التاريخ يصنع وعينا (29): بين ثورة الإمام زيد .. وثورة اليمنيين (5-7)
حمود عبدالله الأهنومي
تعرض يوميا شاشات التلفزة مشاهدَ حية عن المرأة، جميعها تُشْعِرُ بالفخر والقوة، ويتناقل المجتمعُ أخبارا في مواجهتها للعدوان بشكلٍ لا يكاد أن يُصَدَّق لولا أننا نراها عيانا بيانا، ولولا أننا نرويها عن الثقات، حتى أن السيد القائد عبدالملك الحوثي نفسه انبهر بمواقفها، وأشاد بها أيما إشادة، فكيف كانت المرأة في ثورة الإمام زيد عليه السلام، مقارنة بها في هذه الثورة العظيمة والتي لا زالت المرأة تعيش يوميا تفاصيلها الكثيرة .. هذا ما ستتحدث عنه هذه الحلقة تحت العنوانين التاليين:
6- المرأة .. كنزُ التضحيات وجبلُ الصبْر
تنوِّع اليمانية العظيمة اليوم من أبواب جهادِها، فهي أم الشهيد، والشهيدين، والثلاثة، والأربعة، وهي أخت الشهيد، وبنته، وزوجته، وهي المربِّية للرجال، والمنفِقة للمال، والحارِسة للأخلاق والأجيال، والمتدرِّبة على السلاح، والضاربة أعلى الأمثلة في الصبر والصمود والتحدي والمثابرة والمبادرة، وهي التربوية، والدكتورة، والشاعرة، والكاتبة، والإعلامية، والأكاديمية، والطاهية لطعام المجاهدين، والكافلة لأيتام الشهداء الأكرمين، والراعية لأبناء المجاهدين، والحاضرة بفاعلية عجيبة ومؤثرة في ساحات الثورة وميادين العطاء، بل باتت المرأة تطالب بإشراكها فعليا في المواجهات العسكرية، وأصبح لدينا الآلاف المؤلَّفة من المتدرِّبات على السلاح، واللائي حملْنَ على عاتقهن مسؤوليةَ الدفاع وحفظ الأمن، وبات العدو في الداخل والخارج يَحْسِبُ للمرأةِ اليمنيةِ الثائرة والبطلة ألف حساب.
وهذا ليس بعيدا عما كانت عليه المرأة في ثورة الإمام زيد فقد شارَكَت المرأة الكوفية في تلك الثورة مشاركة فعالة، ولا سيما تلك المرأة التي تعود لأصولٍ يمنية، وتبيِّن رواياتٌ عديدةٌ أنها اقتحمت مجالاتٍ متنوِّعة في المشاركة في هذه الثورة العظيمة، ومنها:
أ-تقوية الثورة
بعد أن استشهد الإمام زيد أخذ يوسفُ بن عمر الوالي الأموي على الكوفة «امرأة قوّتِ الإمامَ زيداً على أمره فأمر بها أن تُقطَعَ يدُها ورجلُها، فقُطِعَتْ يدها ورجلها وتُرِكَتْ تنزِف حتى ماتت، ثم ضرب عنق زوجها».
هذه الرواية مع روايات أخرى بعضها سيأتي تبيِّن أنه كان لهذه المرأة دورٌ مهم في تقوية الثورة وإعانتها بالدعم بالمال، وتحفيز همم الرجال، حتى أنه ليأتي دورُ زوجها دوراً تابعاً لدورها، كما يعاقَبُ بالتَّبَع لعقوبتها؛ لعظيم أثرها في تلك الثورة.
ب-الاستعداد للمشاركة الفعلية في القتال
روى البلاذري أنه «عرَض نساءٌ من نساءِ أهلِ الكوفة على الإمام زيد أن يَخْرُجْنَ فيقاتلْنَ معه .. فقال: ليس على النساء ولا على المرضى قتال»، أي أن المرأة الكوفية المؤمنة كانت مستعِدَّة للمشاركة في الأعمال العسكرية المباشرة في نصرة ثورة الإمام زيد بن علي، وهي قضية خارقة لعصرها، حيث لم نشهد نساءً مقاتلات بشكلٍ جماعي يعرضْنَ مشاركتَهن العسكرية كمثل هذه الحادثة.
ولم يكن رفض الإمام زيد بن علي لقتالهن، إلا لأن هذه المسألة لم تكن معهودة اجتماعيا، وتحتاج إلى تمهيد، وإلى تهيئةٍ مجتمعية، ولأنه شرعا لا يتحتم الجهاد الحربي عليهن إلا في حالة الدفاع، ومع ذلك فإن تجنيد العدوان السعودي الأمريكي لنساءٍ في بعض الأعمال العدوانية مثل التجسُّس، وزرع الألغام، والشرائح، وغير ذلك، ولأننا في معركة دفاعية توجِب على جميع فئات المجتمع الاشتراك فيها بما فيهم النساء، فإنه يجب أن نأخذ هذا الأمر على محمل الاستعداد، وهذا ما أثبتَتْه المرأة اليمنية المسلمة خلال هذه الأربعة الأعوام من العدوان، وشاركت في مجالات جهادية عديدة، لها أثرٌ بالغٌ في مجريات المعركة.
وإذا كان نسوتنا على استعدادٍ للدفاع عن بلدنا، فما أحرى (المحصورين) في البيوت والمساجد والمكاتب أن يكون لهم أيضا موقفٌ مناهضٌ للعدوان.
ج-تغطية تحركات الثائرين والتضحية بالغالي والنفيس
لمَّا رُمِي الإمام زيد بذلك السهم الذي خالط دماغه، أمر الإمامُ زيدٌ أصحابَه أن يحملوه إلى دارِ امرأةٍ همدانية، أي من أصل يمني.
دار تلك المرأة الهمدانية بحسب الرواية الأخرى في الأمالي الإثنينية كانت من دور أرحب وشاكر القبيلتين الهمدانيتين المعروفتين، وهذا يبين مشاركة النساء والرجال اليمنيين في تلك الثورة الإسلامية العظيمة، وأن المرأة فتحت دارها لتكون مقرات للثورة، وأنها كانت مستعدة للتضحية من أجل الدين والإسلام بكل ما تملك.
وهذه امرأةُ يمانية أخرى تنتمي إلى قبيلة الأَزد اليمانية، في ثورة الإمام زيد عليه السلام كشفَتْ عن مقدارِ وعيِها وعقلِها ورزانتها وقوة منطقها ثم صبرِها اللامحدود، كما عهدنا اليمانيات اليوم وهن يقفْنَ بجدارة عظيمة أمام المعتدين الظالمين، حيث بعث يوسفُ بن عمر الطاغية الأموي بعد استشهادِ الإمامِ زيد إلى تلك المرأة الأزدية والتي كانت أمَّ امرأةِ الإمامِ زيد عليه السلام، فلما حُمِلَت إليه قال لها: أزوَّجْتِ زيداً ؟ قالت: نعم زوجتُه وهو سامعٌ مطيعٌ، ولو خطب إليك ابنتَك إذ كان كذلك لزوَّجْتَه.
هكذا خاطبته خطاب الحجة البالغة، والقوة الدامغة، فماذا كان موقف الوالي الحقير والطاغية الذي نراه اليوم متمثلا في (ابن زايد)، و (بن سلمان)، وأضرابهما؟
لقد قال ذلك الشقي لجنوده: شقوا عليها ثيابها، فجلدها بالسياط وهي تقرِّعه، وتقول له: «ما أنت بعربيٍّ، تُعَرِّيني وتضربُني لعنك الله، فماتت تحت السياط ثم أمر بها فأُلْقِيَتْ في العراء، فسرقها قومُها ودفنوها في مقابرهم».
وكان قد هدم دارها، كما يفعل خلفُهم اليوم تماما، يهدمون الديار على رؤوس أهلها وهم نائمون.
وهكذا نرى تراث وجذور الداعشية الوهابية في الممارسات الأموية؛ ولهذا لا غرابة أن يدافِعَ بعض مشائخ الوهابية الإخوانية عن السلطة الأموية، كالشيخُ القرضاوي في كتابه (الدولة الأموية المفترى عليها)، ومثله الزنداني، وصعتر وأمثالهم في محاضراتهم ولقاءاتهم، ويسمونها (الدولة العربية)، كما يسمون الآن السعودية: (دولة العرب)، رغم أن هذه المرأة فضحت عروبتهم، كما فضحتها بنتُ اليمن اليوم، وتماما مثل فعل ذلك الوالي الحقير مع المرأة السابقِ ذكرُها، بقطعِ يدِها، ورِجْلِها، وتَركِها تتشحَّط بين دمائها حتى ماتت، ألا يأتي كثرةُ أعدادِ الشهيدات من النساء وأطفالِهن اليوم نتيجة غارات حُقراء اليوم، في سياقٍ واحدٍ مع ممارسات الوالي الأموي؟!
أما نصيب «امرأةٍ أشارت على أمها أن تُؤوي ابنةَ الإمامِ زيد» بعد استشهاد والدها فقط مجردَ إيواء فقد كان «خمسَ مئةِ سوطٍ»، وأما من زوَّج ابنتَه ليحيى ابن الإمام زيد، وهو عبد الله بن يعقوب السلمي والذي كان أحد أنصار الدولة الأموية، وقد أثنى على طاعته لها حتى هذا الوالي الحقير، لكن لأنه ارتبط بعلاقة مصاهرة مع أسرة الإمام زيد فقد جيء به مكبَّلا يرسف في القيود، فقال له يوسف: ائتني بابنتك. قال: وما تصنع بها جارية عاتق في البيت. قال: أقسم لتأتيني بها أو لأضربن عنقك. فأبى أن يأتيه بها، فضرب عنقه، وأمر العريف (شيخ القبيلة) أن يأتيه بابنة عبد الله بن يعقوب فأبى، فأمر به فدُقَّت يدُه ورجلُه.
أما الدرسُ الذي يجبُ أن نعيَه من هذا فهو أن ملة الظالمين الحقراء واحدة، وطريقتهم ومنهجيتهم لا تختلف، وسوف لن يتخلَّف هؤلاء عن ممارسة ما هو أشنع مما فعله أولئك لو أتيحت لهم الفرصة لا سمح الله؛ وهو الأمر الذي يحتّم على أحرار الأمة التحرك الفاعل حتى لا يصل الناس وأعراضهم إلى هذا الحد؛ كون التجربة التاريخية وتراكماتها الكثيرة تدلنا بوضوح على نتائج التفريط في مثل هذه الأمور.
وأما إحدى إماء الإمام زيد فقد أخذوها، وَقَطَعُوا ثَدْيَهَا فَمَاتَتْ فِيْ ذَلِكَ رَحَمْةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا.
ولهذا تحرّكت امرأة اليوم في اليمن حركة جادّة في مواجهة الظالمين الحقراء، حتى لا تتكرر مآسيهم لا سمح الله.
د-إعلامية تنقل أخبار الثورة وأدبياتها إلى الأجيال اللاحقة
وتؤدي امرأتنا اليوم دورا إعلاميا رائدا، كما كانت تلك المرأة الكوفية الثائرة تنوِّع من جهادها، فتولى بعضُهن وظيفة (إعلامية) تروي للأجيال أدبيات الثورة العظيمة، وما الذي جرى فيها، وهو دورٌ ما أروعَ إعلامياتنا اليوم وهن يقُمْنَ به أحسنَ قيام، وتحضُرُني أسماءُ عددٍ كبيرٍ منهن، أكنُّ لهن التقدير والشكر جميعا.
في ثورة الإمام زيد .. يقول الراوي: «حدثنا زكريا بن يحيى الهمداني قال: حدثتني عمتي عزيزة بنت زكريا عن أبيها قال: أردْتُ الخروجَ إلى الحج فمررْتُ بالمدينة، فقلت: لو دخلْتُ على زيد بن علي فدخلْتُ فسلَّمْتُ عليه فسمعْتُه يتمثَّل بقول الشاعر:
ومن يطلبِ المالَ الممنَّع بالقنا*** يعِشْ ماجدا أو تخترِمْه المخارمُ
متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارما***وأنفا حميًّا تجتنبْك المظالمُ
وكنتُ إذا قومٌ غزوني غزوتُهم***فهل أنا في ذا يال همدانَ ظالم».
فهنا سجلت تلك المرأة المسماة (عزيزة) ما الذي كان يدور في خلد الإمام زيد، وفكره الثوري، واستعداده الجهادي النفسي والتربوي لخوض معركة الإسلام، من خلال روايتها لهذه الأبيات.
7- المرأة .. ووحيدُها المجاهِد الشهيدُ
الدرسُ العظيمُ الذي يتكرَّر في مسيرة الحق منذ آدم عليه السلام وإلى يومِ البعث هو ما رواه الإمام المرشد بالله في أماليه الإثنينية، بأن امرأة من خراسان (منطقة شرق إيران وغرب أفغانستان اليوم) كانت من أشدِّ الناس حبا لأهل البيت سلام الله عليهم، وكانت لا تُنجِب ولدا، فطلبَتْ من زوجِها أن يحُجَّ بها إلى مكة، فتعلّقت بأستار الكعبة، وسألتِ اللهَ أن يهَبَ لها غلامًا ذكرًا تقرُّ به عينُها، قالوا: فوالله ما رجَعَتْ حتى علِقَتْ، فمكثَتْ حتى وضعَتْه غلاما كما طلبت من الله، فلم تزل تربِّيه، وتدلِّلُـه، وتعلِّمُه، وتثقِّفه، حتى كبُر ونشأ على أحسن طريقة، وأفضل تربية، فلما ثار الإمام زيد بن علي في الكوفة، وكانت قد نزلتْ فيها «جَهَّزَتْهُ بِأَحْسَنِ مَا تَجَهَّزَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ، وَاشْتَرَتْ لَهُ فَرَساً، فَحَمَلَتْهُ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَتْ لَهُ، وَوَجَهَتْهُ إِلَى الإمام زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَاهَدَ معه، إلى أن استُشْهِد معه».
ثم ماذا؟
قالوا: ثم رأت فِيْ مَنَامِهَا كَأَنَّ رُوَاقاً قَدْ ضُرِبَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَأَنَّ مُنَادِياً يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: أَيْنَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ؟ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ مَعْصُوُبُ الرَّأْسِ فِيْ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَخَرَجَ أَصْحَابُهُ مُعْتَمِّيْن على الرُّؤوس، فِيْ أُزُرٍ وَأَرْدِيَةٍ، فَقِيْلَ لَهُ: يَا زَيْدُ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى مَاذَا قَاتَلْتَ الْقَوْمَ؟ قَالَ: قَاتَلْتُ الْقَوْمَ كَانُوا ظَالِمِيْنَ.
ثُمَّ يُنَادِي الْمُنَادِي ثَانِيَةً: يَا زَيْدُ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى مَاذَا قَاتَلْتَ الْقَوْمَ؟ قَالَ: قَاتَلْتُهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا فَاسِقِيْنَ.
قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي الثَّالِثَةَ يَا زَيْدُ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى مَاذَا قَاتَلْتَ الْقَوْمَ؟ قَالَ: قَاتَلْتُهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِيْنَ.
فَأَجَابَهُ الْمُنَادِي: قَدْ أَفْلَحَ زَيْدٌ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ أَفْلَحَ زَيْدٌ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ انْتَبَهَتْ، قال ابن أخيها راوي القصة: فَحَدَّثَتْنَا بتلك الرؤيا، وقَالَ: كَانَتْ إِذَا ذَكَرَتْ رُؤْيَاهَا فَرِحَتْ بِهَا فَرَحاً عَظِيْماً.
ما أقواها من امرأة تقية .. وأوثقها بما عند الله عما في هذه الدنيا ..
واليوم أتذكر في هذا المقام نساءً يمانيات كريمات عظيمات، أمهات وأخوات وزوجات وبنات، وهن يودِّعن أحبابهن، وربما كان أحدهم وحيد أمه أو أخته أيضا، يحفِّزْنهم إلى المعركة للقتال والجهاد ضد هذا العدوان اللعين، المكوَّن من ظلمةِ وفساقِ العرب، وأوليائهم من اليهود والنصارى في الشرق والغرب، فيغادرها إلى ربه وهي راضية عنه مرضية.
ألا ما أسعدكن يا بنات اليمن، يا أمهات وزوجات وبنات وأخوات الأحرار من هذا الشعب، وأنتن ترين في تلك المرأة الخراسانية مثلا أعلى تقتفين أثرها، مؤمنة صابرة.
-وتقدّم الشهيدَ والاثنين والثلاثة .. من البيت الواحد
استُشْهِد مع الإمام زيد كثيرٌ من الشهداء، بل إن بعضَ الشهداء كانوا من أهل بيتٍ واحدٍ، فأولئك الشهداء: َنُعْمَانُ، وَأَبُو النُّعْمَانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي النُّعْمَانِ، كانوا من أهل بيتٍ واحد استشهدوا جميعا في معركة الفضيلة التي خاضها الإمام زيد، كما نخوضها نحن اليمانيين اليوم، وأولئك نوحٌ، وَمَنْصُوْرٌ، وَحَمْزَةُ، ثلاثة إخوة شهداء كلهم بَنُوْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، أحدُ أهم رجال العلم والمعرفة والفكر من أنصار وتلامذة الإمام زيد سلام الله عليهم.
ألا ما أعظمَكِ أيتها المرأة المؤمنة قديما وحديثا، وما أقوى احتمالك، وما أروع عطائكِ، وما أشد اصطباركِ!!
.. وللموضوع بقية ..