من ورائها إلى تحقيق أكبر قدر من الدعم لاختياره ولياٍ للعهد..
كما ظهرت أيضاٍ جماعة البريد الأدبي وذلك بعد انتقال الكثير من الأدباء والمثقفين من شمال الوطن إلى جنوبه هروباٍ من الظلم والاستبداد والملاحقة فقد بقي الكثير من الشباب في صنعاء وتعز وإب والحديدة ومدن أخرى ولكنهم ظلوا صامتين ومغلوبين على أمرهم مفروض عليهم التغاضي عما يجري أمامهم من ظلم وتعسف ما لم فسيكون جزاؤهم السجن والاعتقال والتشرد كما حصل لرفاقهم الذين اعتقل منهم الكثيرون وعذب الكثيرون فيما فر البقية جنوباٍ وعاشوا بعيدين عن أهلهم يملأهم الرعب والخوف من السجن والتعذيب الذي كان مصيرهم المحتوم..
وقد أسس وأصدر أولئك الشباب مجلة «البريد الأدبي» وهي مجلة أدبية استوعبت أقلامهم وأقلام من فروا من يد البطش والسلطة فقد دامت المراسلات والاتصالات الفكرية الأدبية بين أولئك الشباب وكانت هذه المجلة التي كانت تخط باليد وسيلة التواصل والاتصال بينهم وكان من أبرز كتابها أحمد الشامي وإبراهيم الحضراني وأحمد المروني وعلي العنسي وعلي حمود الديلمي وأحمد باسلامة وزيد الموشكي وأحمد البراق وآخرون.. وقد ساعدت البريد الأدبي كثيراٍ على إبقاء نوع من التواصل الفاعل بين أولئك الشباب فكانت همزة الوصل فيما بينهم وعن ذلك يقول الأديب أحمد الشامي: «كانت رسائل إبراهيم الحضراني الأدبي ترد أسبوعياٍ وأقرأها على الزملاء ثم نبعثها مع تعليقات لمن يعن له أن يعلق عليها من أدباء ذمار ومنهم الأديبان الشاعران علي حمود الديلمي وعبدالله يحيى الديلمي وإلى الحديدة وما أجابوا به أبعثه إلى إبراهيم الحضراني إلى تعز حيث زيد الموشكي ويحيى منصور وغيرهم من الأدباء والشعراء وهو ـ أي الحضراني ـ يبعث إلينا ما تلقاه وسميناه البريد الأدبي» كما كان هناك مراسلات بين جماعة البريد الأدبي وزملائهم في عدن والمهجر تدور معظم موضوعاتها حول المعاناة المشتركة ومصير البلاد وقضايا الشعب والوطن.. وذلك بدوره ما بذر وأنشأ ودعم حساٍ توعوياٍ ناضجاٍ ونزعة ثورية كان لها كبير الدور في تحقق الثورة اليمنية شمالاٍ وجنوباٍ..
اهتزاز عرش
ومن هنا فقد أدى كبت الحريات الفكرية في شمال الوطن إلى ظهور طائفة من الناس تحرم كل جديد وتضطهد المفكرين المتنورين وتطارد رجال الدين المصلحين وتعتقل الشباب المتعلمين بدعم من السلطة الحاكمة التي كانت تمنع كل ما من شأنه توعية الناس وتبديد جهالتهم وفي ظل ظروف الكبت ـ كما يقول الدكتور علوي في كتاب السالف الذكرـ وجد المثقفون اليمنيون أنفسهم يعملون في ظروف غير طبيعية وأن مهمتهم شاقة ومسؤوليتهم كبيرة فلم يكن أمامهم من وسيلة سوى اللجوء إلى عدن «المستعمرة حينذاك» لعلهم يجدون فيها مكاناٍ يستطيعون أن يعبروا فيه عما في أنفسهم..
ويضيف علوي: وفي يوم 14 مايو 1944م وصلت إلى عدن أولى طلائع رجال الإصلاح الهاربين من ظلم الإمام يحيى وحكومته الفاسدة وكان على رأس هذه الطلائع الشيخ مطيع دماج..
وقد ظهرت في هذه الفترة العديد من التشكلات والتنظيمات والحركات الإصلاحية والثقافية والأدبية التي كان لها أثر كبير في التحرك نحو الثورة وفي ذلك السياق تأسس حزب الأحرار الدستوريين في عدن والذي حاول الشباب من خلاله استعادة شملهم وتنظيم عملهم من جديد والاتصال باليمنيين في الداخل والخارج والعمل على التنسيق مع المواطنين في عدن على ضرورة التصدي لآل حميد الدين وعملائهم في عدن والسعي من أجل إصلاح الأوضاع في شمال الوطن بكل الوسائل..
وقد عقد الشباب ضمن حزب الأحرار أول مؤتمر شعبي في عدن وكان مؤتمراٍ سرياٍ لأن أعضاءه لم يكونوا قادرين على المجاهرة بالعمل خوفاٍ من حكومة عدن آنذاك التي اشترطت عليهم عدم الاشتغال بالسياسة.. وبعد تأسيس هذا الحزب تزايد نشاط جماعات المعارضة بعد اتخاذ مدينة عدن مقراٍ لهم واستطاعوا عبر كتاباتهم وقصائدهم أن يعكسوا معاناة الشعب في الشمال وأن يحدثوا تأثيراٍ قوياٍ في صفوف الشعب شمالاٍ وجنوباٍ إلى الحد الذي بدأ يهدد الإمام يحيى الذي بدأ يشعر إزاءه بالرعب وهو ما ساقه إلى أن يوحي إلى ابنه أحمد بأن يطلق تصريحات زائفة توحي بالرغبة في الإصلاح لغرض الحيلولة دون التفاف الناس حول حركة المعارضة ومحاولة عزل قياداتها عن الجماهير.. ولكن الحركة لم تستسلم قط بل زادت من نشاطها وتأثيرها ما دفع بالإمام إلى إرسال ابنه للتفاوض مع الشباب المعارضين في عدن ومحاولة إقناعهم بالكف عن معارضة نظامه أو مهاجمته وأعطاهم وعوداٍ بالإصلاح الذي يرغبون فيه..
انشقاق أمير
في تلك الأثناء حدث أمر مهم وهو هروب الأمير إبراهيم ابن الإمام يحيى والذي أحدث هزة عنيفة في القصر الملكي وخارجه أيضاٍ وقد استفادت حركة المعارضة من هذا الحدث استفادة كبيرة خصوصاٍ بعد انضمام الأمير إبراهيم إليهم وقد لقبوه حينها بـ«سيف الحق» وتحالفوا معه وأسسوا معاٍ «الجمعية اليمنية الكبرى» تأسست هذه الجمعية في عدن في الرابع من يناير 1946 بهدف دعوة اليمنيين إلى الإخاء والتعاون والتضامن والإرشاد إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله والعمل بهما وتثقيف اليمنيين داخل الوطن وخارجه في القضايا الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية إلى جانب الاتصال بالهيئات والمنظمات العربية لطلب دعمها ومساندتها..
وعقب تأسيس هذه الجمعية رصدوا بيانها الذي أوضحت فيه أهدافها نزل أعضاؤها ومؤسسوها إلى صفوف الجماهير وقطاعات العمل والتجار والشغيلة في عدن والتقوا بهم في أماكن أعمالهم وفي المجالس والنوادي وشرحوا لهم أهمية وأعمال هذه الجمعية وأهم أهدافها ونشطوا في جمع التبرعات لصالح الجمعية من العمال والتجار في الداخل والخارج وقد لاقت الجمعية ونشاطها تجاوباٍ كبيراٍ من قبل أفراد الشعب الذين تحمسوا لنشاطها وأهدافها لتبدأ نتيجة لذلك ممارسة نشاها بشكل علني وتطالب جهاراٍ وبصوت عالُ بالإصلاح والتغيير وتخليص اليمن من فساد وعبث المفسدين الظالمين كما جاء في كتاب المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية للدكتور علوي..
وقد كان لصحيفة صوت اليمن في عدن كبير الدور في تفعيل نشاط المعارضة بالإضافة إلى صحيفة السلام التي أصدرها الشيخ عبدالله علي الحكيمي من بريطانيا التي فعلت الحراك الثوري الرافض خصوصاٍ بعد أن أوقفت السلطات البريطانية في عدن صحيفة صوت اليمن ومنعتها من ممارسة النشاط السياسي المعارض لحكومة الإمام..
تنظيم الضباط الأحرار
كثيرة هي المنتديات والمنظمات والحركات التي دفعت بالفعل الثوري وكان لها أثر كبير في ولادة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في شمال الوطن وبعد ثورة الرابع عشر من أكتوبر في الجنوب والتوقف عند كل منها يحتاج إلى مساحات من الوقت والمكان والبحث ولكن أوردنا ما أمكن احتواؤه وأفاد إيراده لهذه المناسبة ونحسب أنا محقون حين نختتم هذه الإطلالة بالتوقف عند حركة من أهم الحركات والتنظيمات التي أدت إلى إشعال الفعل الثوري وإسقاط الحكم الإمامي في الشمال وهي حركة تنظيم الضباط الأحرار فلا شك في أن هذا التنظيم كان له الدور الطليعي في تفجير ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وهذا التنظيم بالطبع لم يكن وليد المصادفات أو اللحظة وإنما كان ناتجاٍ عن تمخضات فكرية وسياسية زخرت بها خمسينيات القرن الماضي كامتداد طبيعي لإرهاصات الأربعينيات -من قبل- والثلاثينيات فمنها استمد وجوده ومن سابق الحركات والانتفاضات والتمردات شروط نجاحه ومن الشعب إلهامه وقوته كما يقول اللواء الركن ناجي علي الأشول في كتابه (الجيش والحركة الوطنية) ومن المعروف أن هذا التنظيم منذ نشوئه الأول لعب دوراٍ هاماٍ في مقارعة الظلم والاستبداد وتطوير مسيرة الحركة الوطنية..