عبدالجبار الحاج- كاتب وباحث سياسي
عن تهامة والحديدة مقدمة لابد منها:
نبدأ ورقتنا هذه من مقولة شهيرة عن وقائع التاريخ وأحداثه عندما توقف أمامها المفكر كارل ماركس وصاغ عبارته المعروفة عن أن التاريخ في تكرار وقائعه عندما تكون حوادثه الأولى هي المأساة فإن في تكرارها هي المهزلة والملهاة. وماركس هنا لا يهزأ من الزمن وحوادثه ولكنه يسخر من الحاضرين على مشهد التاريخ في تكرار حوادثه. قاصداً بذلك من يزعمون أنهم الفاعلون والمحركون لدوراته. فالسخرية هنا في اعادة انتاج التاريخ على شكل مهازل تقع مسؤوليتها على المتصدرين للمشهد والفاعلين في لحظات التاريخ.
لعل الحديدة وما جرى لها في خضم غزوات وحروب السيطرة على الساحل هي من تنطبق عليها مقولة ماركس.
من أبرز ما أنتجته حروب اليمن في الحديدة هي نتيجة متكررة على الدوام وهي أننا في كل مرة نفرط بمواقع وساحات هي الأهم من الحديدة عشرات المرات مقابل استعادتها كمنفذ بحري؛ يجدر بنا ان نشير إلى أن اليمن ظلت قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وتجارية وذات حضور بحري هائل القوة واسع الأساطيل المنتشرة من أعالي البحر الأحمر وحتى المحيط الهندي وظلت موحدة بدولة مركزية ممتدة على جغرافيتها الطبيعية الواقعة على ظفار شرقا وحتي مكة شمالاً ومن جزر دهلك وحتى جزر فاطمة ومن سقطرى إلى جزر كوريا موريا جنوب المهرة ومن أرخبيل فرسان إلى حنيش ومن قمران إلى ميون.
استوت جغرافية اليمن على نحوها الطبيعي الجغرافي والسياسي هذا في ظل الدولة الرسولية حيث بلغت أقوى مراحل تطورها وتلتها الدولة الطاهرية قبل ان يدب الوهن في جغرافيتنا في ظل ضعف المركز وتآكل بالضم والاستيلاء والاحتلال.
سأتناول ما أمكن من تجارب التاريخ الساخرة في مهازله المتكررة وفي وقائع الحروب ومسارات التفاوض خلال الخمسمائة عام من تاريخ اليمن الحديث الذي بدأ مطلع القرن السادس عشر.
في واحدة من وقائع التاريخ في أحداث سقوط الحديدة إبان حروب الوهابية الأولى على أطراف اليمن الشمالية وفي خضم المعارك التي خاضها اليمنيون ببسالة، مكشوفي الظهر والسند من الدولة المركزية.
تهاوت اليمن إلى أدنى لحظات الضعف والوهن الذي أصاب الدولة المركزية في عهد الإمام المنصور بن علي وغلبة وزرائه من آل العلفي على أمره وقد سادوا اهم المناصب وتسيدوا معظم القرارات وبالذات المواقع الإدارية والمالية على طول تهامة وساحلها الممتد على شامها ويمنها وموارد موانئها.
في تلك الفترة حل السيد حمود ابو مسمار محل ابن عمه (.) عاملا لصبيا وأبو عريش و جبال عسير وعموم مناطق ما كان يطلق عليه المخلاف السليماني وتولى أبو مسمار امور تلك الجهات باختيار من الأهالي والأعيان وصودق القرار من الإمام.
كانت ألوية الوهابية تخوض غزواتها ومناهبها وقد عاثت قتلا وتنكيلا بقيادة ابن عائض ثم طامي بن شعيب وفي مواجهة هذه الغزوات أظهر أبو مسمار بسالة وجلدا وهو الآخر خاض حروبه مكشوف الظهر إذ تخلت الدولة المركزية في صنعاء عن دورها في القرار والدعم والمسؤولية ما جعل أبو مسمار يلعب أوراقه بدهاء وسط صراع شديد التعقيد والتقلبات والأهواء. فكان أبو مسمار على حالات مراوحة بين التفاهم والاختلاف في علاقته مع الإمام في صنعاء. ثم إنه باغض للوهابية في الدرعية وكان على اتصال وانقطاع بالإمامين في صنعاء والدرعية. ومنذ 1803م خاض خلال عقد ونصف من الحروب أذاق الوهابية المرارة وامتد نفوذه العسكري حتى المخا ثم دارت معارك الحديدة وبعد حصارها لسبعة أشهر أخذها عنوة من عامل الإمام الذي فر منها.
في العقد الثاني من القرن التاسع عشر استعان الإمام المهدي بن المنصور الذي تولى الإمامة بعد أبيه لاستعادة الحديدة ولانتزاعها من يد ابو مسمار الذي كان هو الآخر يحظى بمكانة خاصة لدى جيوش ابراهيم باشا لهزيمته وقضائه على طامي بن شعيب الذي كان قائد غزوات الوهابية في الحجاز وأطراف اليمن.
مات الداهية الشديد المراس حمود ابو مسمار لكن الحديدة آلت منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر إلى القوات والجيوش المصرية التي كانت مسيطرة على مناطق الجزيرة بعد بقائها على آخر…. الوهابية الأولى عام 1818م. وكانت قوات محمد على باشا قد جاءت بطلب من الامام المهدي لنجدته من سيطرة ابو مسمار في حين كان ابو مسمار يحظى بمكانة كبيرة لدي المصريين لقضائه على بن عايض وطامي بن شعيب قادة آل سعود في حقبة الوهابية وقتلهم.
ولم تعد الحديدة إلى السيادة اليمنية إلا بعد أن سقطت عدن وميون والمندب تحت قبضة بريطانيا عام 1838م إذ سارعت إلى التواجد على شواطئ البحر الأحمر وخليج عدن خشية من تمدد وسيطرة المصريين. وسقطت اليمن جنوبا لبريطانيا ثم يعود الأتراك لتسقط اليمن شمالاً.
في واقعة أخرى. سقوط الحديدة بيد الأدارسة عام 1919م بدعم من مدفعية البحرية البريطانية وبقيت كذلك حتى العام 1926. كانت السلطة خلال هذه الفترة منهمكة ومنهكة في حروب داخلية لا لزوم لها مثل حرب المقاطرة التي دامت عامين خلال ٢٠ و٢٢ من القرن العشرين. وهي الفترة التي بدأت فيها غزوات الوهابية الثالثة في القرن العشرين.
مرة أخرى عام 1934 سقطت الحديدة بيد جيش عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ورغم نجاح جيوش أحمد شمالا وانهزام الوزير وجيشه في تهامة فقد استعدنا الحديدة ولكن مقابل التنازل عن نجران وجيزان وعسير وسكوت غير معلوم الأسباب بل ولم يرد ذكر مجرد ذكر أرخبيل فرسان في الطائف.
قبل هذه الحوادث للحديدة محاولات البرتغاليين والمماليك وحروب المماليك تهامة اذ خاضوا حربا وحروبا عبثية في اليمن. لا يتيسر لنا في هذا الحيز تناولها لكنها وقائع نستعيد فيها الحديدة لنتنازل عن اجزاء واسعة وأغلى منها بكثير وكثير.
اليمن والصراع حول البحر الأحمر
2
يحتل البحر الأحمر حيّزاً مهماً من تطلعات الدول الاستعمارية؛ ففي العام 1513 «حاول البرتغاليون الاستيلاء على مدينة عدن اليمنية لتكون مدخلهم إلى البحر الأحمر، لكنهم فشلوا وبعد ذلك سعت بريطانيا لأن يكون لها موطئ قدم في عدن، وجرّبت شركة الهند التجارية الإنكليزية بناء محطة لها في جزيرة بريم، وفشلت بسبب قلة المياه» كما نشط الإنكليز في هذه المنطقة عقب احتلال نابليون مصر العام 1798 لكي تبقى طريق الهند أمامهم مفتوحة، فقد خافت بريطانيا من توسّع محمد على باشا، حليف فرنسا السياسي، إلى اليمن الشمالي العام 1833، «فاحتلت عدن العام 1839 وأصبحت قاعدة عسكرية لها.
أما عام 1869 فقد جـاء افتتاح قناة السويس ليجعل من البحر الأحمر أقصر وأسرع ممر بحري بين الشـرق والغرب، ويصبح بديلاً عن طريق رأس الرجاء الصالح الطويل في حركة التجارة الدولية. ولعل أهم ما يجعل البحر الأحمر محط أنظار الدول الاستعمارية الكبرى، كان تحوّله إلى «ممر مائي تجتازه أهم سلعة استراتيجية (النفط)، بالمقابل تمر فيه المنتجات الصناعية الغربية التي تم تبادلها مقابل المواد الأولية الآتية من العالم الثالث في آسيا وأفريقيا بأرخص التكاليف وأقصر الأوقات.
أمّا من الناحية السياسية، فقد كان البحر الأحمر هدفاً حيوياً يدخل في سياسات الدول الكبرى والشعوب المطلة عليه، ومنذ القديم كان التنافس المباشر بين اليمن والحجاز والأحباش في السيطرة عليه يعكس صورة الصراع البيزنطي الفارسي آنذاك. وبعد انحسار الاستعمار الإيطالي والفرنسي والإنكليزي عنه، أصبحت مصالح بعض الدول المطلة عليه، مثل السودان والأردن وإريتريا، مرتبطة حصرياً به كمنفذ بحري وحيد تطل منه على العالم، بينما دول أخرى مشاطئة له تملك منافذ بحرية أخرى مثل اليمن*، السعودية، ومصر، وفلسطين المحتلة.
ومنذ العقود الأولى من القرن العشرين، شهدت منطقة البحر الأحمر والخليج العربي تحوّلات سياسية واقتصادية مهمة، فقد أدّى اكتشاف النفط، وتوسيع قناة السويس وتعميقها لاحقاً، لكي تستقبل ناقلات النفط الضخمة، إلى أن يصبح البحر الأحمر شرياناً «تمر فيه أربعة أخماس المواد الأولية مشحونة من آسيا وأفريقيا إلى الغرب الصناعي وقد أنتجت هذه الأوضاع الجديدة تنافساً دولياً جديداً، فتشاركت فرنسا وبريطانيا بالسيطرة على مداخل البحر الأحمر، وسيطرت الأولى على جيبوتي وإدارة قناة السويس، واحتلت الثانية عدن ومصر، بينما سارعت إيطاليا إلى فرض نفوذها على أريتريا والصومال.
من الناحية العسكرية، فإن البحر الأحمر، ونظراً إلى موقعه بين أخطر مناطق الصراع الدولي في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي والخليج العربي، أصبح «حلقة الوصل بين جميع تلك المراكز الإستراتيجية» وتحوّل «مصدراً من مصادر الصراعات الإقليمية والدولية ومنذ القدم، كان البحر الأحمر نطاقاً حيوياً للدول العظمي، على ضفتيه جرت مواجهات حربية بين بيزنطية والفرس، وعلى شواطئه استقرت دول الاستعمار مثل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال، وحوله خاضت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي غمار المنافسة للحفاظ على مصالحهما الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية.
ومن جهة أخرى، يشكِّل البحر الأحمر «همزة وصل بين الأساطيل البحرية في البحر المتوسط والمحيط الهندي» وكذلك يُعْتَبَر الطريق الرئيس الذي تعتمده القوى الدولية «لتحريك قواتها بين قواعدها المختلفة والمنتشرة حول العالم ونقلها إلى مناطق النزاع»
وتشكّل جزر البحر الأحمر قيمة استراتيجية بالنسبة إلى الدول المطلة عليه، ولعل أهميتها تكمن في انتشارها وموقع بعضها الاستراتيجي المسيطر على مداخله، حيث «يمكن استخدام معظمها للأغراض العسكرية باعتبارها نقاطاً تكتيكية أو قواعد انطلاق للسيطرة على الملاحة فيه تتميّز جزيرة بريم بمينائها الصغير و«بموقعها الذي يتيح التحكّم بالبحر الأحمر من جهة الجنوب بينما يقع أرخبيل حنيش بين اليمن وأثيوبيا، ومن جزره المأهولة حنيش الكبرى، أما زقر فتتميز بقيمة استراتيجية كبرى بفضل ارتفاعها الذي يتيح لها إمكان مراقبة الأنشطة البحرية ورصدها التي تجري في المياه المحيطة بها. وتسمح جزيرتا تيران وصنافير بمراقبة الملاحة في مضيق تيران
وثمة عوامل أخرى سهلت على الدول «البحر-أحمرية» عمليات السيطرة والدفاع عن سواحلها، فقد أفادت من مميزات البحر الأحمر الجغرافية في تقييد الحركات العسكرية وتحديد حرية المناورة فيه مثل «عرض هذا البحر المحدود فضلاً عن افتقاره إلى العمق الملاحي، ووجود المخاضات وتقلّب الرياح، والسواحل الهشة والمنحدرات العميقة، والتلال المخفية تحت الأعماق، والشعاب المرجانية، وحرارة الطقس وجفافه، ثم الافتقار إلى المرافئ العميقة *
عام 1818 كان دخول محمد على باشا باسم العثمانيين إلى اليمن مؤشراً لرسم صورته الجغرافية والسياسية وتحديد موقعه في الصراع الدولي. فقد أدّت ثورة اليمنيين (1891) إلى عقد إتفاق «دعان» مع الدولة العثمانية العام 1911 «أقر فيه الأتراك بنوع من استقلال ذاتي موسّع لليمن» الذي أصبح ناجزاً منذ هزيمة العثمانيين العام 1918، وصار يعرف لاحقاً باسم اليمن الشمالي. أما بريطانيا، فقد سعت إلى أن يكون لها موطئ قدم في عدن يخدم مصالح شركة الهند التجارية الإنكليزية التي فشلت في بناء محطة لها في جزيرة بريم الاستراتيجية. والعام 1839 سارع الإنكليز إلى احتلال عدن خشية أن يعود النفوذ الفرنسي إلى الشرق مع احتلال حليف فرنسا السياسي محمد على باشا اليمن العام 1833، وجعلوها قاعدة عسكرية تحمي طريقهم إلى الهند. وكان إعلان بريطانيا «إتحاد الجنوب العربي» حافزاً لإندلاع الثورة اليمنية التي انتهت بإعلان استقلال اليمن الجنوبي: العام 1967.
منذ منتصف الخمسينيات، استفاد السوفيات من انتصار الثورة المصرية ودخلوا مصر، ومنها تمدَّد نفوذهم باتجاه البحر الأحمر والقرن الإفريقي. والعام 1955 أبرم الاتحاد السوفياتي معاهدة صداقة مع اليمن الشمالي، والعام 1962 أغدق معوناته الصناعية والزراعية والعسكرية عليه عقب ٦٢.
وقام َ بتوسيع ميناء الحديدة وإنشاء مطارات فيه. ثم تحولوا وساندوا اليمن الجنوبي الذي أصبح جمهورية اليمن الديموقراطية الملتزمة النظام الاشتراكي.*4
وكان الصومال أول موطئ قدم للسوفيات في القرن الإفريقي بعد إبحارهم إليه من اليمن. فالعام 1964 اشتدّت حاجة الصومال إلى بناء جيش قوي بعد هزيمته أمام أثيوبيا، وقَبِل عرضاً روسياً، بعد أن رفضت عروضاً مشروطة من الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا.
في السودان نجح الاتحاد السوفياتي في مدِّ نفوذه إليه منذ العام 1968، ثم قام بتدعيمه مع نجاح ثورة جعفر النميري وصعوده إلى رأس هرم السلطة العام 1969، إلا أن نفوذ السوفيات ما لبث أن انحسر عن السودان.
ومنذ خمسينيات القرن العشرين بدأت الولايات المتحدة تعتبر أمن البحر الأحمر عنصراً حيوياً في سياساتها، فسعت بعد رحيل القوى الاستعمارية عنه إلى السيطرة على هذه المنطقة من خلال «بناء قواعد عسكرية وتكوين أحلاف للحفاظ على مصالحها وعملت على وضع حقول النفط في البحر الأحمر والخليج العربي تحت نفوذها لتأمين حاجاتها النفطية وتسهيل مرورها إلى أوروبا والغرب. كما عملت أيضاً على «الحيلولة دون وصول الإتحاد السوفياتي إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي من خلال هذا المنفذ البحري الاستراتيجي.
وقد ترجمت الولايات المتحدة استراتيجياتها في البحر الأحمر «باعتماد سياسات موالية لإسرائيل، وتأييد الاتحاد الفيدرالي بين أثيوبيا وإريتريا العام 1952، وتشييد محطة اتصالات في أسمرة في أريتريا العام 1953، واستخدام موانئ إريتريا على البحر الأحمر، والحصول على قاعدة الظهران في السعودية، والاعتماد على المنظومة المحافظة في البحر الأحمر لحماية مصالحها كما تمكنت الولايات المتحدة مم إقامة علاقات مع الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر مثل السعودية والأردن ولاحقاً مصر والسودان، إلاّ أن مساعداتها لهذه الدول لا تضاهي ما كانت تقدمه من دعم لإسرائيل.
في النصف الثاني من الخمسينات تقدمت امريكا بعرض هائل السخاء للإمام احمد في إطار تنفيذ سياسات ايزنهاور آنذاك وكانت الحرب الباردة في ذروتها. وإلى ذلك الحين كانت امريكا قد فازت وحازت على حضور استخباراتي في مدينة تعز من خلال فريقها الممثل حينها بجناح سيف الاسلام عبد الله ابن حميد الدين على مركز النقطة الرابعة الذي انشئ حينها لمواجهة تمدد حركة القوميين العرب. نواة اليسار العربي عموما وكانت النقطة الرابعة محطة تابعة للمخابرات المركزية الامريكية CIA
كان العرض الامريكي المالي السخي للإمام احمد يريد حضورا عسكريا مباشرا.
(فقد تقدمت امريكا بمبلغ خمسين مليون دولار مقابل انشاء قاعدة عسكرية امريكية في الجند بتعز ومحطة لراديو صوت امريكا ورفضها الإمام أحمد وهو في أمس الحاجة الحاجة لمليون دولار فقط. وهو موقف عده الرفيق محمد سعيد عبدالله محسن الشرجبي فيما كتب بهذا الخصوص بانه من اشرف المواقف الوطنية التي يجب الاعتزاز ونحن نراه كذلك من اكثر المواقف علوا وصونا للوطن وتمسكا بالسيادة والإباء لا يمكن الا أن نراه ونضعه في مرتبة الشرف الوطني بصرف النظر عن مواقف الحركة الثورية اليمنية من التغيير لاحقا.*5
وضعت حكومة الثورة في الجنوب يدها وبسطت بالقوة نفوذها عنوة ورغما عن المحاولة البريطانية أبان الرحيل وضعت حكومة اليمن الديمقراطي يدها فورا وبلا نقاش أو تفاوض على جزر كوريا موريا عندما أرادت بريطانيا تسليمها لعمان أو إجراء استفتاء لسكانها الذين لا يتعدون المئات وفرضت وبسطت سيادتها بالقوة.
(عندما توجّه الرئيس سالمين لزيارة مدرسة الأيتام في العاصمة مقديشو ضمن برنامج الزيارة وعند وصوله باب أحد الفصول رأى على السبورة كتابة باللغة العربية بخط عريض العبارة التالية “سقطرى صومالية”، فسلّم على الطلاب بشكل ودي، بينما كان يشتط غضباً وشرع في خلع حذائه ليمسح تلك العبارة، لكن الأخ/ محمد سليمان ناصر- وزير الزراعة حينذاك، ناوله منديلاً؛ فمسح سالمين العبارة، وكتب بدلاً عنها بخط عريض: “سقطرى يمنية إلى الأبد”.
كانت قيادة اليمن الديمقراطية تتعامل مع السيادة والتراب براً وبحراً وجواً؛ فقد توترت علاقاتها مع أقرب حلفائها “الصومال” بسبب سقطرى وأقامت علاقات قوية مع إثيوبيا شريطة التخلّي عن الادعاء بتبعية حنيش لإثيوبيا؛ كونها يمنية تاريخاً وانتماءً وجغرافياً، بشراً وشجراً وحجراً، براً وبحراً وجواً).*6
وفي عام 73 القت اجهزة الامن في عدن على رجل مخابرات امريكي وهو أيضاً عضو الكونجرس الامريكي وهو يلتقط صورا في منطقة حساسة وممنوع التصوير فيها وحوكم في المحكمة وصدر عليه حكما بالسجن لعدة سنوات وفشلت كل الوساطات في أثناء الحكومة عن تنفيذ الحكم.
في العام 72 تعرضت ناقلة نفط كورال سي متجهة إلى إسرائيل في خليج عدن وبالقرب من جزيرة ميون لهجوم بقذائف الإربي جي واحترقت وتخبطت الحكومة الإسرائيلية جراءها في توجيه الاتهامات تارة نحو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتارة منظمة التحرير *.7
في ذات الفترة الواقعة بين 70 و73 وما بعده كانت الجاسوسية الإسرائيلية تتحرك على نطاق مكثف ومحموم على سواحل اليمن وبالذات الساحل الغربي و حادثة سقوط الجاسوس الإسرائيلي في الحديدة بيد احد رجال المن والدور الذي اضطلع به الشهيد إبراهيم الحمدي إذ كان يومها نائبا لرئيس هيئة الأركان في اليمن الشمالي وبحكم علاقته الوثيقة بأجهزة وقيادات الدولة العليا في اليمن الديمقراطي. تفاصيل أخرى في موضع لاحق في هذه الورقة.*8
الخطر فوق البحر الأحمر!
تحت هذا العنوان كتب الراحل محمد حسنين هيكل في الاهرام بتاريخ 27/10/19 (هذا الحديث يبدو غريباً وسط كل ما كنت أكتب فيه، وقد يبدو موضوعه مفاجئاً، ومع ذلك فأي شيء في عالمنا ليس غريباً؟
وأي يوم من أيامنا ليس حافلاً بالمفاجآت؟
وحتى لا أطيل في مقدمات لا ضرورة لها، فإني أريد اليوم أن أستأذن في لفت الأنظار إلى ما يجري الآن في اليمن:
اليمن الشمالي الذي يحمل رسمياً اسم الجمهورية العربية اليمنية واليمن الجنوبي الذي يحمل رسمياً اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وما يجري في اليمن – شماله وجنوبه – قد لا يكون مهماً في حد ذاته حتى إذا بلغ مرحلة الحرب بين البلدين أو مرحلة الحرب الأهلية داخل كل من البلدين.
وبعض ذلك صحيح. إلى الحد الذي يبدو فيه أي شيء صحيحاً على الطريقة اليمنية، ولكنه حتى على فرض صحته ليس هو الموضوع الأولى بالاهتمام في هذه الأوقات لولا اعتبارات أخرى لا علاقة لها باليمن.
ولولا هذه الاعتبارات لكنا نستطيع أن ننسى ما يجري على أرض اليمن قائلين لأنفسنا: هذه تفاعلات التطور تجري دموية وهو شيء يؤسف له ولكن هكذا ظروف اليمن.
ولولا هذه الاعتبارات أيضاً لبدا ما يجري أمامنا في اليمن لوحة بالكاريكاتير – الرسوم الهزلية – للجانب الساخر من حركة التاريخ كتلك الحرب التي قامت بين دولتين من دول أمريكا الوسطى بسبب نتيجة مباراة كرة قبل سنوات قليلة.
بل، ربما لولا هذه الاعتبارات لجاز لنا الإنصات إلى صوت الحوادث في اليمن وكأنه مقطوعة مسلية مما يسميه بعض الكتاب الإنجليز “مارش عربي!
وأظن أن “لورانس” كان من أول من أعطى هذا الوصف الذي شاع بعده في فصل من فصول كتابه المشهور “أعمدة الحكمة السبعة”.
في أحد فصول هذا الكتاب روي لورانس أن أول بعثة بريطانية وصلت إلى الحجاز لتقيم اتصالاً مع شريف مكة الأمير حسين وتقنعه بإعلان الجهاد المقدس في صف بريطانيا، وضد الخلافة العثمانية التي كانت تقف في الحرب العالمية الأولى في صف ألمانيا القيصرية – استمعت تكريماً لها، إلى مارش عربي عجيب!
وروي لورانس وكان بين أعضاء هذه البعثة أن الشريف حسين أراد أن يحتفي بضيوفه الإنجليز وأن يريهم ملامح من بلاطه الهاشمي وقتها تؤثر عليهم وتبهرهم.
وهكذا دعا الضيوف بعد العشاء في قصر الأمير بجدة إلى الإطلال من شرفته لرؤية الفرقة الموسيقية العسكرية للبلاط والاستماع إلى مارش عربي تعزفه.
ووقف الضيوف في الشرفة والفرقة الموسيقية العسكرية للبلاط الهاشمي تدخل فناء القصر. وكان المشهد كما وصفه لورانس تحفة من تحف الزمان!
كانت الفرقة خليطاً متناهياً في غرابته.
بعض أفرادها يرتدون ملابس عسكرية تركية، وبعضهم يرتدون الجلابيب البيضاء والعقالات، وبعضهم لا يرتدي فوق الملابس الداخلية إلا طرابيش حمراء، وبعضهم حفاة، وبعضهم بمراكيب في أقدامهم، وبعضهم الآخر بأحذية الفرسان العالية والمهاميز في أعقابها!
وكان أفراد الفرقة يسيرون في اتجاهات لا تتصل ببعضها، وعلى موسيقى لا علاقة لها بالخطى التي كان مفروضاً أن تمشي على دقاتها.
والأسوأ من ذلك أن الفرقة عندما بدأت تعزف مقطوعتها الرئيسية لم تنتبه إلى أن النشيد الذي راحت تردده بآلاتها المقطوعة الأنفاس وطبولها المتهدلة – في تحية ضيوف بريطانيين كان مارش “ألمانيا فوق الجميع” وكان ذلك هو المارش الوحيد الذي استطاع قائد الفرقة أن يتذكره وأن يعلمه للعازفين معه!
كانت البعثة البريطانية قادمة لتقنع شريف مكة بإعلان الجهاد المقدس ضد الخلافة العثمانية وحليفها الأكبر قيصر ألمانيا وإذا بالمارش الذي يعزف لها في هذا الجو الخرافي هو:
ألمانيا فوق الجميع.
ولم تعلق البعثة البريطانية بالطبع لأن الإنجليز قوم عمليين: كانوا يريدون إعلان الجهاد المقدس ولم يكونوا على استعداد لمناقشة أبهة البلاط الهاشمي!
وفي صورة ساخرة فيما بعد وصف لورانس هذا المشهد: “مارش عربي”.
ومن يومها وحين يريد بعض الكتاب الإنجليز أن يشيروا إلى تناقضات العالم العربي فإن عبارة مارش عربي كانت تكفي وحدها أحياناً للتذكرة!
والذي يجري الآن في اليمن على السطح شيء من ذلك ولكنه تحت السطح شيء آخر.
– على السطح خلافات على حدود هكذا يقال!
وعلى السطح غارات بين قبائل وقبائل لأن اليمن الجنوبية كما يقال نصبت كميناً أودى بحياة مجموعة من الشيوخ على رأسهم الشيخ ناجي الغادر.
[و مع الأسف فلست أظن أن لدي دموعاً أذرفها على الشيخ ناجي الغادر شيخ مشايخ قبائل خولان.
فقد كان أخطر المرتزقة في حرب اليمن التي شاركت مصر فيها ما بين سنة 1962 إلى سنة 1967. وإذا كنا قد فقدنا قرابة خمسة آلاف شهيد مصري على تراب اليمن فإن ألفاً منهم على الأقل ذهبوا نتيجة لغدر الشيخ الغادر].
– وعلى السطح أيضاً ما يبدو أنه خلافات عقائدية بين جنوب يقول بالتقدمية ويجمح إلى شعارات ماركسية أحياناً وبين شمال يريد كما يقول أن يحتفظ بتقاليد السلف الصالح ويؤرقه الجموح في الجنوب.
ذلك كله على السطح!
تحت السطح يبدو أن الأمر أعمق:
تحت السطح يبدو أن المملكة العربية السعودية تريد أن تكون لها الكلمة العليا في كل شئون ومستقبل شبه الجزيرة العربية.
وتحت السطح يبدو أن العوامل والقوي التي شاركت في الحرب على الجمهورية في اليمن ما تزال تتحرك وتعمل.
ومن وجهة نظر حقائق الجغرافيا السياسية فإن أحداً لا يناقش في ضرورة أن يكون للمملكة العربية السعودية دور خاص في شبه الجزيرة العربية.
ولكن المسألة بعد ذلك تصبح:
– في أي اتجاه؟. وإلى أي مدى؟. وبأي ثمن؟. وكيف يمكن لذلك كله أن ينسجم مع استراتيجية عربية عامة في البحر الأحمر الذي هو الآن، وسوف يصبح غداً أكثر جبهة من أهم وأخطر جبهات الصراع الطويل والمتصل مع العدو الإسرائيلي؟
وقبل أن أدخل في التفاصيل من هذه المسألة فلعلي أقول مقدماً أنني أعرف أن كثيرين – وبالذات هنا في مصر – لا يريدون أن يسمعوا كلمة عن اليمن ولهم الحق لأن التجربة في بعض جوانبها كانت شبه كابوس لا يريد أحد أن يتذكره.
وقد أضيف إنني كنت واحداً من الذين تحفظوا بشدة على التدخل العسكري المصري في اليمن وأتذكر أنني ناقشت الرئيس جمال عبدالناصر فيه طويلاً ثم بعثت إليه مجموعة تقارير عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في اليمن وجدتها في أوراقي وقتها وكان رأيي أن الظروف في اليمن ليست مهيأة لنجاح الثورة فيه إلا بتكاليف باهظة ولقد سمحت لنفسي اليوم أن أشير إلى ذلك لأن الرئيس جمال عبدالناصر بنفسه رواه في اجتماع لمجلس الوزراء، وما رواه مسجل في محاضره.
ومهما يكن فإن الحوادث يومها سارت في اتجاه آخر وتقرر أن نتدخل عسكرياً في اليمن وكانت لذلك أسباب لها وجاهتها:
– منها أننا لا يجب أن نسمح بضرب ثورة قامت في شبه الجزيرة العربية مهما بدت فرص الحياة أمامها صعبة وعسيرة.
– ومنها أن تدخلنا سوف يدفع رياح التغيير إلى شبه الجزيرة العربية وهذا مهم بالنسبة للموازين العامة للقوة العربية، وبالفعل فإن الإمامة زالت من اليمن، كما أن الجنوب العربي تحول من مستعمرة بريطانية إلى دولة عربية مستقلة.
– ومنها وهذا من أهم الاعتبارات في رأيي أن التغييرات المحتملة في الجنوب يمكن أن تساعد على وضع استراتيجية عربية تكفل سيادة عربية كاملة على البحر الأحمر، وأهميته الاستراتيجية لا تنكر كطريق يصل ما بين البحر الأبيض والمحيط الهندي. وكانت سلامة البحر الأحمر خطاً استراتيجياً ثابتاً في كل عصر من عصور القوة المصرية منذ إمبراطورية تحتمس الثالث الفرعونية وإلى جمهورية جمال عبدالناصر العربية.
ولست أريد أن أتعرض لموضوعات الخلاف في اليمن بين الشمال والجنوب، فهذه مهمة لجنة مصالحة عربية تعمل اليوم في إطار جامعة الدول العربية، كما أنها موضوع اجتماعات متصلة بين المسؤولين في عدن وفي صنعاء، وقد أضيف أنني أحاول تفهم موقف جميع الأطراف:
– مثلاً أستطيع أن أفهم أنه كانت في اليمن الجنوبية نزعات طفولة يسارية في بعض الأحيان أثارت شكوكاً لم تكن في حاجة إليها وزوابع لم تكن السيطرة عليها أو مواجهتها في نطاق قدرتها.
– ومثلاً أستطيع أن أفهم أن الارتزاق بالحرب قد أصبح صناعة ثقيلة لدى بعض قبائل اليمن الشمالي، يبحث مشايخها عن الذهب ويسعون إليه حيث يجدونه ويحدث ذلك أحياناً في غيبة من حكومة اليمن المركزية في صنعاء.
– ومثلاً أستطيع أن أفهم أن المملكة العربية السعودية تريد أن تكون لها كلمة نافذة في شبه الجزيرة العربية وإن كانت لي تحفظات لا أخفيها ولا أداريها في هذا الصدد!
ذلك كله أفهمه. أو أحاول أن أفهمه.
ولكن المشكلة في رأيي لها بعد آخر هو: الاستراتيجية العربية في البحر الأحمر وتأثيرها على الصراع العربي الإسرائيلي بالتحديد، وتأثيرها على الدور العربي في موازين القوي الدولية بصفة عامة.
وأتذكر أن هذه المشكلة شغلتني منذ وقت طويل، ووصلت في يوم من الأيام إلى حد أنني اقترحت إنشاء قيادة بحرية عربية للبحر الأحمر وكتبت في مقال بتاريخ 4 يوليو 1969 ما نصه بالحرف الواحد:
إن نظرة على جغرافية الشرق الأوسط تقول أن مضايق تيران ليست المدخل الوحيد إلى خليج العقبة.
وإنما البحر الأحمر كله يمكن اعتباره مدخلاً إلى خليج العقبة.
إن البحر الأحمر كله يمكن اعتباره بحراً عربياً لأن الدول التي تطل عليه كلها عربية وهي، الجمهورية العربية المتحدة والسودان من المغرب والمملكة الأردنية والمملكة العربية السعودية واليمن الشمالية واليمن الجنوبية الشعبية من المشرق.
ومع استمرار الصراع العربي الإسرائيلي وتصاعده تحت ضغط دعاوى الأمن الإسرائيلي وردود الفعل العربية الطبيعية المضادة لهذه الضغوط – فإنه من المحقق ذات يوم أن تقوم ما يمكن أن نسميه “قيادة بحرية عربية للبحر الأحمر” وعلى وجه اليقين فإن هذه القيادة تستطيع أن تسيطر على هذا الطريق المائي الكبير وتستطيع الوحدات البحرية لهذه القيادة – تأكيداً – أن تتعرض للملاحة الإسرائيلية جنوب مضايق تيران بأبعد مما يمكن أن يصل إليه الطيران الإسرائيلي على أن نذكر دائماً أن تفوق الطيران الإسرائيلي – مهما دعمته طائرات الفانتوم الأمريكية – تفوق مؤقت!
وقيام قيادة عربية للبحر الأحمر، تشارك بدورها في الصراع مع استمرار تصاعده، يصبح إجراءً عربياً لا يمكن تجنبه من وجهة نظر “الأمن العربي” في مواجهة نظرية “الأمن الإسرائيلي” المدعاة، دون أن يستطيع أي طرف دولي أن يجد في الإجراء العربي موجباً للاعتراض.
ضاع ما قلته يومها كموجة أهدرت نفسها على الشعاب المرجانية الحادة!
ولكن غيرنا كان قد بدأ يلتفت ويهتم بالأوضاع الاستراتيجية للبحر الأحمر:
– الاتحاد السوفيتي ذهب ووثق علاقاته مع الصومال وحصل على تسهيلات عند القرن الأفريقي البارز من جنوب البحر الأحمر إلى داخل المحيط الهندي ثم دعم الاتحاد السوفيتي ذلك بتوثيق علاقته باليمن الجنوبية باعتبار الأهمية القصوى لميناء عدن عند المدخل الجنوبي لهذا البحر.
– الولايات المتحدة الأمريكية راحت تحتفظ بدوريات بحرية مستمرة في جنوب البحر الأحمر في تنسيق مع القاعدة العسكرية الأمريكية الضخمة في إثيوبيا التي تعتبر من أكبر وأخطر القواعد الأمريكية في أفريقيا كلها، وكانت هذه الدوريات تقوم ما بين وقت وآخر بزيارات لميناء جدة.
– إسرائيل بدأت تمد بصرها بعيداً إلى الجنوب وشوهدت تحركات لقوارب إسرائيلية مسلحة قرب الجزر المهجورة عند مداخل باب المندب. وقيل أن ذلك أو بعضاً منه يحدث بالتنسيق مع إثيوبيا ونفت إثيوبيا ذلك بشدة في وقت كان لمصر دورها النشيط في منظمة الوحدة الأفريقية وكانت لجمال عبدالناصر هيبته كواحد من قادة حركة التحرير الوطني الأفريقي ومؤسسي منظمة الوحدة الأفريقية.