أ. مهدي العطاني
ينبغي علينا كمسلمين ألا نتعامل مع ظاهرة الاحتفاء بالمولد النبوي كظاهرة شكلية وكمناسبة مؤقتة وكطقوس روتينية ثم ينتهي بعد ذلك كل شيء، فلا ينبغي أن تكون علاقتنا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الشاكلة؛ لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجموعةُ قيم ومبادئ وأخلاق، وقد جسّدها صلى الله عليه وآله وسلم في الواقع العملي، فكانت حياته صلى الله عليه وآله وسلم صوراً مضيئة ومشرقة في كل جوانب الحياة، فقد ضرب للبشرية أروع وأرقى نموذج إنساني على الإطلاق، ولهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نتَّخِذ منه قدوة وأسوة وذلك في قولة تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ وفي هذه الآية الكريمة بيان واضح أنَّه لن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا من كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً، أمَّا من يعيش لشهواته ونزواته فإنَّه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتأسى ويقتدي برسول الله؛ لأنه غارق في بحر شهواته لا همَّ له إلا الراحة والرفاهية، ولا همَّ له إلا دنياه يؤثرها على آخرته ويستميت من أجلها، وهذه الصفات كلَّها بخلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تماماً وبخلاف ما كان عليه صحابته الأجلاء من تفانٍ وإخلاصٍ وصدقٍ وثبات في المواقف الحرجة وبذلٍ للمهج والنفس والمال في سبيل إعزاز دين الله وإيثار الآخرة على الدنيا، فهذا هو التأسي الحقيقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو التأسي الذي يحبه الله ويحبه الرسول، أما أن تتأسى برسول الله في بعض الجوانب الشكلية ثم بعد ذلك تدَّعِي بأنك متأسٍ برسول الله فأنت واهمٌ، والحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عن أذهان المؤمنين هي أن التأسي برسول الله يجب أن يشمل ويعم كل جوانب الحياة، فنتأسى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رحمته، وفي عدله، وفي تواضعه، وفي سماحته، وفي بذله، وفي عطائه، وفي كرمه، وفي خشوعه، وتذلـله لخالقه، وفي إقدامه وشجاعته، وجهاده، وصبره، وتضحيته، وفي تنمره في ذات الله وعدم خشيته لأحد من المخلوقين كائناً من كان، فلا يشفع لأحدٍ أن يتغنَّى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويباهي برسول الله ويدعي محبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعيد عن منهجه وأخلاقه وقيمه وعدالته وجهاده وصبره، فالتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس مجرد أحلام وخيالات ونظريات، ولله در القائل:
فإنَّ فضل رسول الله ليس له
حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته
قومٌ نيامٌ تسلَّوا عنه بالحلم
ولله در القائل أيضاً:
فالزم هداه واستمسك بمنهجه
إذ أنَّه الرحمة المهداة للبشر
واعمل بسنته دوماً وآثره
على النفس والمال والأهلين ذي الخطر
إن الإنسان المؤمن لابد أن يكون ارتباطه برسول الله ارتباطاً وثيقاً وعميقاً بحيث يعيش محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عملاً وواقعاً واتباعاً وتطبيقاً وتجسيداً في جميع مراحل حياته، وفي كل أيامه ولياليه، وفي كل صغيرة وكبيرة، وفي كل شأنٍ فالله سبحانه وتعالى لم يرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنتغنَّى به كشخصٍ وإنما أرسله سبحانه وتعالى ليكون لنا منهجاً دائماً على مرّ الأزمان وإن غاب عنا شخصه وجسده الشريف صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وليس أدلَّ على ذلك من قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ فعلى المسلمين اليوم أن يدركوا هذه الحقيقة وألا يكتفوا في محبتهم لرسول الله بالمدح والثناء والتمجيد والتباهي وهم بعيدون عن رسول الله في صدقه وصفاته، وإخلاصه وتجرده لله، فهذا يعتبر ضرباً من التلاعب بالدين والتحايل المذموم على منهجية الإسلام وصدق الله القائل: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ، فإن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى الحياة ليرتقي بالإنسان في وعيه وفهمه وبصيرته، جاء بكتاب مقدَّس من عند خالق الحياة ليجعل من هذه الحياة حياةً تمتلئ بالخير والحق والعدل والحرية والمحبة والطهر والنقاء والصفاء ولكن للأسف أنَّى لقوم حوَّلوا هذا الكتاب المقدس إلى تلاوات منغومة فحسب، جعلوه مجرد ظاهرة صوتية يتلذَّذون لسماع آياته لحظات ثم بعد ذلك ينخرطون في شؤون حياتهم جاعلين هذا القرآن المقدس الذي نزل على أقدس رجل في أقدس شهر في أقدس ليلة لأقدس غاية في الحياة جعلوه للأسف وراء ظهورهم قرأوه حروفاً وأصواتاً ونغمات وهجروه معنىً وعملاً واتباعاً وصدق الله القائل جل من قائل حكيم: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾.
فليكن حبُّنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحتفائنا بمولده منطلِقاً من التأسي به والعودة إلى أخلاقه والثبات على قيمه والمضي على منهجه ولله درُّ القائل:
»ألا ما أرخص الحبَّ إذا كان كلاماً وما أغلاه عند ما يكون قدوةً وذماما«، فحب المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معناه أن ينمو إيمانه بالله وأن يتضاعف كفاحه ونضاله وصبره وجلده وبذله وعطائه في سبيل ترسيخ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحق والعدل والهدى وصدق الله القائل في محكم كتابه العظيم سورة البقرة الآية 143 ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.