خليل المعلمي
في عصر التكنولوجيا والوسائط الجديدة أصبحت الصورة العنصر الرئيس والأبرز لجذب المشاهد والقارئ، فبدون الصورة يقل تفاعل الجمهور مع الرسالة التي نريد ايصالها إليه، فالصورة تبهر الجمهور وتجذبه وتؤثر فيه وهو يتأثر بها أيضاً، فالكثير يقضي وقتاً لا يستهان به كل يوم في مطالعة ومشاهدة صور تعرض له عبر شاشات البث التلفزيوني أو عبر أجهزة الحاسوب أو عبر الهواتف الذكية.
وقد أضحت الصور الرقمية جزءاً لا يتجزأ من تقنيات وسائل الإعلام المختلفة، وتستخدم بصورة متزايدة كوسيط رئيس يتم من خلاله التواصل الفعال بعضنا بعضاً، والواقع أن فهم طبيعة العلاقة المركبة التي تجمع بيننا وبين الصور التي تحيط بنا هو المحور الرئيس لكتاب “كيف تفكر الصور” للكاتب “رون برنيت” الذي يعيش حالياً في استراليا وقد عمل رئيساً لمعهد أميلي كار للفنون والتصميمات في فانكوفر وعمل أيضاً أستاذاً للسينما خلال الثمانينيات بجامعة لاتروب.
الصورة والمستقبل
للصور الإعلامية دور كبير في تعزيز الرسائل الإعلامية والأخبار الصحفية، وتعمل على تجاوز حدود نقل الخبر والواقعة إلى ما هو أبعد من ذلك، وأصبحت متداخلة بصورة قوية في حياتنا، حيث يقول المؤلف: إن الصورة تؤلف بين اللغة والخطاب والمشاهدة، ولا تعد الصورة تعبيراً منعزلاً وسط عدد من التغييرات وهي بالتأكيد ليست مجرد موضوع أو علامة فقط.
وسلط الضوء على إحدى كبريات شبكات الإعلامية فلاحظ ما تقوم به من حشد سريع الحركة من الأصوات والصور تنخرط جميعها في البرامج والقنوات التي تمثل هذه الشبكة، ويندمج البث التلفزيوني الحي مع التقنيات الموجودة في المنزل ليمثل بوابة تقودك إلى باقة من الخبرات والاستخدامات التي تستغل الكاميرات الرقمية والكمبيوتر وألعاب الفيديو، بمعنى أن الضورة تجمع بين كونها نتاج وكذلك مصدر لعالم رحب ومتداخل من الصور.
ويضيف: وفي ظل هذا الخضم الإعلامي لم تعد الصورة مجرد تمثيل أو تأويل لأفعالنا، فقد أضحت محورية في كل نشاط يربط بيننا وبين بعضنا البعض وبيننا وبين التكنولوجيا، ومع درايتنا بذلك الحضور الثقافي المتزايد الذي تتميز به الصورة، إلا أن ثمة قصوراً كبيراً في تحليل الكيفية التي تعمل بها الصورة وتمارس تأثيرا.
الصورة والوعي
يحاول المؤلف عبر صفحات هذا الكتاب رصد المناقشات التي دارت حول الإدراك الحسي والعقل والوعي، ودور الصورة والثقافة في تشكيل وصياغة أسلوب تفاعل البشر مع العالم من حولهم، فمع اكتشافنا للمزيد من المعرفة عن العقل البشري المتجسد والكلي، فإن دور الثقافة والصورة قد تغير، لم تعد الصورة مجرد تمثيل أو ترجمة للفعل البشري، بل أضحت محورية في كل نشاط يربط البشر بعضهم بعضا ويربط بينهم وبين التكنولوجيا -بوصفها وسيطا أو واجهة- كما أنها نقطة مرجعية للمعلومات والمعرفة بنفس القدر الذي تمثله كتصور للإبداع البشري، على أن العلاقة بين البشر والمنتجات الثقافية التي يستخدمونها ويبدعونها ليست على الاطلاق مباشرة أو شفافة.
إن الوعي البشري ليس سلبيا أو مجرد نتاج للسياق الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي الذي يعايشه، ومع أن حلم العلوم المعرفية كان صياغة صورة أوضح للكيفية التي يكون بها العقل فاعلاً، فإنه حتى في ظل هذا التقدم الهائل في فهم الفكر البشري، إلا أن العقل البشري يظل مستعصيا على الإحاطة بل ومبهما نسبيا فيما يتعلق بالمعلومات التي يمكن استخلاصها منه. وبرغم العديد من الجهود الرامية إلى (تصوير) و(فك شفرة) الطرق التي يعمل وفقا لها العقل البشري، فلا تزال هناك أسئلة عميقة حول العلاقات بين العقل والجسد والدماغ، وكيفية تفاعل كل عنصر من عناصر الوعي مع مجموعة متنوعة من البيئات الثقافية والاجتماعية والصنائع الإبداعية.
الصورة والثقافة
يحيلنا المؤلف (برنيت) عبر الكتاب إلى سجالات عديدة حول الإدراك الحسي والعقل والوعي ودور الصورة والثقافة في تشكيل وصياغة أشكال تفاعل البشر مع العالم من حولهم وبرغم العديد من المحاولات التي قامت بها العلوم الإدراكية والمعرفية لـ(رسم صورة) للطريقة التي يعمل بها العقل، إلا أن هناك أسئلة عميقة تظل مطروحة بقوة حول العلاقة بين العقل والجسد والمخ، وكيفية تفاعل جميع عناصر الوعي مع مختلف الأوساط الثقافية والاجتماعية. وضمن هذا السياق يناقش الكتاب عملية صناعة الصورة وإنتاجها وطريقة تأثيرها على الوعي والادراك والجسد.
ويستكشف المؤلف تلك العلاقة الثرية بين إبداع الصورة وإنتاجها، والتواصل بها في سياق النقاش الدائر حول العقل والوعي البشري، بالإضافة إلى ذلك يتناول الكتاب الخطابات الثقافية حول الصورة وتأثير الثورة الرقمية على استخدامها في الاتصالات، فالثورة الرقمية تغير نسيج البحث والتطبيق في مجالات العلوم والفنون والهندسة، وتتحدى العديد من القناعات التقليدية حول العلاقات التي تبدو لنا شفافة بين الصورة والمعنى والعقل والفكر، فضلا عن الثقافة والهوية.
ذكاء الصورة
وقد استهل المؤلف كتابه بمناقشة مستفيضة للإدراك البصري، ومن ثم يقوم بتحليل (تفاعلية) سياق الوسائط الجديدة، ألعاب الكمبيوتر، الواقع الافتراضي، الصورة الرقمية، والفيلم السينمائي.
ويقوم الكتاب على حجة مفادها أن “الصورة ستغدو ذكية أكثر فأكثر لأنها أضحت بالفعل الواجهة التي إليها نتطلع وفيها نمشي وبها نتلاعب”.
وقد تبدو المفردات التي يستخدمها (برنيت) للتعبير عن وجهة نظره -أن الصورة تقوم بدور فاعل في صياغة المعنى، وأنها “تفكر” وأنها “ذكية”- صادمة ومربكة للوهلة الأولى، غير أننا بالفعل إذا تأملنا المشهد الثقافي المعاصر سنجد أن الصورة والمشهدية تحتل فيه المقام الأول، لدرجة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الصورة “تفكر” بالفعل.
إن القول بأن الآلة تفكر وفقاً لـ”برنيت”، يدفعنا إلى إعادة صياغة علاقتنا بها، وبالعالم من حولنا، وكذا أفكارنا حول الجسد والعقل. وتمثل إقامة هذه العلاقة الجديدة نقطة تحول في فهمنا للعلاقة التي تربط البشر بالآلات: فاستخدام الوسائط الجديدة يتضمن بداخله إدراج البشر والآلات في “علاقة ترابطية وثيقة”. والواقع أن مناقشة “برنيت” لتلك العلاقة لا يعد امتداداً لوجهة النظر التي رأت في الحاسوب أو الذكاء الاصطناعي خطراً داهماً على البشرية وتقليصاً لفاعلية الإنسان في العالم، بل هو يتحدث عن أن بوسع البشر وأجهزة الكومبيوتر أن يحققوا معاً ذلك “الذكاء الفائق”.
تفاعل الإنسان
على أن المؤلف ينتقل في النصف الثاني من الكتاب من تحليل ووصف الطريقة التي تشكل بها الصورة عالمنا إلى النتائج المترتبة على تفاعل الإنسان مع الصورة الآلية التي تتراءى له، والتفاعل الحضاري الناتج عن المشاركة في الصورة، حيث تتجاوز الصورة حدود المكان والزمان.. الجغرافيا والتاريخ.
ونجد أن الكتاب خارطة جديدة توضح تفاعلنا مع الوسائط من حولنا ويشجعنا “برنيت” على أن نعاود التفكير في تفسيراتنا لاستخدام الصورة كوسيلة رئيسة من وسائل التفاعل والتواصل وهو ذو قيمة كبيرة لكل من يسعى إلى فهم العلاقات التي تربط بيننا وبين الصور من حولنا. ولا شك في كونه إضافة مهمة للغاية في مجال النظرية الثقافية وأبحاث الميديا والثقافة البصرية.