الإعدامات الجماعية تحاصر الحكم السعودي
د. سعيد الشهابي
ربما يمكن فهم دوافع الحاكم المستبد لاعتقال من يعارضه وذلك لأبعاده عن ساحة الصراع ووقف التحريض، ولكن من الصعب استيعاب سياسات التطرف والإمعان في التنكيل والاضطهاد والموت مع المعارضين من قبل حاكم يريد التعايش مع شعبه. هذه الصعوبة تدفع للاعتقاد بوجود نوازع غير انسانية أو أخلاقية لدى ذلك الحاكم وأمثاله من الذين يتعاملون بالقسوة مع مواطنيهم الذين يفترض أن تقاسموا معهم الثروة وتبادلوا معهم العيش المشترك والاعتراف المتبادل.
وكما يقال فإن “الحكم يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم”. ولذلك فالحاكم الذي ينتهج العنف والغلظة في التعامل مع مواطنيه يقطع الأواصر معه ويؤسس لثقافة استئصال على المدى البعيد، لا تبقي ولا تذر. من هنا يستغرب البعض حالة الاضطراب التي تعيشها بلداننا العربية والإسلامية، وكيف استبدلت ثقافة الحوار والسجال البناء بلغة الدم والانتقام والتصفية الجسدية والتعذيب، لذلك بقيت هذه الأمة بعيدة عن التطور والتماسك. فالتطور لا يقاس بارتفاع ناطحات السحاب التي تشيد على جماجم الأبرياء، أو الجيوش المدججة بأحدث أدوات الموت أو بالدعاية التي تروجها الاقلام المأجورة التي يبيع أصحابها ضمائرهم لكسب حظوة لدى الحاكم الجائر.
هذا الحاكم الذي يعتبر اعداء الأمة ومحتلي اراضيها حلفاء معه في حربه مع شعبه وجيرانه، لا يتوفر على فرص كبيرة للبقاء، لأن الشعوب لا تموت وإن خضعت للحاكم الظالم أو المحتل الغاشم حقبة من الزمن. السياسة فن الممكن، هذا ما يقال لتبرير تغييب القيم والأخلاق والمبادئ عن التعامل السياسي، ولكن هل يمكن بناء امة أو حضارة على الظلم والكذب والخداع والتوحش؟ واذا كان عالم اليوم محكوما بنظام عالمي يفرضه القوي على الضعيف، ويمتطي صهوة الجواد فيه اشخاص معتوهون لا يخفون عداءهم للآخر المختلف معهم فكرا أو ثقافة أو دينا، فإن هذا الحال لا يستقيم على المدى البعيد لأنه مغاير للسنن التي تقضي بأن العدل أساس (بقاء) الملك، وأن الشعب يجب أن يكون مصدر السلطات بالإضافة لكونه مصدر شرعية الحاكم.
في الأسبوع الماضي أقدمت السلطات السعودية على إعدام 37 شخصا، اغلبهم من المنطقة الشرقية بدعاوى واهية لم يصدقها الكثيرون، ولم يعتبروها، حتى لو كانت صحيحة، مبررا لإزهاق أرواح هذا العدد الكبير من البشر. بعض هؤلاء الشباب لم يبلغ الحلم، وبعضهم علماء دين، وآخرون اساتذة ومعلمون ورياضيون. وربما شارك بعضهم في مسيرة احتجاجية أو طرح مطالبات بالإصلاح السياسي والعدالة في توزيع الثروة، ولكن هل الذبح والصلب عقوبة تتناسب مع ذلك؟ بعض مقاطع الفيديو التي بثت على وسائل التواصل الاجتماعي أظهر المستوى المعيشي لبعض هؤلاء في المنطقة الشرقية التي تنتج الشطر الأكبر من نفط الجزيرة العربية، وكيف أن الثروة النفطية التي تنتجها مناطقهم لا ينفق منها الا النزر اليسير لتطوير تلك المناطق.
أما طرح عنوان “الإرهاب” لتبرير الإعدامات فلم يستسغه الكثيرون خصوصا ان بعضهم معتقل منذ اكثر من ستة اعوام، وان مناطقهم لم تشهد اعمالا إرهابية واسعة. وهناك تقزز عام من الاستغلال البشع لمقولة الإرهاب، وكيف ان ذلك انما يساهم في نشر الظاهرة بدلا من احتوائها. ففي بلدان كالسعودية والبحرين والامارات ومصر اصبح المصطلح يلصق بمن يمارس دورا سياسيا ويصر على المطالبة بإصلاح الأوضاع وإعادة صياغة نظام الحكم بما يناسب القرن الحادي والعشرين. وعبرت منظمة العفو الدولية بالقول أن الإعدامات “مؤشر على أنه لا قيمة لحياة الإنسان لدى السلطات التي تستخدم عقوبة الإعدام بشكل منتظم كأداة لسحق المعارضة”. واعتبرت المنظمة في تغريدة لها على حساب بتويتر “أن إعدام سلطات السعودية 37 شخصا في أعقاب محاكمات جائرة بحقهم، والحكم على عبد الكريم الحواج بالإعدام على خلفية جرائم ارتكبها عندما كان دون سن الـ18، انتهاك صارخ للقانون الدولي”.
الإعدامات الجماعية في المملكة العربية السعودية أثارت حفيظة الكثيرين الذين يتوقعون أن تصل هذا العام الى حوالي 300، بينما كان العدد العام الماضي 148. هذه الوتيرة التصاعدية لا تمثل مسارا مقبولا لنمط الحكم. فما اطول سجل السعودية في الإعدام. ففي حج سنة 1409هـ /1989 ألقي القبض على 20 حاجا كويتيا، اتهم منهم 16 بتدبير تفجير وعرضت “اعترافات” لهم على التلفزيون السعودي ثم عرضوا على المحكمة في جلسة واحدة لتلقي حكم الإعدام، ولم يسمح للمتهمين بتعيين محامين. وبعد بضعة أيام أمر الملك فهد بن عبد العزيز “بضرب أعناقهم بالسيف”، وتم تنفيذ الحكم عام 1989.
وفي العام 2016 نفذت الحكومة السعودية حكم الإعدام في 47 شخصًا مدعية ادانتهم بـ”الإرهاب” على رأسهم الشيخ نمر باقر النمر، أحد أبرز الوجوه الدينية المعارضة، بجانب بعض المنتسبين لتنظيم القاعدة. ونقل محمد النمر شقيق رجل الدين المعدوم بيانا صادرا عن أسرة النمر في بلدة العوامية، جاء فيه: “تفاجأ المجتمع السعودي والعالم صباح السبت (3 يناير 2016) ببيان وزارة الداخلية السعودية إعدام 47 مواطنا سعوديا وصفهم البيان بالإرهابيين. وكان من بين من نفذ بحقهم القتل سماحة الفقيه الشهيد الشيخ نمر باقر النمر رحمه الله الذي كان عالما فقيها مجتهدا تفخر به الحوزات العلمية ومثالا ونموذجا للحركة المطلبية والسلمية ودعا إلى تحمل المسؤولية وطالب بشجاعة بالحقوق المشروعة ورفض الطائفية لأكثر من أربعة عقود من الزمن”.
ظاهرة الإعدامات الجماعية ليست جديدة في المملكة، بل تعود لعقود سابقة. ففي 9 يناير 1980 نفذت السلطات السعودية أحكام إعدام جماعية في ثماني مدن مختلفة وفي وقت واحد بحق أكثر من 63 شخصا ينتمون لـ “جماعة الدعوة السلفية المحتسبة”. وبقيادة جهيمان العتيبي قامت تلك المجموعة باحتلال الحرم المكي والتحصن فيه في 1979. وبعد انتهاء الحادثة اصدرت المحاكم احكاما بإعدام 63 شخصا من الباقين الذين لم يقتلهم الفرنسيون الذين استقدموا لأنهاء الحادثة بالهجوم على الحرم بعد إغراقه بالماء.
وثمة امتعاض يتصاعد لدى العديد من الأوساط السياسية والحقوقية الغربية بسبب السياسات السعودية في مجال حقوق الإنسان ومعاملة المواطنين خصوصا المرأة والحرب على اليمن ودعم الإرهاب. وفي الأيام الأخيرة دعا اثنان من الأعضاء البارزين بمجلس الشيوخ الأمريكي الى إعادة النظر في التحالف بين واشنطن والرياض بعد الإعدامات الأخيرة.
الرياض اصبحت تمارس سياسة “التذاكي” لتمرير مشاريعها السياسية والفكرية والاستحواذ على القرار العربي، ضمن تحالف قوى الثورة المضادة الذي يضم كلا من الإمارات ومصر و”إسرائيل” والبحرين. المشكلة ان اوضاع المنطقة تتجه نحو المزيد من الاستقطاب الذي لا يضمن التحالف السعودي – الاماراتي نتائجه. وفي العامين الآخيرين ركزت سياسة ذلك المحور على العراق لمنع اكتمال تحالف اقليمي قوي يضم كلا من تركيا وإيران وسوريا وقطر بالإضافة للعراق. هذا التحالف لو تحقق سيكون كارثة لمحور قوى الثورة المضادة.
وقال السيناتور بيرني ساندرز -الساعي للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة- إن الإعدام الجماعي “يؤكد كم أصبح ملحا على الولايات المتحدة أن تعيد تحديد أطر علاقتنا مع النظام الاستبدادي في السعودية”. واضاف ان “على الولايات المتحدة أن تظهر للعالم أن “السعوديين ليس لديهم صك مفتوح لمواصلة انتهاك حقوق الإنسان وإملاء سياستنا الخارجية”. بينما دعت السيناتورة الديمقراطية دايان فاينستين إلى إعادة النظر في علاقات الولايات المتحدة مع السعودية، بعد جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر الماضي. وأضافت أن “التقارير الأخيرة تعزز مخاوفي. لا يمكننا أن نغض الطرف عن الإعدامات المتزايدة، ولا سيما أن تساؤلات كثيرة تحيط بشرعية المحاكمات”. غير ان علاقات السعودية والإمارات والبحرين مع الكيان الصهيوني عامل اساس يوفر لهذه الحكومات حماية أمريكية سياسية لا تؤثر عليها الضغوط الإعلامية والحقوقية.
* – القدس العربي