- أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور *
على مر التاريخ الإنساني الطويل، ومنذ توثيق التجربة الإنسانية عبر النقوش والكتابات والرسوم على الأحجار والأخشاب وجلود الحيوانات عبر أزمنة الحضارات البشرية القديمة المتعاقبة على هذه الأرض، كان لمفهوم (الدولة) من خلال إدارة الأفراد والجماعات والأقوام نصيب وافر من ذلك التوثيق الذي خلّفه لنا الأوائل من حضارات سادت ثم بادت وتركت لنا ذلك الإرث المهول من التجارب الموثقة.
وقد شكلت دورة الحياة المتواصلة في صيرورتها السرمدية مُنذ فجر التاريخ الإنساني وحتى يومنا هذا إحدى العلامات الظاهرة في التنظيم الدقيق لمعيشة الناس أفرادًا وجماعات، أي أن الحياة برغم بُعدها الزماني والمكاني كانت تسير وفق قواعد تنظيمية دقيقة تقود مختلف المناحي في ذلك الزمان، وليس هناك أدل على قولنا هذا بتلك الشواهد والآثار التي تركها الأوائل لنا كتراث نتباهى به من صنع الإنسان القديم، على سبيل المثال قيام الحضارات اليمنية المتعاقبة والموغلة بالتاريخ التي قامت دون وجود أنهار وبحيرات عذبة تقام عليها في الغالب المدن والمباني والقلاع وغيرها، بل إن الحضارة اليمنية وحدها هي من صنع الإنسان وبالتالي هي حضارة مميزة واستثنائية، حيث شيّد السدود العملاقة، وعمّر بإتقان المدرجات في سفوح الجبال الشوامخ لزراعة الأشجار وزرع الحبوب والغلال وغيرها، وهذا بطبيعة الحال هو استثناء خاص تفردت به الحضارة اليمنية السعيدة عن بقية الحضارات الإنسانية الأخرى كالحضارة البابلية والآشورية والفرعونية والصينية والإغريقية والرومانية وكلها حضارات قامت على الأنهار العملاقة، وكذلك قيام حضارات الهنود الحمر (المايا والإنكا) التي دمرها الغُزاة الأوروبيون المستعمرون المحتلون.
بعد هذا المدخل المُقتضب لموضوعنا هذا، فقد أقر المجلس السياسي الأعلى برئاسة الأخ/ مهدي محمد المشاط رئيس المجلس وبمباركة روحانية من قائد الثورة الحبيب عبدالملك بن بدر الدين الحوثي حفظه الله , مسودتها الأولية (الرؤية الوطنية)، وبعد مناقشات مستفيضة وشاملة من قبل هيئات الدولة ومؤسساتها المختلفة وبمشاركة فاعلة من قوى المجتمع المدني والأحزاب، وبعد مناقشتها وإقرارها من قبل مجلس الوزراء لحكومة الإنقاذ الوطني في دورة يناير 2019م، فإنه يسرني أن أسهم مع زملائي في المجلس السياسي الأعلى بوضع اللمسات الإجرائية والقانونية والوطنية على هذا المشروع الاستراتيجي الكبير الذي سيكون وثيقة مهمة لبناء الدولة اليمنية القادمة بإذن الله.
إن إقرار هذه الوثيقة الوطنية الاستراتيجية ونشرها للعالم أجمع هي مساهمة كبيرة من المجلس السياسي الأعلى استلهمت في مضمونها من تراث الحركة الوطنية اليمنية بشكل عام، واتكأت على قيم ومبادئ الثورات اليمنية المباركة الـ 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م، و30 نوفمبر 1967م، و22 مايو 1990م، و21 سبتمبر 2014م، وَهِي بمثابة رد عملي وموضوعي على جميع الافتراءات الإعلامية والانتقادات السياسية المبنية على أوهام أحلام اليقظة لدى البعض بأننا سنبني في قادم الأيام دولةً ملكيةً إمامية وسنعود إلى مرحلة الحكم العائلي السلالي.
إن إطلاق مثل تلك الاتهامات الباطلة ما هو إلا لتبرير ومساندة جرائم دول العدوان على الشعب اليمني التي شنت حربها القذر ة على المدن والقرى اليمنية في صبيحة يوم الخميس الموافق 26 مارس 2015م.
هذه الوثيقة الوطنية الاستراتيجية التي جمعت بين معطيات إرث التاريخ اليمني العظيم ومبادئ وأسس بناء الدولة الحديثة هي رد قوي وكافٍ على صلف دول العدوان الذي يدخل في عامه الخامس، وقد أثخن جراح اليمانيين وفاقم معاناتهم حتى أصبح العالم كله يردد ويتحدث بأن اليمن وشعبه الصابر الصامد يعيش أعظم محنة إنسانية في التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، وأن قرابة 19 مليون يمني يحتاجون للمساعدة الإنسانية بمختلف صورها وأشكالها.
إن المجلس السياسي الأعلى في الجمهورية اليمنيّة كقائد موجه في هذا الظرف الوقتي العصيب لجميع أجهزة الدولة ومؤسسات حكومةِ الإنقاذ الوطني قد قدم رؤية وطنية ناضجة وشاملة لبناء الدولة الحديثة أثناء زمن العدوان الذي لا زلنا نعيش فصوله ومآسيه، ونعيش في ذات الوقت لحظة المقاومة الباسلة البطولية التي يسطرها جنود الجيش اليمني وأمنه العام ولجانه الشعبية لحظة بلحظة، وما بعدها، وركزت الوثيقة على قضية المصالحة الوطنية اليمنية واعتبرتها إحدى أسس نجاح العملية السياسية السلمية القادمة بإذن الله.
إن هذه المساهمة الوطنية النوعية لخدمة حاضر ومستقبل الشعب اليمني, وإن الأعمال الفكرية الكبيرة هي التي تبقى لتنفع الناس، عموم الناس يقول الله في محكم كتابه الكريم:
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} صدق الله العظيم
ونحن من الشاهدين إلى يوم الدين، والله أعلم منا جميعًا.
وفوق كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم
* رئيس مجلس الوزراء