لكل شاعر قدرات إبداعية تميزه ونَفسٌ شعري يشبه روح الشاعر وطابعٌ كالختم يحمل خصوصية الخيال واللغة لدى كل شاعرٍ بحيث يستطيع المتلقي من خلال كل ذلك أن يُنسب القصيدة لصاحبها أو أن يعرف قائلها إن لم يُذكر اسم القائل.
وبمجرد قول أحدنا:
“ابشر بعزك سيدي واشتدا”
يستحضر حدس المتلقي كاتب القصيدة الشعبية الحميرية اليمانية وصوت الجهاد وشاعر الحماسة والحكمة: (أمين الجوفي) صاحب زامل (ابشر بعزك سيدي) الذي يستهل أبيات القصيدة بقوله :
ابشر بعزك سيدي واشتدّا
من بعد ما اتعرى الحكم واللاعب
منّا الولا لك والوفا والعهدا
هذا العدو منّا يولي هارب
منّا خذي يا اسرة سعود الردا
الموت الازول من بُغمنا لاهب.
استهلالية بديعة فيها من الإبداع الفني ما يفوق كثيراً من توقعات القارئ أو المتلقي ، حيث يبدأ الشاعر أبياته بالاستجابة التي تتضح من خلال الفعل (ابشر) وهو فعل أمر دلالاته ليست على سبيل توجيه طلبٍ ما بل دلالته كما تتجلى من خلال ربط المفردة مع ما بعدها (بعزك) تحمل مضمون التلبية والاستجابة بحماسة لتوجيهات شخصية عظيمة (سيدي) ، ودلالة الفعل (اشتدا) تتضمن معنى الاعتماد ، ولكي يؤكد الشاعر عظمة السيد ،فقد كشف في الشطر الثاني (من بعد ما اتعرى الحكم واللاعب) حيث يثبت قطعاً وقوع الحدث المخزي للأعداء ويكشف الشاعر قُبح نفاقهم وتعريهم ، وقد رمز لهم وكنى عنهم بقوله : (الحكم واللاعب) .
الانطلاق والاستجابة لداعي الجهاد ومواجهة الأعداء هي الفكرة الأساسية للنص، وقد أسس الشاعر ذلك الانطلاق على مبدأ ثابت يتمثل في الولاية (منا الولا لك) .
العاطفة في هذه القصيدة وفي كل قصائد الشاعر مشتعلة بالصدق وتغلب عليها الحماسة التي تتجلى من خلال انفعالات اللغة وتراكيب المفردات الدالة على التحدي، وأكثر ما يوضح القدرات الفنية لدى الشاعر في الصياغة هو تمكُّنه من التنقل في الخطاب بين الضمائر وكذلك الانتقال ما بين مواقف الانطلاق والجهاد من جانب ومواقف خزي الأعداء وهروبهم وفرارهم من جانب آخر .
نضج الوعي والكتابة لدى الشاعر بارز في كل قصائده من خلال التنبؤ والحِكمة التعبيرية التي يتميز بها الإنسان اليمني وهذا جلي في هذا النص من خلال الحِكَم التي تكررت في قوله (وان صاحبك) ، ثم يسرد الشاعر بعدها مضمون الحكمة .
جزالة اللفظ والمعنى وقوتهما من أهم الخصائص التي تميزت بها قصائد الشاعر ، وكتابته من الطراز الشعبي اليمني الأصيل الموغل في الخطاب الشعبي سواء من حيث استخدام اللغة أو الخيال والتصوير الفني، وأعتقد أن هذه الميزة تحسب له ، ومن الإبداع الفني في كثير من قصائد الشاعر ما يتمثل في قدراته العجيبة في استدعاء أحداث التاريخ والشخصيات التاريخية وجعلها معادلات موضوعية ليسقطها على واقعنا الحالي ، ومن استدعاء الشخصيات شخصية الإمام علي بن أبي طالب (ع) وإسقاطها اليوم على السيد القائد وأهل الحق المواجهين لتحالف العدوان :
تصعيد صاروخي وقوه رعدا
يقودها حيدر علي بن طالب
وشخصية عمر بن ود العامري التي يسقطها اليوم على تحالف العدوان :
الويل منا يا ابن عمر ودّا
سيف الفقار اليوم نجمه ثاقب.
وهو هنا يستحضر كذلك موقفاً تاريخياً للإمام علي عليه السلام ويستحضر سيفه (ذو الفقار)في مبارزة عمر بن ود العامري ،وغير ذلك من المواقف والشخصيات التي يستدعيها الشاعر وكان لها حضورها في ثنايا نصوصه .
من خلال عناية الشاعر واهتمامه الكبيرين في إنتاج القصيدة يدرك المتلقي أنه _ أي الشاعر _ يستشعر مسؤولية الإنتاج الإبداعي فلا يقبل أن يُنتج سوى نصوصاً لها حضورها الكبير لدى ذائقة العامة والخاصة ، ويكون لها أثرها في نفسية المتلقي ، فمن الملاحظ أن الشاعر في كل نصوصه يعتني باستلالية القصيدة واختيار القافية المتسقة مع مستوى الخطاب الحماسي ، ويعتني باختيار الألفاظ وصياغة التراكيب والابتكار في صناعة الصورة الشعرية والكتابة بروح جهادية صادقة تضيء بومضات إيمانية ، ويمزج النصوص بإبداعات متنوعة مثل الاقتباسات والإستعارات والتشبيهات والالتفات ويعطي المفردات دلالات جديدة .. صوت الجهاد المزمجر بخطاب الحماسة هو الطابع الأبرز في نصوصه، يقول في قصيدته التي تحمل عنوان(صوت الجهاد) :
لك عهد مني ياوطن امسك على اعدائك حياد
واقـسم قـسم لـو انـا وجـهالي عـلى شانك نصوم
فـارس قـلم سـيفي وصـفحات الـدفاتر لي جواد
والحـرب لا دارت رحاهـا نـعـتلي عـرش الـطقوم
شـــدوا حـزمـكـم بـانـلـبي كـلـنا صــوت الـجـهاد
عــزوم يـامـن عـنـده الـغـيره عـلى أرضـه عـزوم
عــاد الـخـيارات ابـتـدت واتـقـربت فـيـها الـبـعاد
وحـلّـق الـصـماد مــن تـحت الـثرى فـوق الـغيوم
يـاسـيـدي جــاتـك زحـازيـح الـرجـاجيل الـجـياد
الـلـي فـعـايلهم بـسـاحات الـوغـى تـجـلا الـهموم
كـم من صـميدع صـيرمي صـمصام مـرزوح الـفواد
كـمـن شــرس زيــزوم تـلقى فـزعته عـند الـلزوم
مـطوعين اقـوى الـصعاب ومـركعين اهـل الـعناد
ومـجـندلين الـحلف الارعـن بـالثواقب والـرجوم.
كما أشرت سلفاً إلى اهتمام الشاعر بقوة الخطاب في الاستهلالية بغرض شدّ انتباه المتلقي وجذبه إلى ما يريد الشاعر أن يقوله من موضوع ذي أهمية (لك عهد مني يا وطن)، ولا ينسى الشاعر حين يكتب أن يجمع بين مهمته كشاعر ودوره كمجاهد (فارس قلم سيفي .. والحرب لا دارت رحاها نعتلي عرش الطقوم)، وكثيراً ما يستحضر ذاته من خلال إثبات دوره في النداء المتكرر من أجل تلبية الجهاد (بانلبي كلنا صوت الجهاد) ، ولا ينسى في كل قصيدة خطاب التحدي بأساليب متنوعة، ففي الأبيات السابقة يتحدى العدوان من خلال مدح المجاهدين وفخره بهم (زحازيح الرجاجيل الجياد ، كم من صميدع صيريمي صمصام شرس زيزوم ) .
يكتب الشاعر أمين الجوفي القصيدة بإخلاص وصدق شعوري تتماهى فيهما روحه بين الخيال والعاطفة الصادقة، وتتعدد المواضيع والأغراض التي كتب فيها قصائده ما بين الحماسة والفخر والتحدي والصمود والمواجهة والشهادة والجهاد وتفاصيل الحرب ، وفي كثير من قصائده جعل السلاح حاضراً مع الله وأهل الحق .
وليد الحسام وعفاف محمد