خالد عوض
لقد آن الأوان للبلدة الطيبة الموصوف أهلها بالإيمان والحكمة والفقه وبالأرق قلوباً والألين أفئدة وبالأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين أن تحتضن جنسيات العالم وتضمهم إلى حكمة ورقة ولين فقهها ووعيها وتاريخها وحضارتها المشرقة والجامعة.
آن الأوان لمن هذه مؤهلاتهم وقيمهم وموروثهم وحالهم وتاريخهم وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ومعدنهم وأصلهم أن يسودوا العالم ويتعرف عليهم حملة العلم النافع من كل التيارات والمشارب التي تريد الاقتباس من الفقه اليماني والازدياد من الإيمان والحكمة اليمانية.
آن لأهل اليمن أن تكون بلدتهم الطيبة وجامعهم الكبير المقدس قبلة العالم والمتعلم والجاهل ومقصد الطالب وبغية الرائد وأن يولي الباحثون عن جوهر الإسلام وجواهره ورحمته وسماحته وجوههم وعقولهم إليه.
آن لك يا جامع رسول الله وثالث مسجد أسست بأمر الله أن تعيد للعلم والعلماء هيبتهم ودورهم التعليمي التنويري التربوي
آن لقبلتك التي حدد جهتها رسول الله بدقة وإعجاز أن تكون قبلة لترتيل القرآن وتدبره وتفسيره و تفهم السنة الصحيحة الجامعة غير المفرقة و تكون منارة مودة وولاء لله ورسوله و للعترة الزكية المباركة بالطريقة والنكهة اليمانية الفريدة والمتميزة التي لا غلو فيها ولا جفاء لأئمة الهدى ومصابيح الدجى وقرناء العروة الوثقى.
لقد آن للجامع الكبير الذي تتزين به عاصمة البأس الشديد والحكمة أن يكون جامعها مجمعا كبيرا وملتقى لطلاب العلم النافع من كل الجنسيات واللغات والمشارب والتيارات الإسلامية العربية والأعجمية من آسيا وأفريقيا والحجاز والعراق وفارس والمغرب وتركيا.
آن للجامع الكبير أن يكون سفير اليمن لعواصم العالم وللقلوب المؤمنة التواقة للحياة الطيبة والمتطلعة للرقي المعرفي والتسامح الإسلامي والتعايش الإنساني.
آن لهذا الصرح الإسلامي الشامخ الذي غيب دوره وحورب علماؤه وأهملت مخرجاته وبعثرت وشردت أن يكون جامعة روحية وعلمية وفكرية تنويرية.
آن لحدوده التي حددها رسول الله أن تكون مهوى ومهبطا لحفظ حدود الشريعة الإسلامية وتعلم أحكامها.
آن لهذه المنارة الدينية أن تحتل الصدارة وتكون قلب اليمن النابض بالعلم والمعرفة والفقه ونشر العلوم الشرعية التي تغرس الخير وتقتلع الشر وتبشر ولا تنفر وتجمع ولا تفرق وتحسن الظن بالمسلمين كما هو حال وديدن العلماء الذين تخرجوا من هذا الصرح الإسلامي ودرسوا فيه منذ إنشائه وحتى اليوم حيث تخرج منه القادة والأئمة والقضاة والمفتون والمجتهدون والأدباء والشعراء ومن كان لهم الدور الكبير على مستوى اليمن والجزيرة العربية والعالم الإسلامي عبر مراحل التاريخ المختلفة وحتى عصرنا الحاضر كانوا قدوة في التراحم والتسامح وبركة في الأرض ونورا في الحياة وكهفا للسائلين ومفتاح ألفة ومحبة بين أهل اليمن وكانت تجربتهم وخبرتهم العلمية والشرعية خبرة يقتدى بها ويطمئن لها حتى المخالفون لهم وبعض الحاقدين عليهم كانوا يطمئنون إلى عدالتهم وورعهم وعلمهم وسماحة قلوبهم وزكاء نفوسهم.
إن الدور التعليمي والتنويري للجامع الكبير عبر التاريخ جدير بالـدراسة والتحليل والتوثيق للأجيال وحياة العلماء العلمية والتعليمية تستحق التفاتة من الباحثين في الداخل والخارج إن أرادوا بحق أن يعرفوا الأنموذج الأرقى في العلم النافع والوعي الصحيح والفكر المستنير الذي يجعل من الإنسان مفتاح خير وداعية بناء لا هدم ومصدر رحمة لا نقمة وصاحب فقه للواقع غير متأثر أو مبال بأهواء ورغبات سلطان أو زعيم.
ووسيلة الحفاظ على كل هذا الإرث العظيم هو إحياء الهجر العلمية أو الجامعات العلمية الشرعية بتعبير العصر وعلى رأسها وفي مقدمتها الجامع الكبير بصنعاء والإسهام في إزالة كل العراقيل والمعوقات الحقيقية والمصطنعة والجلوس مع القائمين عليه من العلماء المتفرغين ودراسة سبل النهوض والارتقاء بعلمائه وطلابه وإدارييه والمشرفين عليه والمهتمين بإنجاح رسالته العظيمة والتعاون في وضع الخطط وتقديم الرؤى التي تسهم في إعادة الموقع الروحي والعلمي في شتى العلوم و الفنون والتخصصات والمجالات الإسلامية التي كان لها حضورها التاريخي في هذا الجامع.
آن الآوان للجهات الرسمية أن تعمر هذا المسجد وكل المساجد كما أراد الله وأن تكون بالمستوى المطلوب والمرغوب والمشروط من الله لا من السلطات السياسية قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة : 18 ، 19] فهذه هي مواصفات ومؤهلات العامرين لمساجد الله والقائمين على بيوته الذين يتوجهون بجهدهم وسعيهم إلى الله غير مبالين بضغوط المصالح السياسية ولا تتأثر أعمالهم في هذا المجال المقدس بالانتماءات الضيقة لأن ولاءهم الأول هو لله وحده قبل كل أحد ومبتغاهم في الحياة هو إرضاؤه والتقرب إليه وطلب رضاه واستنقاذ العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وتنوير الشعوب والأمم بما لهم وما عليهم وما ينتظرهم في عاجل الحياة وآجلها وكيف يجب أن يكونوا وتكون حياتهم وما هو دورهم في الحياة وكيف يكونون خير أمة أخرجت للناس وخير شهود على الأمم قال تعالى{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } فلا إقامة للشهادة وإبلاغ للحجة وتأدية للأمانة وعبودية خالصة وكاملة لله رب العالمين وإقامة للعدل والخير ولا طريق للفلاح إلا بوجود رجال رساليين واعين متسلحين بالإيمان والحكمة والفقه يكونون في مقدمة الصفوف في السلم والحرب ومبادرين إلى الإصلاح والتغيير وبيان الحق وإقامة العدل .وكل هذه القيم والأخلاق هي المشروع الرباني الإلهي وطالما كانت ومازالت حلم المستضعفين وتحقيق هذا الحلم صار ممكنا ومتاحا وقريبا لا سيما بعد ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر ثورة المستضعفين المستبصرين.
وإقامة هذا المشروع وتحقيق هذا الحلم التاريخي والاستراتيجي صار بأيدي أصحاب القرار الذين سيجنون ثمرته ويكتسون بشرفه وفضله وتنالهم بركته في الدنيا والآخرة إن قاموا بواجبهم أمام الله تعالى حق القيام وجعلوه أولوية من أولوياتهم كحاجة ماسة أو يحصدون الوزر ويكتسون ثوب التفريط والإهمال ويكونون كمن سبقهم فيتحملون وزر التفريط وعدم الشعور بالمسؤولية في تحقيق هذا الهدف الأسمى الذي أرسل من أجله الأنبياء وهو بناء الإنسان بناء يؤهله لأن يكون خليفة الله في الأرض يعمرها بالعلم والوعي والأخلاق و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بعلم ووعي وبصيرة.
آن لكل إيرادات الجامع الكبير الوقفية على مستوى الجمهورية اليمنية عموما وعلى مستوى العاصمة صنعاء خصوصا أن تصرف في مصارفها وتسهم في تحقيق مقاصدها التي عناها الواقفون.
آن لها أن تتحرر من تحكم السلطة ونفوذ الساسة ومصالح السياسة وتصير إلى جهة أمينة ورعة وواعية لتسهم في تأسيس بنيان جامعة عريقة على مستوى الداخل والخارج كمشروع استراتيجي تؤسس نواته ويحفر بنيانه للأجيال القادمة.
وآن أن تفتح ملفات الفساد ومحاسبة كل متلاعب بأموال الوقف ومغتصب له وتسترد الأموال المنهوبة ممن سطو عليها لعقود من الزمن وتصرف لما أوقفت له وتستثمر كما يجب
آن أن تشكل هيئة رقابية لمراقبة ومحاسبة كل من سولت له نفسه العبث بمال الله والتلاعب بالوثائق الوقفية وإفراغها من دورها الذي أوقفت له وآن لكل الوثائق والمسودات أن تستثمر وتصرف في ما أوقفها لها الواقفون من المصالح والمنافع وأن يحاسب ويحاكم الفاسدون وعصابات ومافيا النهب المستمر لأموال الأوقاف التي كانت وما زالت على رأس هرم الوزارة.
آن لقيادة الثورة المباركة أن تخصص جزءا من هممها وهمومها ووقتها ومتابعتها لإقامة هذا المشروع وإحياء هذا الدور ويكون لها كلمة الفصل أمام كل العراقيل والمبررات الباردة سواء على المستوى الحكومي أو غيره .
على القائمين على الأوقاف عموما وعلى أوقاف الجامع الكبير على وجه الخصوص ان يستوعبوا خصوصية الوقف وقدسيته ومقاصد الواقفين وأن يولوا الجامع الكبير اهتماما خاصا واستثنائيا بناء على موقعه الروحي ورمزيته الاستثنائية وموقعه الفريد الذي لم يعط حقه من الرعاية والاهتمام والريادة والصدارة.
هذا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم يمكن من خلاله أن يخاطب أهل اليمن العالم ويؤثروا فيه ويعكسوا الصورة المشرقة من خلاله عن الإسلام ويقيموا الحجة على كل دعاة الفتنة والفرقة وحملة المشاريع التكفيرية التدميرية التي تشوه الإسلام وتعيق توسعه وانتشار رحمته ورسالته العالمية.
إن وضعية الجامع الكبير الحالية لا تليق بأهل اليمن ولا ترتقي إلى المستوى المطلوب والمؤمل منه ولا تترك في الزائر له من الداخل أو الخارج الأثر والدور الروحي والتربوي المنشود والمرغوب والعميق.
إن هذا الغياب والتغييب يستوجب من القائمين عليه والمسؤولين عنه على مستوى الأفراد والهيئات العلمية الخاصة والجهات الحكومية الرسمية المعنية توفير كل وسائل النهوض والارتقاء و التعامل بمسؤولية أمام الله والأجيال والتاريخ من خلال توفير كل الإمكانيات وتذليل كل الصعاب لإقامة هذا المشروع والتخطيط الاستراتيجي لتحقيق الهدف الرسالي والروحي والتربوي لهذا المسجد المقدس .
تراكم الإهمال المتعمد والممنهج يستوجب وثبة عاجلة و مراجعة جادة وصادقة لتدارك القصور وإعادة السلطة الروحية والرمزية الدينية لدوره التربوي والتعليمي والسياسي والاجتماعي وأن يكون له صوته المؤثر لا المتأثر وحركته الرسالية البعيدة عن المحسوبية والمحاصصة والمصالح الحزبية والانتماءات الحركية والعلاقات الشخصية بل يكون دوره ورسالته خالصا لله سبحانه وتعالى امتثالا لقوله تعالى{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن : 18] فلا تعظيم ولا تبجيل في بيوت الله إلا لاسمه تعالى ولكلمته سبحانه ودينه عز وجل ومنهج أنبيائه ورسله فلا قدسية أو ترميز لاسم زعيم أو رئيس أو ملك في بيوت الله إلا قدسية وتعظيم ملك الملوك قال تعالى{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
إن إحياء الدور التنويري للجامع الكبير يعني إحياء اليمن أرضا وإنسانا من خلال إعداد وتأهيل مخرجات دينية تتسلح بالوعي والحكمة وتتميز بسعة الأفق وتقدر على التأهيل والبناء واستيعاب القضايا والتعامل مع النوازل ببصيرة العالم الرباني وعمق الفقيه الألمعي الذي يؤثر في الواقع ولا يتأثر فيه ويكون في قلب الأحداث والمستجدات صاحب رأي ثاقب وعقل مستنير يشق أمواج الفتن بنور القرآن ويسقط أحكامه على الواقع بملكة المفتي الورع والمفكر المسدد.
كل هذا الهم والهدف آن أوانه وحان السعي في تحقيقه وتأسيس بنيانه من خلال لفتة جادة من قيادة الثورة ومتابعة مستمرة وتنسيق دائم مع وزراة الأوقاف المعنية والمسؤولة بدعم وتمويل وتشجيع هذا المشروع الممكن والمعقول لا سيما مع وجود أموال وقفية طائلة مخصصة لمثل هكذا مشروع.
صيحة نطلقها من رابطة علماء اليمن وعبر مجلة الاعتصام لعل المعنيين بسماعها أن يسمعوها متمنين وآملين لهم أن يكونوا من الذين (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وينقلونه إلى واقع ويسعون فيه حق السعي لإحياء اليمن بهذا المشروع العظيم
ونسأل الله تعال بصدق ألا يكونوا ممن قال الله فيهم {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
سائلين الله جميعا أن نكون من أهل الاستجابة لله ولرسوله عندما يدعونا وينادينا إلى أن نستجيب له في كل ما يحيينا وهذا المشروع العظيم مما يحيي الأمة قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
والجهل والتجهيل أعظم فتنة وبلوى فما عصي الله بأعظم من الجهل وما غرر دعاة الفتنة من الوهابية والإخوان على شعبنا وأمتنا إلا بسبب غياب او تغييب هذه المشاريع الاستراتيجية.