الأوهام المشتركة “إسرائيل” الثانية والسعودية الرابعة
موفق محادين
في الفترة ذاتها تقريباً، وبدعم الإمبريالية البريطانية أيضاً، كان المشروع الصهيوني يؤسِّس نفسه بالتدرّج، من وعد بلفور إلى اتّفاقية سايكس بيكو بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي والتي أدَّت إلى تمزيق الهلال الخصيب وسوريا الطبيعية التاريخية، إلى الكيانات المعروفة (سوريا الحالية، لبنان، فلسطين، الأردن).
وستمرّ عقود أخرى قبل الدخول في القرن الـ21 والمناخات الجديدة من الخرائط والأواني المُستطرَقة.
هكذا، مع إطلاق أقلام الاستخبارات في المتروبولات الإمبريالية، لعبة الدومينو الطائفية لتفكيك المنطقة وإعادة تركيبها على شكل كانتوناتٍ طائفية، دموية، باسم الربيع العربي وأدواته من الإسْـلَام الأميركي وزاعمي الليبرالية والتحالف المدني والقتلة الاقتصاديين من رجال البنك وصندوق النقد الدوليين، راحت تل أبيب والرياض تتحسّسان رأسيهما داخل الدومينو الجديد، وتحوّلان تقاطعات التأسيس البريطانية (السعوديّة الثالثة وإسرائيل الأولى المزعومة) إلى أكثر من قواسم مشتركة في اللحظة السياسيّة الراهِنة وبحاضِنةٍ إمبريالية جديدة هي الولايات المتحدة الأميركية.
يُضاف إلى ذلك الخروج من التاريخ والتجارب الفاشلة السابقة، سواءٌ أكانت حقيقية في الحال السعوديّة، أَوْ مزعومة في الحال الصهيونية.
فالسعوديّة المُتحالِفة مع الوهّابية سبق وأن أقامت دولتين قبل أن تستقرّ الثالثة، وقد انتهت الأولى على يد الجيوش المصرية بطلبٍ من السلطان العثماني، وانتهت الثانية على يد آل رشيد بطلبٍ عثماني أيضاً، وها هو أردوغان ينفخ في الذاكرة.
أما العدوّ الصهيوني، فيحلو له اختلاق تاريخ قديم مُثقَل بروايات الهزيمة مرّتين كذلك، الأولى على يد مُحاربي العراق وسوريا الأوائل، والثانية على يد الرومان، وفي كل الأحوال فإن هذا التاريخ المُختَلق لا يمتّ بصلةٍ ليهود المشروع الصهيوني، الذين تعود جذورهم إلى الخزر الأتراك وليس إلى فلسطين والشرق العربي.
وبالمُحصّلة، فإن الطرفين، باتا يقفان في الموقع نفسه، إما (إسرائيل الثانية المزعومة) والسعوديّة الرابعة وإما مغادرة التاريخ، وكانت النتيجة الموضوعية الناجِمة عن علاقتهما العضوية بالولايات المتحدة المأزومة أيضاً، هي تشبيكات ومصائر مشتركة مثل صفقة القرن، التي تختلط فيها تصفية القضية الفلسطينية، وإحلال إيران محل تل أبيب كتناقضٍ رئيسي، مع تفكيك الشرق برمّته باسم الحرب على الشمولية، وتحويله إلى شرقٍ بلا دول وكونفدراليات من الكانتونات الطائفية، تشكّل فيه تل أبيب ما يُشبه مملكة القدس اللاتينية (مملكة أورشليم الجديدة) فيما تتحوّل السعوديّة في هذا المشهد إلى شريكٍ أصغر عبر مشاريع مثل نيوم ودافوس الصحراء.
مقابل هذه الأوهام، فإن رياح الشرق ليست كما تشتهي تلك السفن وذلك في ضوء المُعطيات التالية:
1- في عصر العولَمة والثورة العلمية واستعادة الجيوبوليتيك لأهميته في الصراعات السياسيّة الدولية (أوراسيا وطريق الحرير مثلاً) ومقابل استراتيجية تفكيك الدول وتحويلها إلى كانتونات طائفية، ثمة انبعاثات إمبراطورية، تختلط فيها المصالح والهويات الوطنية بالمجالات الحيوية، الإثنية والاقتصادية، وتُعيد رسْم المنطقة من جديد (إيران وتركيا خصوصاً).
وهو ما يُغذّي من جديد الآمال العربية بتجاوز دولة سايكس بيكو وشظاياها الطائفية إلى ثقافة العقل الإمبراطوري العربي مُجدَّداً.
2- إن العدوّ الصهيوني على وجه التحديد، ومهما بلغ من مستويات تقنية مُتطوّرة، فإنه يفتقد إلى شروط الانبعاثات الإمبراطورية في الإقليم كما هي عند إيران وتركيا وفي التاريخ العربي ومن هذه الشروط: الدولة العميقة، المساحة، السكان، الموارد، والشرعية التاريخية.
كما أن مزاعم الدولة العلمانية الديمقراطية التي رافقت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، تتراجع بسرعةٍ أمام خطاب توراتي عنصري يُهيمن على مجتمع الكيان.
3- إن السعوديّة الثالثة، تعيش أزمة موضوعية لا تحمل أية مؤشّرات على دخولها المرحلة الرابعة من عُمرها، بل أن المشاريع التي تتبنّاها كرافِعةٍ لتجديد نفسها مثل صفقة القرن ونيوم ودافوس الصحراء، مشاريع تخدم العدوّ الصهيوني وتحوّل السعوديّة إلى مجالٍ حيوي له، ناهيك عن حساسية القضية الفلسطينية في الضمير والأمن القومي العربي وعن أن التناقض التناحُري الرئيس للعرب هو العدوّ الصهيوني.
ولعلّ الأهمّ هنا، أن ما تشهده السعوديّة مما يبدو تحوّلات في القشرة، ناجمة عن تطوّر غرف التجارة والصناعة وأشكال من البرجوازية شديدة الصلة بالسوق الرأسمالي العالمي، تفتقد إلى القاعدة الاجتماعية، وتواجَه بإسمنت وهّابي شديد التأثير في البنية العامة للمجتمع السعوديّ.
كما تفتقر السعوديّة إلى ظاهرةٍ مثل الرجل المريض العثماني، التي رافقت تفسّخ الدولة العثمانية (الصراع بين البرجوازية الناشِئة وخطاب الملكية الدستورية المدعوم من القناصل الأوروبيين، وبين الحرس السلطاني البيروقراطي.
* كاتب ومحلل سياسيّ أردني