الاحتواء لقاح الرّوح
أشواق مهدي دومان
ليست أجسادنا فقط من تفتقد تلقيحات لمقاومة الأمراض المعدية وغيرها بل إنّ الأرواح هي الأخرى تفتقر للتّحصين ، فنحن نجهل تارة ونغفل أخرى ثقافة هي من صميم العقيدة المحمديّة القرآنيّة الإسلاميّة ، نتغافل عن ثقافة تحصينيّة ، هي مصل ولقاح مقاوم وقوي ، وهو الأجدر وهو الأنجح والأنجع في تحصين الرّوح والنّفس ، وحين تؤتي ثمارها نحصل على تحصين أجسادنا من كمائن وشباك شياطين الإنس و الجن ، تلك الثقافة المغيّبة في أعراف وعادات طغت على الخلق النّبوي المحمّدي الشّريف ، والذي وصف فيه اللّه ( تعالى ) سيّدنا محمّد( صلّى اللّه عليه وآله) بالرّحمة فقال :” وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين ” فابتعد الرّجال عن مفهوم الرحمة زِنة الجبال ففهموا الرّجولة ( بتفاوت ) بأنّها الغلظة والقسوة ورفع الصّوت والسّب واللعن والبعض الضّرب واستعراض العضلات ، و بأسماء مستوحاة من عُقد العظمة، والأنا المتضخّمة ألغوا :” فبما رحمة من اللّه لنت لهم ، ولو كنتَ فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك ” ، وهنا الانفضاض من الحول معناه التّبعثر الذي يصاب به المجتمع جرّاء استغفال وتهجير اللين ، واستبداله بالعنف والاستقواء ، وحين أبدأ بالقول باسم الرّجولة ذلك لأنّ الرّجل هو المخاطب والمعنيّ الأوّل بالخطاب القرآني ، وهو قائد زمام مبادرات الاحتواء التي لن تكون بالقسوة والغلظة والعنف سواء مع بني جنسه من الرّجال أم مع حواء الأمّ والزّوج والأخت والبنت ، وحتّى الغريبة.
ولعلّ الاحتواء لحواء هو ما أريده من هذه المقالة ولعلّه الأنسب لمفهوم الاحتواء باعتبار آدم هو اللبنة الأولى والمؤسس للأسرة وربّها الذي لو أتقن فن احتوائه لحواء ما انحرفت باعتبارها اللبنة الثانية في تكوين الأسرة أو الشّريك المؤسّس معه.
السّؤال : ما الدّاعي لتعظيم هذه الأمور وفتح مواضيع بعيدة عن مواجهة العدوان ؟! لتكون الإجابة : إنّ الحرب النّاعمة حين أجريَت في المجتمعات لم يكن في يدها بوق يصيح : ها أنذا قد أتيتُ فاحذروني وتحصّنوا ضدّي ، لكنّها مرميّة من على بُعد قارات عبر الأثير إلى كلّ بيت وربّما كلّ نفس ، وكم حرفت من نفوس اقتربوا منها بخطوات بسيطة فما رأوا أنفسهم إلّا وسطها ، هذه الحرب هي جزء رئيس من الحرب الميدانيّة بل هي من يسند الحروب الميدانيّة ، وهي ما لن ييأس العدوّ العمل بها ليل نهار في غير توانٍ، ولا يمكن التّغافل عن خطورتها وقد انتشرت القصص التي تشيّب الشّعر ، والحكايا التي ما كانت على البال ، ولا تخيّلناها تحدث في مجتمعنا يوما، و قد سمعنا عن علاقات مشبوهة ، وكلام مشبوه، ومواطن شبهة حتى اشتبهت ، وتراكمت ، وتقاتلت، واصطدمت في أنفسنا علامات التّعجب مع الاستفهام و التنّكر والاستغراب ، وصُدمنا بكثير ممّن كنّا نحسبهم رموزا للقيم ؛ فخيّم الصّمت عجبا ، وبكت الروح أسفا على مجتمع يكاد ينشقّ وينسلخ عن قضاياه وإيمانه و قيمه ، وأهم قيمه وهي العفّة المضمونة في : ” عفّوا تعفّ نساؤكم ” ، عفة رجاله قبل نسائه ، فالرّجل ليس بالضّرورة أن يكثر المواعظ ليزرع العفّة بقدر ما يتعامل بها سلوكا ومذهبا وذهابا بين النّاس ، بمعنى أنّ مبدأ القدوة هو أنجح أسلوب لتربية أمّة بأكملها ، تلك التّربية التي يشترك فيها الرّجل والمرأة ويتقاسمون المسؤوليات ، ولكنّ الأساس والبذرة والبداية تكون من عند الرّجل ، وما يؤكّد أنّ الرّجل هو قائد زمام كلّ المبادرات لتربية المجتمع على الفضيلة و القيم القرآنيّة هو ذلك الاعتناء و التقصّد من الخالق في مخاطبة النفس للذّكور بتضمين النّهي للإناث في معرض خطاب الذّكور ، مثلا حين يقول (تعالى ) مخصّصا واو الجماعة بالخطاب :” ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها ومابطن ” ، ” ولا تتبعوا خطوات الشيطان ” ، وغيرهما من عشرات الآيات التي فيها الخطاب للذكور واحتواء ذلك للإناث ليس تصريحا وإنّما تضمينا ، واللّه من قال : ” الرّجال قوّامون على النّساء ” ، ولنرَ قصص الأنبياء فكلّ الأنبياء رجال ولم تكن امرأة( قط ) ّ نبيّة ، لكنّها تحت جناحه هي أمّه وأخته و زوجه و بنته ، وكلّهنّ لم يتحرّكن لرفع لواء الإسلام إلّا اتباعا للأنبياء ، وإن كان منهنّ أنموذجا نادرا لمن زاغت ولم تستقم وقد أقيمت عليها الحجّة ولكنّها ما استوعبت الإيمان وظلّت في غيّها فكانت من الغابرين (زوج نبي اللّه لوط) ، بينما نرى سيّدنا يوسف الذي تحوّلت امرأة العزيز( الغريبة عنه ) إلى مؤمنة عفيفة حَسُن إخلاصها ، وقُبِلت توبتها على يديه ، وكلّه لم يكن إلّا بثقافة الاحتواء لها حين كان قدوة في عفّته ما أغناه عن كلّ بيان رغم عناية المرأة و تخصيص و تركيز دورها هنا على الإغراء الذي انهزم بثباته ورقابته للّه، مع أنّ الإغراء هو بمثابة فيروس قاتل سريع التّنقّل ، وهو خطير يمكن تعريفه و توضيحه و إبرازه في قدرة امرأة واحدة على اختزال وإغراء ألف رجل لو سمح لنفسه بمجرّد الاقتراب منها كموطن فتنة ورمز إغراء لو كانت من فصيل : خضراء الدّمن ؛ ولهذا خوطب الرجال فكان : ” لا تتبعوا “، ” لا تقربوا ” ، ومع كلّ هذا ففي قدرة الرّجل أن يحرف بوصلة الفتنة في المرأة من وسيلة غواية إلى رمز ومدرسة وجامعة هداية ، وبسلوك سهل وفي متناوله و ذلك حين يتفنّن ويتقن فن الاحتواء لها فسيحيي فيها الفضيلة وسيوجهها لمحاربة بنات جنسها اللواتي في الطّرف المضاد للفضيلة وستنتصر المرأة الفاضلة على البغيّة فعين اللّه ترعى كلّ طهر ونقاء، وناموس اللّه قائم على انتصار الفضيلة والخير على الرذيلة والشّر ، وهنا أجيال كاملة ستتبنّى قضايا الحقّ ، وكلّه بالاحتواء للمرأة مع القدوة ، فالرّجل متقدّم عليها في حكمة وبلاغة وإعجاز القرآن حتّى لو خصّص وذكر المرأة كمخاطب فخطاب اللّه للرّجل متقدّم عليها :” قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم، و……، و” ثمّ يلحق المؤمنات بعد المؤمنين بحرف العطف ، والعطف بمعناه النّحوي المرتبط بمعناه اللغوي الدّلائلي و الذي يعني الانضمام في الحكم ما يوحي بتوحيد المصير فلو كانت استقامة للرّجل لكانت استقامة للمرأة ، وأكبر دليل على أنّ الرّجل هو المسؤول عن صلاح المجتمع قبل المرأة المسيرة القرآنيّة فقد بدأت برجل ( عليه أزكى السّلام ) ، هذا الرّجل أتقن فن الاحتواء للمجتمع بأكمله وهو من جيّش للحقّ والفضيلة حتّى أغاض شياطين الإنس والجن، وهو من أسّس للمدينة الفاضلة بمسيرة القرآن وما علينا إلّا أن نسير على خطاه وخطا حامل لوائه السيّد القائد / عبدالملك بن البدر الحوثي، الذي أتقن بدوره فن الاحتواء بصبره وسعة صدره ورجاحة عقله ونور بصيرته ، استطاع أن يتربّع على عروش القلوب في الرّجال كما تربّع فينا نحن _ معشر النساء _ لتحسبوا كم امرأة قرآنيّة باتت ترى من السيد القائد: محمّدا وعترته ؟!
فيا معشر الرّجال : أتقنوا الاحتواء لنسائكم ، الاحتواء الذي ليس معناه انتقاص الرّجولة الذي يتشوّه معناها في اعتقادات مسبوكة في مقولات كــ:
“ما عاشت من تجي تفهمني “،
“وما خلق الله المرأة التي تفرض شخصيتها عليّ و أنا فلان بن علّان “،
“وما كنت رجلا لو استمعت لتوجيه امرأة “،
” والمرأة مابش لها قول “، ” والمرأة تبسر وتسكت “، والرّجّال حامل عيبه ” ، ” وأنا الرّجّال و ما عليش إلا تقولي حاضر ” ، وغيرها من توجيهات للمرأة لا تخرج عن : ما و لم وليس ، ومثل ذلك الاستبداد ليس إلّا عجز وفشل الرّجل في احتواء المرأة ، الاحتواء الفكري الرّوحي العاطفي الذي يجعلها فيما بعد خاتما في إصبعه وعينا في جبينه ونبضا في قلبه ،،
احتووا نساءكم باللين والقدوة والحبّ والرّحمة بدلا من معاملتها كمجرم حرب وقسوة تخرج منها إمّا منحرفة أو منتقمة ومستعدة لأن تذبح رَجُلها على غير قِبلة ،
ابتعدوا عن التّهميش لها وتوجيهها بالقمع وتجميد وتقزيم وحصر عاطفتها لوقت الغريزة ،
المرأة : مولّد لا ينضب من العاطفة ونهر لا يجفّ إلّا بجفاف معاملة الرّجل لها ، ويكون ذلك حين تفتقد المرأة حنان الأب والأخ والزوج والابن فإنّها قد تبحث عن من يشبع تلك العاطفة المشحونة التي خلقت بها من ربّ العالمين وهو العالم بخلقه ،
اعلموا أنّه حين يقسو الأب و يغلظ القول لابنته فإنها تصعّر خدّها لأيّ توجيه ونصح وتربية ،
وحين ينصرف الرّجل لإفراغ همومه لصديقته الفيسبوكيّة أو التلجراميّة أو الواتسآبيّة ويخبرها بكل صغيرة و كبيرة تاركا زوجه تتمنّى كلمة منه ونظرة حنان وجملة مودة فإنّها (لو لم تكن متشبّعة من أبيها بالحبّ والحنان) قد تلجأ لمن يسمعها ما يشبع عاطفتها ،وأنّه حين يتغطرس الأخ بمجرد أن يتغير صوته (إيحاء بالبلوغ) ويبدأ بكبت أخته وضربها وتجريحها بدعوى أنه يربّيها وأنّه رجل البيت بعد والده ، فإن ذلك يجعل منها بركانا مستعرا مستعدّا للانفجار ، وأنّه حين يوجد الولد العاق العاصي لأمّ قضت زهرة شبابها لتربيته طفلا فيتنكر لها ويغلظ عليها فربما تدعو عليه بما يهلكه ،
ولستُ ( هنا ) لأبرّر لأيّ انحراف للمرأة ، ولكنّي أتكلّم من خفقاتها ، ومن بين أضلعها، ومن ملح دمعها ، وأحاول أن أوصل صوتها الخجل وأحاول أن أضع نقاطا يتجاهلها ويستهين بها الكثير ويعدها من الأمور التّافهة التي من العيب ومن غير اللائق أن يكون فيها مصارحة مفيدة متلمّسة لما فيه صلاح النّفوس واستقامتها ، وأمّا عنّي ( شخصيّا ) فقد رحل أبي نعم لكنّه مضى تاركا إرثا وكنزا وبحرا من الحبّ والحنان والرّحمة التي رواني بها ما يجعلني أكتفي بها إلى أن ألقاه في مستقر رحمته ، كما أنّه أدّبني لا بكثرة مواعظه وتعنيفه لا ، وإنّما بكونه قدوة فلم يزدن خلقه وطهارته وعفّته وسلوكه وثباته إلّا أن يزيد يقيني بأنّ محمّدا بن عبد اللّه لم يمت طالما وأبي اقتدى به ، فهذا أبي بشر عادي فكيف برسول ربّ السماوات والأرض وكفى؟!